لم أخطط أبداً لأكون ناشطة. كنت فتاة متدينة وُلدت وترعرعت في مكة، بدأت أغطي نفسي بالعباءات والنقاب قبل أن يُطلب مني ذلك، فقط لأنني أردتُ أن أحاكي أساتذتي وأسعدهم. وآمنت بنسخة متشددة من الإسلام. لسنوات، كنت أُذيب شرائط الكاسيت الموسيقية لأخي في الفرن لأن الإسلام يعتبرها حراماً.
الشيء الوحيد الذي فعلته ويُعتبر تمرداً، هو أنني حصلتُ في سن صغيرة على وظيفة أخصائية أمن المعلومات. تزوجتُ في سن الرابعة والعشرين، وأنجبتُ ولداً، ثم تطلقتُ. ولكنني حين بلغتُ الثلاثين، بدأتُ أقوم بأمور أكثر جرأة في أعياد ميلادي. في عيد ميلادي الثلاثين، ذهبت في رحلة قفز بالمظلات في الولايات المتحدة. وفي العام التالي، اشتريتُ تذكرة إلى بورتوريكو وأمضيتُ بعض الوقت في الترحال وحدي. وفي السعودية عام 2011، عندما بلغتُ 32 عاماً، قررتُ أن أبدأ القيادة.
ذهبت لمقابلة أخي في منزله، حيث سلمني مفاتيح سيارته، “هيونداي أزيرا سيدان”، وقال لي “سأكون معك حتى النهاية”. ركب هو وزوجته وطفلهما وابني عبودي البالغ من العمر خمس سنوات في السيارة. ركبت أنا الأخرى، ولكن بخلاف كل المرات التي ركبنا فيها السيارة معاً، كنتُ أنا خلف عجلة القيادة. كنتُ متحمسة ولكنني مرعوبة، وكنت آمل بأن توفر لي عائلتي بعض الحماية إذا تعرضتُ لمضايقات. وبينما كنت أقود، طلبتُ من زوجة أخي أن تخرج هاتفها الخليوي وتسجل مقطع فيديو، وكنتُ أفكر بالفعل وقتها في كيفية نشره على “يوتيوب”.
تعلمتُ القواعد السليمة للقيادة عندما كنت أعيش في الولايات المتحدة؛ حصلت على رخصة قيادة من ولاية نيو هامبشاير ثم من ماساتشوستس. ولكنني في المملكة العربية السعودية، لم أجلس أبداً وراء عجلة القيادة. تعتمد النساء السعوديات على السائقين في نقلهنّ من مكان إلى آخر، نحن تحت رحمتهم، وكل امرأة أعرفها تقريباً تعرضت لمضايقات من السائق. فهم يعلقون على مظهرنا، ويطلبون المزيد من المال، ويلمسوننا بشكل غير لائق. لقد قابلتُ سائقين يدلون بكل أنواع التعليقات غير اللائقة ويسجلون مكالماتي عندما أستخدم هاتفي الخليوي، معتقدين أنه ربما يمكنهم ابتزازي أو استغلالي.
ظللتُ أقود لمدة 30 دقيقة إلى أن وصلنا شارع الكورنيش، هناك رأيتُ أول شرطي مرور. حبستُ أنفاسي بينما نمر به، لكنه لم يُشر إلي. لم يحدث شيء. صرخت “لدينا الضوء الأخضر! لدينا الضوء الأخضر! نحن بخير!”.
واصلتُ القيادة، وأنا أراقب وجوه السائقين الآخرين على الجانب الآخر من الطريق. كانوا كلهم يحدقون بنا، بل يديرون رقابهم إلينا ونحن نتجاوزهم. بعضهم نظر إلى الأسفل أو أشاح بوجهه ثم أعاد النظر إلينا، وكأنهم لا يصدقون ما كانوا يرونه: امرأة تقود سيارة. نظرتُ إليهم مباشرة وابتسمتُ، وكأنني أقول: نعم، أنتم ترون امرأة وراء عجلة القيادة، حان الوقت أخيراً لتعتادوا على ذلك.
تابعتُ حتى وصلت إلى تقاطع، حيث كان هناك شرطي مرور آخر. جاءني الإدراك الرهيب بأن الشرطي الأول ربما لم يفعل شيئاً لأنه ببساطة لم يرني. عندما نظر الشرطي الثاني إلى سيارتي، تلاقت أعيننا، وعندما تغير الضوء، انعطفتُ إلى اليسار، أمامه مباشرة. كنت قد دخلت بالكاد في حركة المرور القادمة عندما سمعت الصوت الآمر يدوي من مكبر صوت الشرطة “أزيرا، قف جانباً”.
أوقفتُ السيارة، وأخذتُ نفساً عميقاً وأنا أراه يتقدم إلى نافذتي. ثم رأيتُ أنه يبتسم مستمتعاً، وقال، “هل أنت من السعودية؟ هل تعرفين أنه في السعودية لا تقود النساء؟”.
ابتسمتُ بدوري وسألته عن اسمه. ثم، وأنا أسيرة للحظة، ارتكبتُ خطأً فادحاً؛ أخبرته باسمي. سلمته رخصة أخي السعودية ورخصة ماساتشوسيتس خاصتي ورخصة السيارة. ثم أضفت “سيدي، لا يوجد في قانون شرطة المرور ما يقول إنني لا أستطيع القيادة”.
قام شرطي المرور بفحص الرخص، وكانت جميعها صالحة. ثم وبنظرة متفاجئة وابتسامة كبيرة، أخبرنا أن ننتظر ثم أجرى اتصالاً واستدعى دعماً. وبينما كنا ننتظر الضابط الثاني، توقفت سيارة سوداء في منتصف الطريق، ونظر إليَّ الرجل الجالس في داخلها، بينما كنت لا أزال في مقعد السائق، سأل “من هذه المرأة؟”، فأجاب شرطي المرور “منال الشريف”.
أجرى صاحب السيارة السوداء مكالمة غيرت حياتي. في غضون 10 دقائق، تسارعت سيارة ضخمة، بينما إطاراتها تصدر صريراً عالياً وسائقها يضغط الفرامل على عجل. كنتُ محاطة بالسيارات من الجوانب كلها، لكن السيارة الأخيرة كانت الأكثر رعباً. كان مطبوع على جانبها شعار “المطوع”، الشرطة الدينية السعودية، التي تشبه جيشاً غير مُسجل، وغير مرئي، لكنه موجود طوال الوقت وفي كل مكان. سرعان ما ظهر رجلان، أحدهما بدين والآخر نحيف. كانا من هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
قفز أخي من السيارة على الفور وذهب للتحدث معهم. كانوا يصرخون بأنهم لن يسمحوا بمثل هذا “الاختلاط الفاحش بين الجنسين” الذي حصل على ما يبدو عندما جلستُ أنا، المرأة، في مقعد السائق وبجانبي رجل. قال لهم أخي، “ولكنني أنا هذا الرجل، وهي أختي”.
في النهاية، سئم المطوع من مضايقة أخي وتقدم نحوي في السيارة. تحققتُ ثلاث مرات من أن الأبواب مقفلة. نقر المطوع البدين على نافذة السيارة وهو يناديني بالمصطلح المهين، “يا بنت”.
فتحت النافذة وصحتُ فيهم، “أولاً، أظهروا بعض الاحترام. يمكنكم أن تدعوني بأم عبدالله”، وهي الصيغة الملائمة لمناداة الأم في المجتمع السعودي. أضفتُ، “ثانياً، هذه قضية ليست قضية أخلاقية، وإنما مسألة مرورية. كنتُ أقود برخصة سارية، لا يوجد شيء غير أخلاقي في ذلك. هذه قضية تابعة لشرطة المرور، لذا لن أذهب معكم”، وأغلقتُ النافذة.
وكان رجال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غاضبين. طرق الرجل البدين على النافذة التي لا تبعد إلا بوصات عن وجهي. كان يشبه شخصية كرتونية غاضبة ومُحبَطة، وهو يسحب مقبض الباب المغلق مراراً وتكراراً، ثم يخبط على الباب. خرجت بصقة من فمه على الزجاج وهو يصرخ في وجهي، “اركبي سيارتنا! تعالي معنا!” قلت من خلف الزجاج “على جثتي”.
لمدة ساعة تقريباً، حاول المطوع تخويفنا. وأخيراً، ومع حلول الظلام، وافقتُ أنا وأخي على الجلوس معاً في المقعد الخلفي لسيارته (سيارة أخي) والسماح للمطوعين بنقلنا إلى محطة شرطة المرور. أشار أخي سريعاً إلى سيارة أجرة وأجلس زوجته وابنهما وابني عبودي فيها. حدث كل هذا بسرعة، ولم أجد حتى فرصة لتوديعهم.
جلست باستقامة قدر المستطاع وتحدثتُ إلى المطوع مباشرة، “أنت تعرف أن هذا غير قانوني. تعرف أنه لا يحق لك قيادة سيارتنا”، أخبرتهما بذلك أثناء توجهنا إلى المحطة، “بعدما ينتهي هذا، يمكنني تقديم شكوى ضدك. وسوف أفعل”.
حل الغروب عندما وصلنا إلى بوابات محطة مرور مدينة الثقبة، ما يعني أن وقت الصلاة قد حل. داخل المجمع، لم يكن هناك مكان للصلاة سوى للرجال؛ حيث لا يسمح للنساء بالدخول. ورأيت فرصة صغيرة تلوح في الأفق.
سألت، “هل يمكنني الجلوس في السيارة والانتظار؟” فقالوا نعم. وبمجرد انسحاب الرجال، فتحتُ هاتفي، حابسةً أنفاسي، وآملةً أن تدوم البطارية. اتصلتُ برقم واحد. وبأسرع ما أمكنني، شرحتُ أين كنت، وقلت : “رجاء، انشر هذا الخبر”.
على الطرف الآخر من الخط كان مراسل من صحيفة الرياض. على الأقل عرفتُ الآن أنني لن أختفي من دون أثر. عندما عاد المطوع وضباط شرطة المرور وأخي، دخلنا إلى المحطة، حيث فوجئت بعميد الشرطة ينتظرنا. نظر إلى المطوع وسأله “ما الذي يحدث؟”.
قال له الرجال أن يسأل ولي أمري القانوني. هذه هي المعاملة العادية للنساء السعوديات. يُتوقع منا أن نجلس في صمت بينما يتكلم أولياء أمورنا الذكور نيابة عنا، ويتصرفون نيابة عنا، ويتخذون القرارات نيابة عنا. لكنني لم أقطع كل هذا الشوط لأبقى صامتة.
قلت له “إنه أخي الصغير، يجب أن أكون أنا ولية أمره”. صُدم المطوعون، وأثق بأنهم كانوا يريدون صفعي. شرحت للعميد ما حدث، وسألت لماذا يتدخل المطوعون بينما هذا خلاف مروري؟ سألني العميد، “هل تعرفين أن ما فعلته غير قانوني؟” فقلت له، “سيدي، أنا لم أنتهك أي قانون مروري. وفقاً للمادة 32 من قانون المرور، ليست هناك مواصفات جنسية في استمارة رخصة القيادة. في الواقع، لا يوجد في القانون ما يقول إن النساء لا تمكنهن القيادة”.
انحنى في كرسيه إلى الخلف وقال، “يمكنك الاستشهاد بالقانون؟” فقلت، “نعم. عكفت على دراسة القوانين لأيام يا سيدي”. بقي ساكناً للحظة، يقيّمني في صمت، ثم قال أخيراً، “حسناً، تحتاجين إلى رخصة قيادة سعودية لتقودي هنا”، فقلت، “بلى يا سيدي، ولكن” وتابعتُ من دون أن تطرف عيناي، “مسموح لي باستخدام رخصة القيادة الأجنبية السارية لمدة تصل إلى ثلاثة أشهر حتى أحصل على الرخصة السعودية”. ثم تناولت حقيبتي وسلمته طلب رخصة قيادتي المكتمل. كان بإمكاني أن أسمعه يسأل في رأسه: يا إلهي، من هذه المرأة؟
لوح العميد بيده وكأنما يهش ذباباً وقال “ضعي أوراقك بعيداً”، ثم تحول إلى أخي وسأله “هل أعطيتها المفاتيح؟”
فأجاب أخي بهدوء “نعم، فعلتُ ذلك. أنا موافق على قيادتها”.
صُودرت حقيبتي، وأُخذنا إلى غرفة أخرى، حيث كان هناك هاتف أرضي. أردتُ استخدامه لأطمئن على عبودي العزيز. كان هذا وقت نومه تقريباً، وكنت أرغب في أن يسمع صوت أمه تتمنى له أحلاماً سعيدة، لينام بهدوء بعد كل ما حدث. ولكن عندما طلبت استخدام الهاتف، نزعوه من مكانه على الحائط ونقلوه بعيداً.
أدينا أنا وأخي صلاة العشاء، بينما كان المسؤولون من مختلف السلطات يصلون إلى المحطة. كان بإمكاننا سماع أصواتهم والأصوات الرتيبة لأحذيتهم تتحرك على الأرضية الصلبة الناعمة.
لن تكون هناك مملكة سعودية عصرية طالما ما زال الرجال يحكمون النساء. قد يستغرق الأمر وقتاً طويلاً، لكنني أعتقد أن المملكة ستنجح في تغيير هذا الأمر.
قال أخي بصوت منخفض، “منال، إنهم يخططون لشيء ما”. وأشار بعينيه نحو عدد قليلٍ من الرجال، لم يكونوا يرتدون زياً رسمياً، وكانوا يقفون متقاربين بعض الشيء ويتحدثون في ما بينهم فقط، ويراقبون كل شيء.
سألته بصوت منخفض، “هل هؤلاء هم الدبابيس؟”.
قال متجهماً “نعم”. والدبابيس هو الاسم المستعار الذي يستخدمه السعوديون للمباحث، “وكالة الاستخبارات الداخلية”، أو الشرطة السرية أو أمن الدولة. تعني دبابيس حرفياً الشيء ذا النقطة الحادة الذي يمكن أن يطعنك في لحظة.
بدأ الذعر يتسلل إلى صوتي وأنا أقول “لماذا، لماذا، لماذا، لماذا هم هنا؟
أجاب “لا أعرف، دعينا لا نتحدث عن ذلك”.
بعد مرور بعض الوقت، عاد العميد مرة أخرى وقدمني إلى قائد شرطة الخُبر، الذي سأل “هل أنت منال صاحبة واقعة يوم 17حزيران/يونيو ؟”.
إذاً فقد كان رئيس الشرطة على علم بحملة “سأقود سيارتي بنفسي”، التي كنتُ أنظمها لحث النساء السعوديات على القيادة في الشوارع في حزيران. قلت، “نعم”.
عاد يسأل، “لماذا لم تنتظري حتى ذلك الحين؟ لماذا قمت بالقيادة الآن؟”
فقلت، “لا يوجد قانون مروري يمنع النساء من القيادة”، وسألته عندما لم يرد، “هل أستطيع أن أذهب الآن؟”، فقال، “لا يمكننا أن نطلق سراحك حتى نحصل على موافقة من الحاكم”.
عند الساعة العاشرة مساء تقريباً، أرسل لي مكتب حاكم الإقليم أخيراً تعهداً لأوقعه، نصه هو: أتعهد أنا، منال الشريف، بأنني لن أقود على الأراضي السعودية مرة أخرى أبداً، وسأوقف فعالية 17 حزيران.
طلب رئيس الشرطة مسح الجزء المتعلق بـ17 حزيران، ثم أعاد مكتب حاكم الإقليم إصدار التعهد. فصار ينص الآن ببساطة على أنني: منال الشريف، لن أقود في الأراضي السعودية مرة أخرى أبداً.
نظرتُ في التعهد. لم أكن حتى اللحظة أكلت شيئاً، ولا نمت وكان حلقي مبحوحاً. أردتُ أن أرى ابني. كان من السهل جداً أن أوقع على التعهد وأرحل، ولكنني قلت “لا أقبل بهذا… أنا لم أكسر أي قاعدة”.
حثني رئيس الشرطة بلطف “عليكِ التوقيع عليه”، فقلت، “ماذا إن لم أفعل؟”، قال، “عندها، أخشى أنه سيكون علينا احتجازك حتى توقعي عليه”، قلت، مرة أخرى، “سيدي، أنا لم أخالف أي قانون. أخبرني ما القانون الذي خرقته وسوف أوقع. ما هو القانون الذي خرقته؟”، بعد دقيقة قال بهدوء، “لقد خالفتِ العُرف”. في المجتمع السعودي، العُرف يعني التقاليد أو العادات، أو الممارسات أو الاتفاقيات. وهو ليس قانوناً رسمياً.
التفتُ إلى الرئيس وقلت له متعمدة “أريد أن أسمع كلاكما تقولان ذلك. من فضلك كرّر ما قلته”، فقال الرئيس، “لقد خالفتِ العرف”، “قلها مرة أخرى”، “العرف، لقت خالفتِ العرف”، قلت، “حسناً، نحن متفقون. أنا لم أخالف أي قانون مروري”.
كان هذا نصراً صغيراً، لكنني أردت أن أثبت- على الأقل للرجال الموجودين في الغرفة- أنني لم أخالف أي قانون سعودي خاص بالقيادة.
“ومع ذلك، عليك أن توقعي على التعهد. أو سنُضطر آسفين إلى احتجازك”. وقعت على التعهد، وقلتُ لنفسي وأنا أكتب اسمي إنني، “سأستخدم حقيقة أنني خالفُ العرف وليس القانون للاستمرار”.
كانت الساعة تجاوزت الحادية عشرة ليلاً عندما أطلقوا سراحنا من القسم.
ظننتُ أنني سأعود إلى منزلٍ ساكن، لكنني بدلاً من ذلك وجدتُ حشداً صغيراً في انتظاري. بعد المكالمة التي أجريتها خلسة، لم تكن الصحف المحلية هي الوحيدة التي نشرت ما حدث، لكن أذاع علي العلياني، مقدم برنامج يا هلا، خبر احتجازي إلى الوطن كله. اتصلت زوجة أخي بأحمد الذي يدير حساب “سأقود سيارتي بنفسي” على “تويتر”، فقام بدوره بالتغريد عمّا حدث، وأعاد الآلاف نشر تغريدته، وقامت الصحف الدولية بنشر القصة. قام شخص آخر بإنشاء صفحة “الحرية لمنال” على “فيسبوك”، والتي حصلت خلال ساعتين على أكثر من 5000 إعجاب.
كان أصدقائي متحمسين، قالوا لي، “العالم كله يتحدث عنك!”، “أطلقوا عليكِ اسم روزا باركس السعودية!”.
كانت عيناي تدمعان تأثراً، لكنني لم أتمكن من منع نفسي من الضحك. قلت لهم، “أنتم سخفاء جداً للقلق علي!”، وشرحت كيف مسح رئيس الشرطة السطر الخاص بإلغاء فعالية 17 حزيران. كان هذا في رأيي شيئاً كبيراً. فقد مُنحنا موافقة ضمنية على القيادة في ذلك اليوم. قلت “لقد انتصرنا! أخبرتكم يا أعزائي، أنتم خائفون من لا شيء! لقد انتصرنا!”.
بعد هذا اليوم المرهق، أردتُ أن أغفو على الأقل بضع ساعات مريحة قبل أن يبزغ الفجر ويبدأ يوم جديد. إلا أن ذلك لم يكن ليحصل.
جاءت مباحث أمن الدولة من أجلي في الساعة الثانية صباحاً. كان صوت قرعهم على الباب عالياً، وشديداً، من النوع الذي يهز إطار الباب. كان ابني البالغ من العمر خمس سنوات نائماً، ولكنني كنت مستيقظة، أرتدي بنطالاً رياضياً وقميصاً عليه رسمة ميكي ماوس. قفز أخي المذهول من مكانه وهرع إلى المدخل، وبقيتُ خلفه قليلاً، شاعرة بنسمات الهواء عندما فُتح الباب. في الظلام، كان كل ما استطعنا رؤيته هو رجال يزدحمون على بابي ويتقدمون إلى الداخل. عندما سألهم أخي من هم، ساد الصمت. أخيراً، قال واحد منهم، “هل هذا منزل منال الشريف؟”.
قال أخي من دون تردد، “نعم”.
“عليها أن تأتي معنا الآن. يريدون رؤيتها في مركز شرطة الظهران”.
شعرت بالذعر بمجرد أن سمعت هذه الكلمات. صفع أخي الباب وأقفل المزلاج. سادت لحظة صمت ثم بدأ القرع مرة أخرى.
قررت أن أصلي. في الردهة المؤدية إلى غرفتي الصغيرة، صليت ركعتين ودعوت الله أن يريني الطريق. كانت الساعة الآن نحو الرابعة صباحاً، وشعرتُ بشيء في داخلي يقول “اذهبي يا منال، ستكونين بخير”.
أصر أخي على مرافقتي، على رغم أن جميع الرجال أرادوا أن أذهب وحدي، من دونه، وهو ما جعلني أشعر بأن هناك التباساً ما. في المجتمع السعودي، تحتاج المرأة إلى الوصي الرسمي لها (عادة أبوها أو زوجها) أو محرم لها -قريب ذكر من العائلة لا تستطيع الزواج منه، مثل الأب أو الأخ أو العم أو حتى الابن- لمرافقتها في أي أمر رسمي.
عدت إلى الداخل وارتديتُ عباءتي وحجاباً، وخرجت ممسكةً ذراع أخي. لم أكن حتى نظرتُ إلى طفلي الصغير النائم أو قبلته قبل الذهاب. كنت أريد أن أصدق أنني سأعود في الوقت المناسب لإيقاظه، وإطعامه وجبة الإفطار، وإيصاله إلى المدرسة، ثم التوجه إلى العمل. قلت لنفسي إنني على أكثر تقدير سأغيب بضع ساعات فقط. لم يكن الطريق، في هذا الوقت من الليل، يستغرق أكثر من عشر دقائق من مجمع أرامكو إلى مركز شرطة الظهران.
ركبت في المقعد الخلفي لإحدى السيارات، وجلس أخي في المقدمة. لم يتكلم أحد. نظرت عبر النافذة إلى الظلام الدامس، وشعرت بأزيز السيارة وهي تقطع الطريق. مرت خمس دقائق، ثم عشرة، ثم لم أتمكن من تمييز أي من معالم الظهران المألوفة. لأننا لم نكن نتوجه إلى المدينة.
بعد ساعات قليلة، كنت مُحتجزة في سجن الدمام النسائي، حيث قضيتُ أياماً، بينما قدم الآخرون التماساً لإخلاء سبيلي. خلال صلاة الجمعة، وقف الأئمة في المساجد في أنحاء البلاد وأثنوا على اعتقالي. وفي خطب نارية، أدانوني بصفتي أشكل تأثيراً سيئاً في النساء الأخريات. أدانوني بتهمة “إفساد المجتمع” واتهموني بالتجديف والسعي إلى تدمير الإسلام. وُصفتُ “بالفاجرة” و”العاهرة”، ووفقاً للأئمة، كان السجن هو المكان الوحيد الذي يناسب منال الشريف.
كنت أعيش في أستراليا بحلول 27 أيلول/سبتمبر 2017. استيقظتُ في الخامسة صباحاً لأعطي ابني الدواء بعد جراحة في الأذن أجراها آنذاك. كنت أتحقق سريعاً من الوقت على هاتفي المحمول، عندما رأيثُ إشعار خبر عاجل من “بي بي سي”: المملكة العربية السعودية ترفع حظر القيادة عن النساء.
ظننتُ أن عينيّ الناعستين أخطأتا القراءة، فقمت بتحديث الهادف وقرأتُ الخبر مرة أخرى، ثم قرأته مرة ثالتة للتأكد. بعدها انهمرت دموعي فرحةً. وفي دقيقة واحدة، جن جنون هاتفي، وغمرته رسائل البريد الإلكترونية بطلبات لإجراء المقابلات من جميع أنحاء العالم.
استغرق الوصول إلى هذه اللحظة التاريخية، ما يقرب من ثلاثة عقود، بدءاً من المحاولة الأولى للاحتجاج على الحظر عام 1990، عندما نظمت 47 امرأة مظاهرةً بالسيارات، قامت المؤسسة الدينية بعدها بتدمير حياتهن وسمعتهن. علينا جميعاً أن نقدم احترامنا للنساء والرجال الذين تكبدوا هذا العناء. لقد فقدت النساء اللاتي قمن بحملات لإنهاء هذا الحظر حريتهن ووظائفهن، وتعرضت سلامتهن للخطر، وصودرت سياراتهن واحتُجزن. لقد تعرضن للمضايقات وللسجن، واستُهدفت عائلاتهن. وأُطلق عليهن كل اسم مهين وهوجمن بشراسة. لقد فقدن حياتهن كما عرفنها بسبب جرأتهن على القيادة في شوارع السعودية.
ولكن هذا لن يحدث بعد الآن. لقد بدأت الأمور تتغير عام 2011، مع بداية حركة #Women2Drive. استمر الصراع مع الحملات الأخرى، بما فيها حملة عام 2013 قادتها المدونة السعودية إيمان النفجان. وعام 2014، حاولت إحدى الناشطات الأخريات، وهي لجين الهذلول، العبور إلى السعودية من الإمارات العربية المتحدة بسيارتها، وكان معها الصحافية السعودية ميساء العمودي. قُبض عليهما وتم إرسالهما إلى السجن حيث مكثتا 72 يوماً. وفي الشهر الماضي، قبض على النفجان والهذلول مرة أخرى، مع الكثير من ناشطات حقوق المرأة.
آمل ألا تُسجن أي امرأة مرة أخرى بسبب فعل بسيط كقيادة سيارة. يجب أن تستمر ناشطات حقوق المرأة في مراقبة طريقة تنفيذ القانون ومواصلة إقامة الحملات لإلغاء قانون ولاية الذكور، الذي يحظر على المرأة السفر أو الزواج أو حتى الخروج من السجن من دون إذن من قريب ذكر. يجب أن نطلب المساواة الكاملة للمرأة. القيادة مجرد بداية فقط لإنهاء القوانين الظالمة الأخرى، التي تعامل المرأة السعودية كقاصر غير موثوق بها للتحكم بمصيرها الخاص.
كنت مهتمةً بالاستماع إلى أسئلة الصحافيين وقراءة تحليلاتهم حول سبب رفع حظر القيادة. هناك الكثير من النظريات: أحدها أن هذه طريقة لصرف انتباه الإعلام الدولي عن الأزمة الواقعة في اليمن وعن الاقتصاد السعودي الذي يوشك على الإفلاس. وسط هذه التكهنات، سأضيف نظريتي الخاصة: إنها جزء من لعبة القوة. لا أستطيع تجاهل المفارقة التي مفادها أن الملك السعودي الذي رفع حظر القيادة هو الرجل ذاته الذي كان حاكماً للرياض خلال احتجاج عام 1990. وأنه هو من اتخذ الإجراءات القاسية ضد النساء الـ47 عندما غض الطرف بينما أدانتهن المؤسسة الدينية ومعظم المجتمع على تحدي الحظر.
لكنني أظن أن السعودية تتغير هذه المرة. القائد الحالي للعبة القوة هو ولي العهد محمد بن سلمان. في ربيع عام 2017، أتيحت لي الفرصة للالتقاء بأعضاء فريقه المميز “رؤية 2030″، المسؤول عن تحديث المملكة. كنت متشككة للغاية، ولكن بعد بضع ساعات من المناقشات الساخنة وساعات أكثر من الدراسة والقراءة، صرتُ مؤيدة ومؤمنة بأن هذا الشاب يمكنه في النهاية أن يأتي بالتغيير. عندما عُين ولياً للعهد، كتبتُ على “تويتر”: “الآن أصبحت آمالي للسعودية أفضل وأكبر من السماء”.
كبح محمد بن سلمان جماح الشرطة الدينية، التي خنقتنا حرفياً ومجازياً، ورفع القيد عن قائمة طويلة كالموسيقى والفن ودور السينما، وكذلك على عمل النساء وحضورهن الأحداث الرياضية العامة، بل وحتى عن إغلاق المحلات خمس مرات في اليوم للصلاة. كما أنها المرة الأولى التي يكون فيها صاحب المنصب القيادي أصغر مني سناً، ومن الفئة العمرية التي تشكل غالبية سكان السعودية.
لكن هذه التغييرات قد لا تكون دائمة، فالنظام السياسي السعودي شديد التعقيد. بالنسبة إلى معظم العالم الخارجي، قد يبدو الأمر وكأن الملك في نظام ملكي مطلق يمنح الحاكم السلطة المطلقة لاتخاذ أي قرار وتنفيذه. ولكن الواقع أن النظام السياسي السعودي مليء بالمجموعات الصغيرة القوية، والتي لكل منها مصالح متضاربة. لا يوجد شيء مطلق.
أعتقد أن السماح للنساء بالقيادة سيكون تغييراً دائماً. بعض الأمور جلبت المزيد من العار على السعودية أكثر من هذا الحظر الوحشي. وهناك ما هو أكثر: لا يمكن السعودية أن تتقدم اقتصادياً إذا أبقت النساء المتعلمات تعليماً عالياً في المقعد الخلفي. أملي بأن يتم الجمع بين الإصلاحات الاقتصادية والإصلاحات السياسية، ما يؤدي إلى ملكية دستورية حيث يكون للناس ممثلون، وفي يوم ما، يمتلكون الحرية الكاملة في التعبير.
لن تكون هناك مملكة سعودية عصرية طالما ما زال الرجال يحكمون النساء. قد يستغرق الأمر وقتاً طويلاً، لكنني أعتقد أن المملكة ستنجح في تغيير هذا الأمر.
منال الشريف
الموضوع مترجم عن موقع the atlantic ولقراءة المقال الاصلي زوروا الموقع التالي