ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

رحلة المودعين في مواجهة نظام محصّن: من ينقذهم من لعبة المصارف؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

منذ خريف 2019، فُرضت قيود مصرفية غير مقوننة على السحب والتحويل، فيما ظلّت مشاريع قانون «الكابيتال كونترول» عالقة في البرلمان حتى اليوم. أُقفلت المصارف فجأة ثم أعادت فتح أبوابها تحت شروط خانقة: سقوف لا تتجاوز بضع مئات من الدولارات شهريًا، منع للتحويلات إلى الخارج، وابتكار تصنيفات مثل الـ«فريش دولار» والـ«لولار». على الورق، بقيت الودائع تقارب الـ93.5 مليار دولار، لكن المودعين لم يتمكّنوا إلا من الوصول إلى جزء ضئيل من أموالهم، وبشروط مذلّة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“شعور بالذلّ، بالقمع. بعد 26 سنة من التعب لجمع ثمن بيت لأولادي، انهار كل شيء. حتى فكرة الرجعة إلى لبنان انكسرت. حسّيت إنو حطّموني”، تقول مريم (اسم مستعار)، إحدى المودعات اللواتي حُرمن من أموالهن مع اندلاع الأزمة الاقتصادية في لبنان عام 2019. 

منذ خريف ذلك العام، دخل لبنان في أزمة اقتصادية غير مسبوقة. أُقفلت المصارف فجأة، ثم أعادت فتح أبوابها تحت شروط قاسية: سقوف على السحب لا تتجاوز بضع مئات من الدولارات شهريًا، منع شبه كامل للتحويلات إلى الخارج، وابتكار تصنيفات جديدة للمال مثل “الفريش دولار” و”اللولار”.

 وعلى رغم أن إجمالي الودائع كان يُقدَّر رسميًا بنحو 93 مليار دولار في بداية الأزمة، إلا أن المودعين لم يتمكّنوا من الوصول إلا إلى جزء ضئيل منها، غالبًا عبر إجراءات مذلّة ومعقّدة. 

على مدى السنوات الأخيرة، تَعمَّق الانهيار بفعل غياب قانون الكابيتال كونترول، الذي طُرح مراراً في البرلمان ولم يُقر حتى اليوم، ما جعل المصارف تفرض قيودها بشكل عشوائي عبر تعاميم مصرف لبنان وإجراءات غير مكتوبة. ومع كل تعميم جديد، تعدّدت أسعار الصرف وتكرّست الفجوة بين الأرقام على الورق وحقيقة الأموال المتاحة على الأرض، فيما بقي المودعون الحلقة الأضعف في معادلة تُدار بتسويات مؤقتة ومصالح متشابكة.

في قلب هذه الفوضى، تتكرّر قصص آلاف اللبنانيين الذين وجدوا أنفسهم فجأة محرومين من مدّخراتهم/ن. مريم واحدة منهم/ن. فتحت حسابها في بنك “MED” عام 2003 بعد وفاة والدها، ليكون وسيلة لدعم والدتها المقيمة في لبنان فيما كانت هي تعمل في الخارج.

على مدى سنوات عملها في الخليج وأوروبا، كانت تضع مدخراتها في المصرف على أمل العودة يومًا والاستثمار في بيتٍ يؤمّن مستقبل العائلة. تقول: “كنت أستعمل الحساب لشراء أدوية أمي أو لتأمين الكاش عند سفرنا. المبلغ لم يكن كبيرًا، لكنه كان أساسيًا لعائلة مثلنا. وكنا نحضّر لاستخدامه كدفعة أولى لبيت جديد”. 

لكن مع انفجار الأزمة عام 2019، اصطدمت بواقع قاسٍ: “من آب/ أغسطس حتى تشرين الأول/ أكتوبر كانوا يبعثون حججاً وأعذاراً، وفي النهاية قالوا ببساطة: آسفين، ما فينا. هيدا الخبر دمّرنا”. لم يكن الأمر مجرّد منع من السحب، بل صدمة كسرت مشروع حياة. فقد اضطرت العائلة إلى الاقتراض مجددًا، تراكمت الديون، وتوقف أولادها عن متابعة دراستهم الجامعية في أوروبا. “صرنا عايشين ديون وشغل زيادة. حياتنا انقلبت كليًا”.

“لكن الإهانة لم تتوقف عند خسارة المال، بل تجلّت في طريقة تعامل المصرف معها: “من الكاشير للمدير إلى رجال الأمن، كلهم غطّوا على السرقة. بيذلوك بالورق والتواقيع، وكأنك عم تشحد مصرياتك”. وتضيف أنّ التمييز كان فاضحًا: “في ناس عندهم واسطات طلعوا كل مصرياتهم. في لبنانيين ببريطانيا سحبوا أموالهم، وفي سماسرة تعاونوا مع البنوك وأخذوا حصص من ودائع الناس المعتّرين”. 

في تشرين الأول/ أكتوبر وتشرين الثاني/ نوفمبر 2019، كانت مريم من أوائل من تقدّموا بشكاوى قضائية بمساعدة “رابطة المودعين”، لكن المسار لم يكن سهلًا: “عملنا جلسات، وكلنا محامي عبر رابطة المودعين ودفعنا المصاريف التي يجب أن تدفع للمحاكم، وبالأخير البنك قدر يوقف المحاكمة. خسرت زيادة، بس مقتنعة إنه الطريق الوحيد هو القضاء”. بالنسبة إليها، هذه التجربة كشفت كيف وُضع المودعون في مواجهة مؤسسات مالية محصّنة بحماية سياسية وقانونية. أما عن التعاميم والسقوف التي أصدرها مصرف لبنان، فتصفها بأنها “سرقة جديدة”: “اللي ودائعهم تحت 100 ألف لازم يقبضوا فورًا. أما اللي فوق 100 ألف فلازم تكون لهم خطة تقسيط عادلة تحت رقابة القضاء. أما الأموال الوسخة فلازم يتحققوا منها”.

بعد هذه السنوات، تقول مريم إنها فقدت أي ثقة بالنظام المصرفي: “سكرت كل حساباتي وما بقى وثقت بأي بنك بالعالم. حتى ما عندي credit card. كسروني. صورة المغترب انكسرت: الناس بتفكر إنو عايش على جبل دهب، بس الحقيقة نحن ندفع ضرائب بالغرب ومنتعب لنعيل أهلنا”. وعلى رغم كل الخسارات، تحاول التمسّك بخيط أمل: “أنا إيجابية وبآمن إنو لازم يكون في طريقة سليمة لإرجاع الحقوق. الأموال النظيفة لازم ترجع. اللي فوق الـ100 ألف تكون لهم خطة هيكلية، أما اللي تحت الـ100 ألف لازم يرجعوا فورًا”.

من شيك مصرفي  إلى نزاع قضائي طويل

يروي أحمد “اسم مستعار” تجربة قاسية مع حساب جدّه الذي كان وسيلة لإرسال الأموال إليه وهو يتابع دراسته في الخارج. فجأة، ومع القيود المصرفية غير المشرّعة بقانون، صار السحب ممنوعًا. يقول: “رحنا نسحب المصاري، قالولنا ممنوع، وبدّن يعطونا شيك مصرفي. نحن ما قبلنا، فسكّروا الحساب”. وبعدها أرسل المصرف إشعارًا عبر كاتب العدل، لكن العائلة رفضت استلامه، معتبرة أن ما حصل أشبه بعملية ابتزاز منظّم.

الخلاف تحوّل إلى مواجهة مباشرة داخل الفرع: “مدير البنك حاول منع والدتي من الدخول وطردها، على رغم أنها كانت تملك وكالة عن جدي. حصل توتر كبير، لكن في النهاية رفعنا دعوى وربحناها”. غير أنّ المصرف استأنف القرار، لتدخل القضية في دوامة قضائية طويلة شبيهة بمئات القضايا العالقة بين مودعين وبنوكهم، إذ يربح المودعون جولة أولى ثم يواجهون استئنافات لا تنتهي. ومع ذلك، استطاعت عائلة أحمد، بعد جهد طويل، أن تربح القضية في النهاية.

الأثر على أحمد كان كبيرًا، إذ إن تسديد أقساط دراسته في الخارج كان يعتمد على هذا الحساب: “كنت عايش برّا والمصاري مخصصة للدراسة. اضطرّينا نلاقي طرق بديلة عبر الأقارب، وكنت طول الوقت بقلق: بلكي ما وصلني شي؟”. هكذا تكرّست حالة انعدام اليقين التي عاشها عشرات آلاف الطلاب والمغتربين، ممن خسروا فرصة استكمال تعليمهم بعدما هربوا أصلًا من محدودية فرص التعليم والعمل في لبنان.

المبادرات والتحركات: من الشارع إلى الجمعيات

منذ الأيام الأولى للأزمة، لم يكتفِ المودعون بالانتظار. خرجوا إلى الشارع في وقفات احتجاجية أمام المصارف، بعضهم اقتحم الفروع واعتُقل وواجه القضاء، فيما لجأ آخرون إلى المحاكم أو حاولوا إيصال أصواتهم عبر الإعلام. ومع الوقت، تطورت التحركات وتغيّرت أشكالها: في البداية، كان الشارع هو الساحة الأساسية مع تصاعد الاحتجاجات وإغلاق المصارف، وسُجّلت حالات اقتحام لمصارف من مودعين يطالبون بأموالهم انتهت غالبًا بمواجهات واعتقالات. لاحقًا انتقلت المواجهة إلى المحاكم، حيث رُفعت عشرات الدعاوى ضد المصارف، لكن المودعين اصطدموا بتعثّر المسار القضائي بسبب النفوذ السياسي والمالي الذي عرقل إمكانية محاسبة من تسبّب بسرقة أموال المودعين وجنى حياتهم… ومع مرور السنوات، أخذت القضية بعدًا إعلاميًا وسياسيًا أوسع، فظهرت مبادرات وتنظيمات مختلفة مثل رابطة المودعين و”صرخة المودعين” و”جمعية المودعين”، وتحولت إلى قضية رأي عام وضغط داخلي وخارجي. لكن مع حلول 2024، بات المشهد أكثر تشرذمًا، مع تعدد الجمعيات وتباين خطابها بين من يشدّد على محاسبة المصارف والدولة ومن يخفف من مسؤولية القطاع المصرفي.

المحامي فؤاد الدبس من رابطة المودعين يختصر التجربة بالقول: “رفعنا أكثر من 500 دعوى. ربحنا بعضها في البداية، لكن الاتجاه العام كان الخسارة. لا يمكن أن يُعالج الملف عبر تحركات فردية. المطلوب خطة شاملة وعادلة تعيد هيكلة القطاع وتحدد المسؤوليات بوضوح”. أما الباحث الاقتصادي نزار غانم فيعلّق: “الرابطة التي نمثلها كانت واضحة في موقفها: المودعون ليسوا كتلة واحدة. هذا التسويق بأن “المودعين واحد” هو جزء من حملة المصارف. هناك مودعون صغار تمثلهم رابطة المودعين، وهم أصحاب الودائع الصغيرة والمتوسطة. أما جمعيات أخرى مثل “صرخة المودعين” أو “جمعية المودعين”، فموقفها السياسي برأينا لا يخدم هؤلاء الصغار، بل يخدم المصارف نفسها. لماذا؟ لأنها ترفض التمييز بين أزمة مصرف لبنان، وأزمة الدين العام، وأزمة المصارف، وتحاول تحميل الدولة ـ أي المجتمع عبر الضرائب – معظم كلفة الأزمة. وهذا يخدم إنقاذ المصارف تحت شعار إنقاذ المودعين.

6 سنوات من إدارة الانهيار بالترقيع

منذ خريف 2019، فُرضت قيود مصرفية غير مقوننة على السحب والتحويل، فيما ظلّت مشاريع قانون «الكابيتال كونترول» عالقة في البرلمان حتى اليوم. أُقفلت المصارف فجأة ثم أعادت فتح أبوابها تحت شروط خانقة: سقوف لا تتجاوز بضع مئات من الدولارات شهريًا، منع للتحويلات إلى الخارج، وابتكار تصنيفات مثل الـ«فريش دولار» والـ«لولار». على الورق، بقيت الودائع تقارب الـ93.5 مليار دولار، لكن المودعين لم يتمكّنوا إلا من الوصول إلى جزء ضئيل من أموالهم، وبشروط مذلّة.

وعلى امتداد السنوات التالية، أدار مصرف لبنان الأزمة بتعاميم متتالية بدلًا من خطط إصلاحية واضحة. التعميم 151 (2020) سمح بسحب الودائع بالدولار المحجوز بالليرة على أسعار صرف متدنية مقارنة بالسوق، ما كرّس عمليًا اقتطاعًا من قيمة المدّخرات. التعميم 158 (2021) قدّم نموذجًا للسحب التدريجي عبر دفعات نقدية وجزء آخر بالليرة وفق منصة «صيرفة»، لكنه جاء بشروط معقّدة واستثنى فئات واسعة من المودعين. 

في نهاية العام نفسه، أُصدر التعميم 161 لتغذية المصارف بالسيولة بالدولار وضبط سعر الصرف، قبل أن يُستحدث التعميم 165 (2023) الذي شرّع التعاملات الإلكترونية بالدولار «الفريش»، ما ثبّت ازدواجية «فريش» و«لولار». وأخيرًا، في 2024–2025، توالت تعديلات على التعميمين 158 و166 لرفع سقوف السحب، وصولًا إلى إصدار التعميم 169 (تموز/ يوليو 2025) لتحديد إطار جديد للتعامل مع ودائع ما قبل 17 تشرين.

لكن هذه التعاميم لم تُخفِ الفجوة المالية الضخمة التي تراوحت بين 70 و80 مليار دولار بحسب تقديرات رسمية ودولية. بالنسبة الى الباحث الاقتصادي نزار غانم، لم تكن هذه السياسات سوى وسيلة لنقل الخسائر إلى الناس: «انهارت القدرة الشرائية، ارتفعت معدلات الفقر إلى أكثر من 80 في المئة، وتراجعت قطاعات أساسية مثل الصحة والتعليم. التعاميم لم تكن حلًا بل ترقيعًا، فيما كان المطلوب إعلان إفلاس المصارف وإعادة هيكلة شاملة تحمي صغار المودعين».

هكذا، تحوّل مسار الأزمة إلى إدارة مؤقتة بالتعاميم بدلًا من قوانين واضحة: أسعار صرف متعدّدة، سياسات مرتجلة، وسقوف مجتزأة، فيما بقي المودع الحلقة الأضعف. وحتى مع تعديل قانون السرية المصرفية في 2025 ورفع بعض السقوف، يظلّ السؤال معلقًا: متى سيُحسم توزيع الخسائر بشكل عادل ونهائي؟

خطة السندات: حلّ أم فخّ جديد؟

طرحت الحكومة اللبنانية مقترحات لتغطية جزء من الخسائر عبر تحويل قسم من الودائع إلى سندات خزينة أو سندات مضمونة بالذهب. الهدف المُعلن كان ترميم الفجوة المالية التي تقدَّر بنحو 70 إلى 80 مليار دولار، عبر شطب ما يقارب الـ30 مليار دولار من ودائع المودعين الكبار وتحويلها إلى أدوات دين طويلة الأمد.

لكن هذه المقاربة أثارت جدلاً واسعًا. المحامي فؤاد الدبس يرى أن “تحويل الودائع إلى سندات هو كارثة، لأن الودائع تتمتع بحماية قانونية أعلى. خفضها إلى سندات يعني تضييع حقوق المودعين، ومن سيشتري هذه السندات أصلًا؟ ومن سيضمن قيمتها وهي أقل بكثير من قيمة الوديعة الأصلية؟”.

 أما الباحث الاقتصادي نزار غانم فيعتبر الطرح “هروبًا إلى الأمام”، موضحًا أن إصدار سندات جديدة يعني عمليًا امتصاص ما تبقى من دولارات المودعين بدل إعادة هيكلة حقيقية. بالنسبة إليه، الحلّ يكمن في إعلان إفلاس المصارف وتصفية موجوداتها، لا في تحميل المودعين عبء الإنقاذ بأدوات مالية لا تعيد الثقة ولا المال.

القروض: ضريبة مزدوجة على المقترضين

لم تقتصر معاناة اللبنانيين مع الأزمة المالية على الودائع المحتجزة، بل طاولت أيضًا المقترضين الذين وجدوا أنفسهم في مواجهة غير متكافئة مع المصارف. رواد (اسم مستعار)، 47 عامًا، يعمل في مجال الضيافة ويدير مطعمًا صغيرًا، يروي تجربته لـ “درج ميديا”. احتاج إلى قرض ليساعده على الانتقال وتأثيث شقته، فاقترض من بنك بيروت مقابل ضمانة نقدية (Cash Collateral)، وبدأ يسدّد أقساطه نقدًا بالدولار.

لكن مع اندلاع الأزمة في 2019، تغيّر كل شيء. لم يعد قادرًا على سحب أكثر من 200 دولار وأحيانًا أقل، وكان يقف ساعات في الطابور ليُفاجأ عند وصول دوره بأن “الكاش خلص”. في المقابل، كان المصرف يطالبه بالدفع نقدًا بالدولار الفريش. “سكّرنا القرض على أساس سعر 1500 ليرة للدولار عند كاتب العدل، وكانت السوق السوداء لا تزال منخفضة، لكن المصرف رفض الاعتراف. رفعنا دعوى وربحناها، لكنهم استأنفوا وما زالت القضية عالقة حتى اليوم”.

المفارقة لم تقف عند هذا الحد. إذ يروي رواد كيف عرض عليه المصرف تسوية وصفها بـ”المهينة”، تقوم على شطب جزء من وديعته مقابل إقفال القرض نهائيًا، لكنه رفضها. “أول قاضٍ كان منصفًا، بس بعد خمس سنين ما في حكم نهائي. وبعد تعيين حاكم جديد لمصرف لبنان، حاولوا يصفّوا المبلغ كله من الضمانة النقدية. حتى حساباتي الأخرى جمدوها وما سمحوا لي أستفيد من أي تعميم، ولا سحبت قرش واحد”.

لكن رواد لم يكن وحده. آلاف المقترضين الصغار، من أصحاب القروض السكنية أو الشخصية أو التعليمية، واجهوا معضلة مشابهة: أُجبروا على السداد بالدولار الفريش أو المصرفي، فيما لم يُسمح لهم بالوصول إلى ودائعهم بالعملة نفسها. بعضهم اضطر إلى بيع ممتلكات أو الاستدانة مجددًا لتسديد القروض، فيما آخرون دخلوا في نزاعات قضائية طويلة لم تُنصفهم بعد. وفي المقابل، استفادت شركات كبرى في قطاعات مثل الاتصالات والعقارات من إقفال قروضها الضخمة على أساس السعر الرسمي 1500 ليرة، من دون أن تتحمّل أي خسائر تُذكر.

المحامي فؤاد الدبس يوضح أن الخلل الأبرز كان في غياب العدالة بين المقترضين: “هناك قروض شخصية أو سكنية بسيطة كان يجب أن تُقفل نهائيًا على أساس السعر الرسمي 1500، لكن غالبية المقترضين أُجبروا على التسديد بالدولار النقدي والمصرفي. في المقابل، شركات كبرى أقفلت قروضها على 1500 من دون أن تفعل المصارف شيئًا. هذه فجوة كبيرة بالعدالة تحتاج إلى قانون واضح لمعالجتها”. من جانبه، يربط الباحث الاقتصادي نزار غانم بين أزمة القروض وأزمة الودائع نفسها، معتبرًا أن المقترضين الصغار أصبحوا “الخاسر المزدوج”: فقدوا القدرة على الوصول إلى مدخراتهم وفي الوقت نفسه حُمّلوا أعباء تسديد القروض بشروط مجحفة. ويضيف: “إدارة الأزمة بهذا الشكل عززت الركود التضخمي، وأدّت إلى فقدان عشرات آلاف الوظائف وهروب الرساميل. المطلوب كان منذ البداية إعلان إفلاس المصارف وإعادة هيكلتها، بدل الاستمرار بسياسات ترقيعية تنقل الخسائر إلى الناس”.

في ظل غياب خطة عادلة تعالج الفوارق، ظل المقترضون مثل رواد عالقين في قضايا طويلة الأمد، يدفعون ثمن انهيار لم يشاركوا في صنعه، فيما استفادت الشركات الكبرى والمصارف من ثغرات قانونية وقرارات قضائية متناقضة.

جنى بركات - صحافية لبنانية | 14.11.2025

“ستارلينك” لبنان: ما علاقتها بوزير الاتّصالات وبالشبهات المرتبطة بمعاقَب أميركياً؟ 

مع دخول "ستارلينك" إلى لبنان، برزت إشكالية حول مساعي الشركة الأميركية للتعاقد مع "Connect Services Liberia" كموزّع لخدمات "ستارلينك" في لبنان، من دون فتح باب المنافسة بين الشركات الأخرى، وهي الشركة التي سبق أن ترأّسها وزير الاتّصالات الحالي شارل الحاج. 
14.10.2025
زمن القراءة: 9 minutes

منذ خريف 2019، فُرضت قيود مصرفية غير مقوننة على السحب والتحويل، فيما ظلّت مشاريع قانون «الكابيتال كونترول» عالقة في البرلمان حتى اليوم. أُقفلت المصارف فجأة ثم أعادت فتح أبوابها تحت شروط خانقة: سقوف لا تتجاوز بضع مئات من الدولارات شهريًا، منع للتحويلات إلى الخارج، وابتكار تصنيفات مثل الـ«فريش دولار» والـ«لولار». على الورق، بقيت الودائع تقارب الـ93.5 مليار دولار، لكن المودعين لم يتمكّنوا إلا من الوصول إلى جزء ضئيل من أموالهم، وبشروط مذلّة.

“شعور بالذلّ، بالقمع. بعد 26 سنة من التعب لجمع ثمن بيت لأولادي، انهار كل شيء. حتى فكرة الرجعة إلى لبنان انكسرت. حسّيت إنو حطّموني”، تقول مريم (اسم مستعار)، إحدى المودعات اللواتي حُرمن من أموالهن مع اندلاع الأزمة الاقتصادية في لبنان عام 2019. 

منذ خريف ذلك العام، دخل لبنان في أزمة اقتصادية غير مسبوقة. أُقفلت المصارف فجأة، ثم أعادت فتح أبوابها تحت شروط قاسية: سقوف على السحب لا تتجاوز بضع مئات من الدولارات شهريًا، منع شبه كامل للتحويلات إلى الخارج، وابتكار تصنيفات جديدة للمال مثل “الفريش دولار” و”اللولار”.

 وعلى رغم أن إجمالي الودائع كان يُقدَّر رسميًا بنحو 93 مليار دولار في بداية الأزمة، إلا أن المودعين لم يتمكّنوا من الوصول إلا إلى جزء ضئيل منها، غالبًا عبر إجراءات مذلّة ومعقّدة. 

على مدى السنوات الأخيرة، تَعمَّق الانهيار بفعل غياب قانون الكابيتال كونترول، الذي طُرح مراراً في البرلمان ولم يُقر حتى اليوم، ما جعل المصارف تفرض قيودها بشكل عشوائي عبر تعاميم مصرف لبنان وإجراءات غير مكتوبة. ومع كل تعميم جديد، تعدّدت أسعار الصرف وتكرّست الفجوة بين الأرقام على الورق وحقيقة الأموال المتاحة على الأرض، فيما بقي المودعون الحلقة الأضعف في معادلة تُدار بتسويات مؤقتة ومصالح متشابكة.

في قلب هذه الفوضى، تتكرّر قصص آلاف اللبنانيين الذين وجدوا أنفسهم فجأة محرومين من مدّخراتهم/ن. مريم واحدة منهم/ن. فتحت حسابها في بنك “MED” عام 2003 بعد وفاة والدها، ليكون وسيلة لدعم والدتها المقيمة في لبنان فيما كانت هي تعمل في الخارج.

على مدى سنوات عملها في الخليج وأوروبا، كانت تضع مدخراتها في المصرف على أمل العودة يومًا والاستثمار في بيتٍ يؤمّن مستقبل العائلة. تقول: “كنت أستعمل الحساب لشراء أدوية أمي أو لتأمين الكاش عند سفرنا. المبلغ لم يكن كبيرًا، لكنه كان أساسيًا لعائلة مثلنا. وكنا نحضّر لاستخدامه كدفعة أولى لبيت جديد”. 

لكن مع انفجار الأزمة عام 2019، اصطدمت بواقع قاسٍ: “من آب/ أغسطس حتى تشرين الأول/ أكتوبر كانوا يبعثون حججاً وأعذاراً، وفي النهاية قالوا ببساطة: آسفين، ما فينا. هيدا الخبر دمّرنا”. لم يكن الأمر مجرّد منع من السحب، بل صدمة كسرت مشروع حياة. فقد اضطرت العائلة إلى الاقتراض مجددًا، تراكمت الديون، وتوقف أولادها عن متابعة دراستهم الجامعية في أوروبا. “صرنا عايشين ديون وشغل زيادة. حياتنا انقلبت كليًا”.

“لكن الإهانة لم تتوقف عند خسارة المال، بل تجلّت في طريقة تعامل المصرف معها: “من الكاشير للمدير إلى رجال الأمن، كلهم غطّوا على السرقة. بيذلوك بالورق والتواقيع، وكأنك عم تشحد مصرياتك”. وتضيف أنّ التمييز كان فاضحًا: “في ناس عندهم واسطات طلعوا كل مصرياتهم. في لبنانيين ببريطانيا سحبوا أموالهم، وفي سماسرة تعاونوا مع البنوك وأخذوا حصص من ودائع الناس المعتّرين”. 

في تشرين الأول/ أكتوبر وتشرين الثاني/ نوفمبر 2019، كانت مريم من أوائل من تقدّموا بشكاوى قضائية بمساعدة “رابطة المودعين”، لكن المسار لم يكن سهلًا: “عملنا جلسات، وكلنا محامي عبر رابطة المودعين ودفعنا المصاريف التي يجب أن تدفع للمحاكم، وبالأخير البنك قدر يوقف المحاكمة. خسرت زيادة، بس مقتنعة إنه الطريق الوحيد هو القضاء”. بالنسبة إليها، هذه التجربة كشفت كيف وُضع المودعون في مواجهة مؤسسات مالية محصّنة بحماية سياسية وقانونية. أما عن التعاميم والسقوف التي أصدرها مصرف لبنان، فتصفها بأنها “سرقة جديدة”: “اللي ودائعهم تحت 100 ألف لازم يقبضوا فورًا. أما اللي فوق 100 ألف فلازم تكون لهم خطة تقسيط عادلة تحت رقابة القضاء. أما الأموال الوسخة فلازم يتحققوا منها”.

بعد هذه السنوات، تقول مريم إنها فقدت أي ثقة بالنظام المصرفي: “سكرت كل حساباتي وما بقى وثقت بأي بنك بالعالم. حتى ما عندي credit card. كسروني. صورة المغترب انكسرت: الناس بتفكر إنو عايش على جبل دهب، بس الحقيقة نحن ندفع ضرائب بالغرب ومنتعب لنعيل أهلنا”. وعلى رغم كل الخسارات، تحاول التمسّك بخيط أمل: “أنا إيجابية وبآمن إنو لازم يكون في طريقة سليمة لإرجاع الحقوق. الأموال النظيفة لازم ترجع. اللي فوق الـ100 ألف تكون لهم خطة هيكلية، أما اللي تحت الـ100 ألف لازم يرجعوا فورًا”.

من شيك مصرفي  إلى نزاع قضائي طويل

يروي أحمد “اسم مستعار” تجربة قاسية مع حساب جدّه الذي كان وسيلة لإرسال الأموال إليه وهو يتابع دراسته في الخارج. فجأة، ومع القيود المصرفية غير المشرّعة بقانون، صار السحب ممنوعًا. يقول: “رحنا نسحب المصاري، قالولنا ممنوع، وبدّن يعطونا شيك مصرفي. نحن ما قبلنا، فسكّروا الحساب”. وبعدها أرسل المصرف إشعارًا عبر كاتب العدل، لكن العائلة رفضت استلامه، معتبرة أن ما حصل أشبه بعملية ابتزاز منظّم.

الخلاف تحوّل إلى مواجهة مباشرة داخل الفرع: “مدير البنك حاول منع والدتي من الدخول وطردها، على رغم أنها كانت تملك وكالة عن جدي. حصل توتر كبير، لكن في النهاية رفعنا دعوى وربحناها”. غير أنّ المصرف استأنف القرار، لتدخل القضية في دوامة قضائية طويلة شبيهة بمئات القضايا العالقة بين مودعين وبنوكهم، إذ يربح المودعون جولة أولى ثم يواجهون استئنافات لا تنتهي. ومع ذلك، استطاعت عائلة أحمد، بعد جهد طويل، أن تربح القضية في النهاية.

الأثر على أحمد كان كبيرًا، إذ إن تسديد أقساط دراسته في الخارج كان يعتمد على هذا الحساب: “كنت عايش برّا والمصاري مخصصة للدراسة. اضطرّينا نلاقي طرق بديلة عبر الأقارب، وكنت طول الوقت بقلق: بلكي ما وصلني شي؟”. هكذا تكرّست حالة انعدام اليقين التي عاشها عشرات آلاف الطلاب والمغتربين، ممن خسروا فرصة استكمال تعليمهم بعدما هربوا أصلًا من محدودية فرص التعليم والعمل في لبنان.

المبادرات والتحركات: من الشارع إلى الجمعيات

منذ الأيام الأولى للأزمة، لم يكتفِ المودعون بالانتظار. خرجوا إلى الشارع في وقفات احتجاجية أمام المصارف، بعضهم اقتحم الفروع واعتُقل وواجه القضاء، فيما لجأ آخرون إلى المحاكم أو حاولوا إيصال أصواتهم عبر الإعلام. ومع الوقت، تطورت التحركات وتغيّرت أشكالها: في البداية، كان الشارع هو الساحة الأساسية مع تصاعد الاحتجاجات وإغلاق المصارف، وسُجّلت حالات اقتحام لمصارف من مودعين يطالبون بأموالهم انتهت غالبًا بمواجهات واعتقالات. لاحقًا انتقلت المواجهة إلى المحاكم، حيث رُفعت عشرات الدعاوى ضد المصارف، لكن المودعين اصطدموا بتعثّر المسار القضائي بسبب النفوذ السياسي والمالي الذي عرقل إمكانية محاسبة من تسبّب بسرقة أموال المودعين وجنى حياتهم… ومع مرور السنوات، أخذت القضية بعدًا إعلاميًا وسياسيًا أوسع، فظهرت مبادرات وتنظيمات مختلفة مثل رابطة المودعين و”صرخة المودعين” و”جمعية المودعين”، وتحولت إلى قضية رأي عام وضغط داخلي وخارجي. لكن مع حلول 2024، بات المشهد أكثر تشرذمًا، مع تعدد الجمعيات وتباين خطابها بين من يشدّد على محاسبة المصارف والدولة ومن يخفف من مسؤولية القطاع المصرفي.

المحامي فؤاد الدبس من رابطة المودعين يختصر التجربة بالقول: “رفعنا أكثر من 500 دعوى. ربحنا بعضها في البداية، لكن الاتجاه العام كان الخسارة. لا يمكن أن يُعالج الملف عبر تحركات فردية. المطلوب خطة شاملة وعادلة تعيد هيكلة القطاع وتحدد المسؤوليات بوضوح”. أما الباحث الاقتصادي نزار غانم فيعلّق: “الرابطة التي نمثلها كانت واضحة في موقفها: المودعون ليسوا كتلة واحدة. هذا التسويق بأن “المودعين واحد” هو جزء من حملة المصارف. هناك مودعون صغار تمثلهم رابطة المودعين، وهم أصحاب الودائع الصغيرة والمتوسطة. أما جمعيات أخرى مثل “صرخة المودعين” أو “جمعية المودعين”، فموقفها السياسي برأينا لا يخدم هؤلاء الصغار، بل يخدم المصارف نفسها. لماذا؟ لأنها ترفض التمييز بين أزمة مصرف لبنان، وأزمة الدين العام، وأزمة المصارف، وتحاول تحميل الدولة ـ أي المجتمع عبر الضرائب – معظم كلفة الأزمة. وهذا يخدم إنقاذ المصارف تحت شعار إنقاذ المودعين.

6 سنوات من إدارة الانهيار بالترقيع

منذ خريف 2019، فُرضت قيود مصرفية غير مقوننة على السحب والتحويل، فيما ظلّت مشاريع قانون «الكابيتال كونترول» عالقة في البرلمان حتى اليوم. أُقفلت المصارف فجأة ثم أعادت فتح أبوابها تحت شروط خانقة: سقوف لا تتجاوز بضع مئات من الدولارات شهريًا، منع للتحويلات إلى الخارج، وابتكار تصنيفات مثل الـ«فريش دولار» والـ«لولار». على الورق، بقيت الودائع تقارب الـ93.5 مليار دولار، لكن المودعين لم يتمكّنوا إلا من الوصول إلى جزء ضئيل من أموالهم، وبشروط مذلّة.

وعلى امتداد السنوات التالية، أدار مصرف لبنان الأزمة بتعاميم متتالية بدلًا من خطط إصلاحية واضحة. التعميم 151 (2020) سمح بسحب الودائع بالدولار المحجوز بالليرة على أسعار صرف متدنية مقارنة بالسوق، ما كرّس عمليًا اقتطاعًا من قيمة المدّخرات. التعميم 158 (2021) قدّم نموذجًا للسحب التدريجي عبر دفعات نقدية وجزء آخر بالليرة وفق منصة «صيرفة»، لكنه جاء بشروط معقّدة واستثنى فئات واسعة من المودعين. 

في نهاية العام نفسه، أُصدر التعميم 161 لتغذية المصارف بالسيولة بالدولار وضبط سعر الصرف، قبل أن يُستحدث التعميم 165 (2023) الذي شرّع التعاملات الإلكترونية بالدولار «الفريش»، ما ثبّت ازدواجية «فريش» و«لولار». وأخيرًا، في 2024–2025، توالت تعديلات على التعميمين 158 و166 لرفع سقوف السحب، وصولًا إلى إصدار التعميم 169 (تموز/ يوليو 2025) لتحديد إطار جديد للتعامل مع ودائع ما قبل 17 تشرين.

لكن هذه التعاميم لم تُخفِ الفجوة المالية الضخمة التي تراوحت بين 70 و80 مليار دولار بحسب تقديرات رسمية ودولية. بالنسبة الى الباحث الاقتصادي نزار غانم، لم تكن هذه السياسات سوى وسيلة لنقل الخسائر إلى الناس: «انهارت القدرة الشرائية، ارتفعت معدلات الفقر إلى أكثر من 80 في المئة، وتراجعت قطاعات أساسية مثل الصحة والتعليم. التعاميم لم تكن حلًا بل ترقيعًا، فيما كان المطلوب إعلان إفلاس المصارف وإعادة هيكلة شاملة تحمي صغار المودعين».

هكذا، تحوّل مسار الأزمة إلى إدارة مؤقتة بالتعاميم بدلًا من قوانين واضحة: أسعار صرف متعدّدة، سياسات مرتجلة، وسقوف مجتزأة، فيما بقي المودع الحلقة الأضعف. وحتى مع تعديل قانون السرية المصرفية في 2025 ورفع بعض السقوف، يظلّ السؤال معلقًا: متى سيُحسم توزيع الخسائر بشكل عادل ونهائي؟

خطة السندات: حلّ أم فخّ جديد؟

طرحت الحكومة اللبنانية مقترحات لتغطية جزء من الخسائر عبر تحويل قسم من الودائع إلى سندات خزينة أو سندات مضمونة بالذهب. الهدف المُعلن كان ترميم الفجوة المالية التي تقدَّر بنحو 70 إلى 80 مليار دولار، عبر شطب ما يقارب الـ30 مليار دولار من ودائع المودعين الكبار وتحويلها إلى أدوات دين طويلة الأمد.

لكن هذه المقاربة أثارت جدلاً واسعًا. المحامي فؤاد الدبس يرى أن “تحويل الودائع إلى سندات هو كارثة، لأن الودائع تتمتع بحماية قانونية أعلى. خفضها إلى سندات يعني تضييع حقوق المودعين، ومن سيشتري هذه السندات أصلًا؟ ومن سيضمن قيمتها وهي أقل بكثير من قيمة الوديعة الأصلية؟”.

 أما الباحث الاقتصادي نزار غانم فيعتبر الطرح “هروبًا إلى الأمام”، موضحًا أن إصدار سندات جديدة يعني عمليًا امتصاص ما تبقى من دولارات المودعين بدل إعادة هيكلة حقيقية. بالنسبة إليه، الحلّ يكمن في إعلان إفلاس المصارف وتصفية موجوداتها، لا في تحميل المودعين عبء الإنقاذ بأدوات مالية لا تعيد الثقة ولا المال.

القروض: ضريبة مزدوجة على المقترضين

لم تقتصر معاناة اللبنانيين مع الأزمة المالية على الودائع المحتجزة، بل طاولت أيضًا المقترضين الذين وجدوا أنفسهم في مواجهة غير متكافئة مع المصارف. رواد (اسم مستعار)، 47 عامًا، يعمل في مجال الضيافة ويدير مطعمًا صغيرًا، يروي تجربته لـ “درج ميديا”. احتاج إلى قرض ليساعده على الانتقال وتأثيث شقته، فاقترض من بنك بيروت مقابل ضمانة نقدية (Cash Collateral)، وبدأ يسدّد أقساطه نقدًا بالدولار.

لكن مع اندلاع الأزمة في 2019، تغيّر كل شيء. لم يعد قادرًا على سحب أكثر من 200 دولار وأحيانًا أقل، وكان يقف ساعات في الطابور ليُفاجأ عند وصول دوره بأن “الكاش خلص”. في المقابل، كان المصرف يطالبه بالدفع نقدًا بالدولار الفريش. “سكّرنا القرض على أساس سعر 1500 ليرة للدولار عند كاتب العدل، وكانت السوق السوداء لا تزال منخفضة، لكن المصرف رفض الاعتراف. رفعنا دعوى وربحناها، لكنهم استأنفوا وما زالت القضية عالقة حتى اليوم”.

المفارقة لم تقف عند هذا الحد. إذ يروي رواد كيف عرض عليه المصرف تسوية وصفها بـ”المهينة”، تقوم على شطب جزء من وديعته مقابل إقفال القرض نهائيًا، لكنه رفضها. “أول قاضٍ كان منصفًا، بس بعد خمس سنين ما في حكم نهائي. وبعد تعيين حاكم جديد لمصرف لبنان، حاولوا يصفّوا المبلغ كله من الضمانة النقدية. حتى حساباتي الأخرى جمدوها وما سمحوا لي أستفيد من أي تعميم، ولا سحبت قرش واحد”.

لكن رواد لم يكن وحده. آلاف المقترضين الصغار، من أصحاب القروض السكنية أو الشخصية أو التعليمية، واجهوا معضلة مشابهة: أُجبروا على السداد بالدولار الفريش أو المصرفي، فيما لم يُسمح لهم بالوصول إلى ودائعهم بالعملة نفسها. بعضهم اضطر إلى بيع ممتلكات أو الاستدانة مجددًا لتسديد القروض، فيما آخرون دخلوا في نزاعات قضائية طويلة لم تُنصفهم بعد. وفي المقابل، استفادت شركات كبرى في قطاعات مثل الاتصالات والعقارات من إقفال قروضها الضخمة على أساس السعر الرسمي 1500 ليرة، من دون أن تتحمّل أي خسائر تُذكر.

المحامي فؤاد الدبس يوضح أن الخلل الأبرز كان في غياب العدالة بين المقترضين: “هناك قروض شخصية أو سكنية بسيطة كان يجب أن تُقفل نهائيًا على أساس السعر الرسمي 1500، لكن غالبية المقترضين أُجبروا على التسديد بالدولار النقدي والمصرفي. في المقابل، شركات كبرى أقفلت قروضها على 1500 من دون أن تفعل المصارف شيئًا. هذه فجوة كبيرة بالعدالة تحتاج إلى قانون واضح لمعالجتها”. من جانبه، يربط الباحث الاقتصادي نزار غانم بين أزمة القروض وأزمة الودائع نفسها، معتبرًا أن المقترضين الصغار أصبحوا “الخاسر المزدوج”: فقدوا القدرة على الوصول إلى مدخراتهم وفي الوقت نفسه حُمّلوا أعباء تسديد القروض بشروط مجحفة. ويضيف: “إدارة الأزمة بهذا الشكل عززت الركود التضخمي، وأدّت إلى فقدان عشرات آلاف الوظائف وهروب الرساميل. المطلوب كان منذ البداية إعلان إفلاس المصارف وإعادة هيكلتها، بدل الاستمرار بسياسات ترقيعية تنقل الخسائر إلى الناس”.

في ظل غياب خطة عادلة تعالج الفوارق، ظل المقترضون مثل رواد عالقين في قضايا طويلة الأمد، يدفعون ثمن انهيار لم يشاركوا في صنعه، فيما استفادت الشركات الكبرى والمصارف من ثغرات قانونية وقرارات قضائية متناقضة.

14.10.2025
زمن القراءة: 9 minutes
|

اشترك بنشرتنا البريدية