التحولات في حياة النساء خلال الحرب على غزة!
لا، لندرس حياة النساء بالعموم، في غزة…
أفكر الآن بعنوان مناسب لمقال جدي في هذه الأيام؛ أقصد أيام الحرب.
هل نعرف حقاً، معنى كلمة حرب بالنسبة للنساء؟
ستسألني، وبم تختلف أيام الحرب بين النساء والرجال؟
حسناً، أنا أيضاً لا أعرف حجم الفوارق بين يوم حرب في حياة رجل ويوم حرب في حياة امرأة، لكنه مقال أحاول أن أبدو فيه جدية وحيادية وصادقة بالمعلومات المنقولة.
إذاً، دعني أصطحبك في رحلة امرأة مع ذاكرة يومية للحرب.
في إحدى مرات الحروب المكررة على غزة، لجأت إلى بيتي صديقة لأمي، أذكر أنني كنت في بداية العشرينيات، كأنني أكتب الآن بصفتي الستينية مثلاً، لأنك لن تصدق أنني منذ عشرينياتي حتى ثلاثينيتي هذه، أختزن ذاكرة خمسة حروب، قد لا يهمك هذا، فلعلك تظن أن الحرب مجرد عادة غزية.
يومها، وقفت السيدة صديقة أمي أمام المرآة تضع الكحل في عينيها، وحين سألتها عن سبب اهتمامها بالكحل، أجابت: “أنا لا أعيش بلا كحل في عيني، أشعر أن عينيّ ليستا جميلتين إلا بالكحل الأسود”.
أكملت بعد ابتسامة خاطفة، وهي ما زالت تنظر إلى المرآة: “رح تعرفي إن الحرب أهم أيام لتعلمك تفاصيل عن الحياة، عشتها في لبنان والكويت وليبيا”.
لم أشعر بحكمة عالية تجاه جملتها الأخيرة، الحرب لن تكون يوماً أجمل الأيام أو أفضلها، الحرب يوم طويل بشع!
لكنني عرفت أن الحرب لن تمنع النساء من النظر إلى المرآة، ولو لمرة واحدة!

في أيام نزوحي المكررة خلال هذه الحرب، كما يصفني الأصدقاء “سيدة النزوح القياسي”، اعتمدتُ على كاميرا الهاتف الأمامية كبديل للمرآة. أتفقدُ وجهي وملامحي، ألتقطُ صوراً كثيرة، وأحاول البحث في تفاصيل التغيرات على وجهي.
لكن الكاميرا ليست بصدق المرآة، المرآة انعكاسٌ لصورتي خارج حدود التكنولوجيا، وخارج حدود الاضطرار لالتقاط الصورة، ثم الاضطرار لتنقية الشوائب والعيوب والاطمئنان لشكل الوجه.
المرآة أصدق من كل هذا الكذب الذي لجأت إليه، إنها حقاً تخبرك من تكون!
بحثت في السوق في أيام نزوحي في خانيونس جنوب القطاع، لكنني لم أجد مرآة واحدة، يومها وقفت في السوق معترضة وباستنكار شديد، سألت صديقتي: “كيف يمضي كل هؤلاء النساء نحو السوق من دون النظر في المرآة؟!”.
أجابت بتهكم: “كلنا حفظنا شكل أيامنا، بتلاقينا بنلبس كل شي عن غيب!”.
المرة الأولى التي نظرت فيها إلى المرآة، كانت في بيت لجأ إليه أخي في رفح، أي بعد ثلاثة أشهر من النزوح، أعارتني امرأته مرآة مكسورة، نظرت إليها وسألت نفسي: “من هذه؟!”.
لم يكن سؤالاً بصيغة الخوف، بل كان استنكارياً أبحث فيه عن ملامحي التي نسيتها، للمرة الأولى أنظر إلى المرآة من دون أن يكون لدي جملة صديقي المقرب “شو هالجمال؟”، حتى هذه الجملة ضاعت مني لحظة النظر إلى المرآة.
لأكثر من ساعتين وأنا أنظر إلى المرآة وألقي بها في السلة المخصصة للأدوات، وأعيد النظر…
بعدها قررت التنكر والإنكار!
خرجت من بيت النزوح إلى الشارع، اشتريت كمامات كي أخفي تفاصيل عن وجوه المارين بي…لكن!
يا لسخرية القدر!
اليوم الأول لارتداء الكمامة، صادفني أحد المعارف، وسألني: “كيف حالك؟!”.
اضطربت، كيف عرفني، أنا متنكرة بكمامة؟!
أجابني: “أي، لا…من شدة شوقي لأن ألقى أحداً يشاركني النزوح في زحام رفح، عرفتك!”.
إذاً، نحن نعرف بعضنا بعضاً بعد خيال أو بعد جهد بحث.
أجبته سريعاً: “أنا بخير!”.
كنت حريصة ألا أنزع الكمامة، أريد أن أبقى متنكرة، مضى الحوار بصفتي المتنكرة.
انتهى اللقاء والسؤال ومضيت أردد في داخلي مكملة طريقي: “يا رب ما ألاقي حدا بيعرفني كمان مرة!”.
الحرب أفسدت ثقتي بالظهور، تخيل!
عينا امرأة مضى على عدم زيارة الكحل لهما أربعة شهور، نوم مضطرب، اضطرار لمشاركة النساء حفل إشعال النار، اضطرار لمشاركة الأولاد نقل المياه، ومراقبة الطريق من القصف، وتجنب الخطر، تتوسطان وجهاً شاحباً.
هذا ليس استعراضاً لتحول في حياة امرأة تعمل في مجال الموضة مثلاً، هذه سيدة تخرج إلى عملها بكامل أناقتها، واقٍ جيد للشمس، يسبقه غسول مناسب للبشرة، كريمات ترطيب وعناية بالبشرة، إنها حجتها الأبدية لتأخذ وقتاً إضافياً أمام مرآتها، امرأة تحب المرآة وانعكاسها ووفاءها.
ومع ذلك أنا أكثر النساء حظاً…
لِمَ؟!
لقد حصلت على مرآة وعلى وقت للوقوف أمامها، استطعت اختبار قدرتي على تذكر رسم خط الكحل الأسود فوق العين؛ يتلعثم به الرجال دوماً باسمه “آيلاينر”، والمسكارا في بيت، أقصد في غرفة في بيت.
ستحسدني النساء الآن، فأكثر النازحين في مراكز الإيواء هم من النساء والأطفال، والنساء هؤلاء، لا يحظين بمثل هذا الأمر.
قبل شهرين من الآن، كنت أشارك في إدارة مخيم للنازحين في رفح، استعارت إحدى النساء خيمة نازح آخر، استطاع العودة إلى بيته المدمر في خانيونس، بعد انسحاب الجيش الاسرائيلي من هناك، من أجل أن تمنح زوجة ابنها “كنتها” فرصة أن ترفع غطاء رأسها عن شعرها “إسدال الصلاة”، فقد أقاموا في الخيمة مع أخوال زوجها وأبناء حماها وغيرهم، ممن لا تستطيع المرأة كشف شعرها أمامهم!
تحسدني امرأة أخرى بعد قليل، حين تجدني قد استطعت أن أضع واقي الشمس، بينما هي تغسل وجهها بيد واحدة، واليد الأخرى تمسك بها “الكيلة”.
تحولاً آخر أصاب النساء هنا، نسيت أن أخبرك إياه، يد واحدة صحيح لا تصفق، لكنها يد واحدة، تحمم شعرها، وتغسل وجهها، يد واحدة محظوظة من تمتلكها، كي تحظى بفرصة وداع شهيد أمامها!
أنا أكثرهن حظاً، ستحسدني أم خليل بعد قليل، حيث أضع المرآة على حافة الشباك لأثبتها، لكننا سنتساوى بعد حين، حيث سنأخذ نحن الاثنتين وسيلة المواصلات الوحيدة المتاحة، عربة يجرها حمار، وعلى العربة تركب امرأة وزعت واقي الشمس جيداً على وجهها، وقليلاً من عطرها المفضل “سكاندل”؛ نسيت أن أخبرك أنني لأول مرة أمتن للحرامي.
تشجيع مبرر للسرقة، حيث اشتريت عطري المفضل بسعر خمسة شواقل، بعد أن كنت أشتريه قبل الحرب بأربعة أضعاف سعره الآن، الحرامي سرق المخازن وباعني العطر المفضل بسعر يناسب ميزانية الحرب.
تحول آخر يصيب مبادئ النساء، أن نمتن لفكرة السرقة، لأننا نريد أن نحظى بيوم سابق لهذا الخراب.
إذ لم أحظ أنا مثلاً، أن أحمل في حقيبة الإخلاء، كل هذا رغم أنها اتسعت لفرشاة الأسنان مثلاً، لكننا كنساء نخجل من ظن الآخرين بنا، أننا نمتلك رفاهيتنا على حساب خراب الحرب.
لا يبدو هذا تحولاً إقليمياً في حياة النساء، وقد لا يؤثر على العلاقات الدبلوماسية الفلسطينية العربية مثلاً، ولن يزيح العثرات في علاقة محور المقاومة مثلاً.
لكن هل لك أن تتخيل امرأة تعرف شكلها من عيون النساء، لا من مرآتها!
كيف ستبدو علاقتها بنقل الصورة الحقيقية للواقع؟!
ثم هل هناك وطن قد يحدث، من دون امرأة تخبرها مرآتها أنها الأجمل على الإطلاق؟!
إقرأوا أيضاً: