قبل أيام، تركنا صديقي الأكاديمي المؤرخ طارق سويلم. صحيح! لم يغب عن أيٍّ منا أن رحيله قريب، أن السرطان سيقتنصه من بيننا، وأن المنية ووجع الفقد يتربصان به وبنا. وربما لأنك يا طارق كنت حياةً لمن حولك تسير على قدمين ومقاتلاً صلداً عاندت المرض حتى استنفد منك كل طاقة، تشبثنا بالأمل حتى النهاية، وكم في الأمل من غدر؟
هذا ما همسته لنفسي حين رأيت الدموع في عيون أسرتك، وهم من عايشوا كل مراحل مرضك، تماسكوا وتجالدوا، لكن الخسارة غلبتنا جميعاً. كما يليق بزمننا، أتاني الخبر على الهاتف المحمول. ممنون لمن أعلمني وإن آلمني، فلولا تلك الرسالة ربما فاتتني الجنازة. آخر رسالة مني لك كانت قبل وفاتك بيومين، مزحة تمنيت أن تضحكك، آخر رسالة صوتية منك كانت قبل رحيلك ببضعة أسابيع، اعتذرت بصوتٍ ضعيف، وأنت الشديد الأدب، لي، وأنا العارف بحالك، عن تأخرك في الرد. الآن سيطول التأخر يا صديقي.
الموت صنو الحياة، من منا يجهل ذلك؟ لكن هناك مسافة بين ما سلم به المنطق وما يوخز القلب. حتى وإن لم تأتِ الَمَنية بغتة، مهما توقعتها وأعددت نفسك لخبرها، ستدهمك لحظةٌ تعي فيها أن كل تواصل مع الراحل أمسى مستحيلاً. لن يرد عليك، لن تسمع صوته، لن يشاركك الطعام الذي تعرف كم أَحبه، وهذا النقاش الذي كنت تراه الطرف الأمثل ليحاورك فيه لن يكون. قُضي الأمر ولا تبقى إلا الذكرى. صحيح، كما ينُسب للإمام علي: “نَفس المرء خطاه إلى أجله”، لا شيء في حيوانتا أكثر يقيناً من الموت، لكنه يبقى أصعب ما يمكن العيش معه.
شاركتك يا صديقي هوسك بالتاريخ، لكنك كنت أيضاً عاشقاً للفن الإسلامي، درسته وتخصصت فيه، وكنت ملماً بتطوره ودقائق تفاصيله. أذكر حديثاً طويلاً عن درة العمارة المملوكية العظمى: مسجد ومدرسة وبيمارستان السلطان حسن (بُني في القرن الرابع عشر الميلادي): تاريخ المبنى، قبته التي أخبرتني أنه قد أعيد بناؤها، مآذنه، مقرنصاته، أعمال الرخام فيه، مصير بابه الذي نهبه ونقله الى مسجده سلطان لاحق (المؤيد شيخ). معك كان التاريخ يأتي حياً، بخاصة إن تحدثنا عن دسائس المماليك ومؤامراتهم التي لم تنته إلا بنهايتهم، عساك تذكر روايتك لاغتيال الأشرف خليل قلاوون، السلطان ابن السلطان، بعد انتصاره المؤزر على الصليبيين في عكا وإنهاء وجودهم في الشام إلى الأبد، كيف اجتمع عليه أمراؤه الحانقون عليه، إذ بينما كان عسكرياً فذاً ، كان سياسياً محدود القدرات، الفتك والسجن والاحتقار ديدنه مع مماليك أبيه، فاغتالوه غدراً وهو المحارب الشاب فائق القوة. الآن، في هذه الحياة، الخيال بات المكان الوحيد الذي يمكننا الحديث فيه يا صديقي.
ربما لأنك يا طارق كنت حياةً لمن حولك تسير على قدمين ومقاتلاً صلداً عاندت المرض حتى استنفد منك كل طاقة، تشبثنا بالأمل حتى النهاية، وكم في الأمل من غدر؟
قبل بضع سنوات، وبناء على أطروحته التي نال بها الدكتوارة من جامعة هارفارد، نشر طارق الكتاب الأهم عن المبنى الأقرب إلى قلبي، مسجد ابن طولون، الصرح الهائل الذي تزيد مساحته عن ستة وعشرين ألف متر مربع. لشخص يعشق الفن الإسلامي والقاهرة وتاريخها لا مكان أصلح للدراسة. كما وثق صديقي في كتابه وكما تخبرنا مصادر مختلفة، هذا ثالث أقدم مسجد بني في مصر على الإطلاق، إذ يعود تاريخه الى القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي). جمال المبنى الأخاذ في بساطة تصميمه، صحن مربع هائل فسيح تحيط به صفوفٌ من الأعمدة، تزيد في جهة القبلة عن الأضلاع الثلاث الأخرى. هو في قلب المدينة ووسط صخبها وضجيجها، لكن عبور بابه دخول للسكينة، السماء مفتوحة والجوانب متطابقة، الزخارف جميلة لكنها بسيطة، يقذفك المسجد إلى روحك، يعزلك عن العالم ويربطك بالسماء بسلام التطابق البصري بين جوانبه وسكينة الفضاء المنفتح الذي يتوسطه. المسجد بناه ابن طولون، التركي الذي كان أول من نال استقلالاً فعلياً لمصر من العباسيين، لكن كل عهد تلا بناء هذا الصرح، باستثناء العصرين الأيوبي والعثماني، أضاف إليه وعدل ورمم، هنا مساهمات فاطمية ومملوكية وجهود إحياءٍ وترميم جبارة في عصر أسرة محمد علي وصولاً الى عصرنا الحالي. 12 قرناً من تاريخ مصر هنا، وبينما سبق المسجد بناء الفاطميين القاهرة (969 ميلادية)، إلا أن اتساع المدينة الهائل لم يتركه للوَحشة، بل احتضنته العاصمة الجديدة، وهو البناء الباقي وحيداً من عاصمة ابن طولون، القطائع.
ربما كان بديهياً يا صاحبي، كما أوصيت ما إن ُشخص مرضك، أن نصلي عليك هنا في مسجد ابن طولون الذي عشقت والذي درست كل تفصيلٍ فيه، وأن يسير طريق جنازتك بين نفائس عمارة القاهرة المملوكية التي همت بها حُباً، تلك التي حاولت ذات مرة أن أنهي حديثك عنها من دون جدوى، وصولاً إلى مرقدك الأخير في “ترُب الغفير”، على مرمى حجرٍ من أضرحة سلاطين مماليك، عبر الشارع منك قبة السلطان أبو سعيد قانصوه (ت 1500 ميلادية)، قريب منك الناصر فرج ابن برقوق (ت 1405 ميلادية) وفاتح قبرص الأشرف برسباي ( ت 1437) وآخر سلاطين المماليك العظام الأشرف قايتباي (ت 1497 ميلادية)، وكل منهم ترك لنا تحفة تُعجز الواصف وتُبهر الناظر. مع التاريخ والجمال عشت وإلى جوراهما رقدت. هنا مرقد أراه يليق بك قاهرياً ومصرياً وصديقاً ومؤرخاً بل وابناً فخوراً بأبيه.
لم نتحدث كثيراً عن والديك، لكن أذكر مرة بعد وفاة والدك كيف رويت لي أن الرجل وقد وصل إلى رتبة عميدٍ بالقوات البحرية المصرية، فُجع بكارثة حزيران/ يونيو 1967 فتوجه لدراسة التاريخ المصري القديم وصولاً لنيل درجة الدكتوراة فيه، وتخصص بالذات في دراسة الأهرامات، مصريٌ تماماً منا أن نقرأ التاريخ ونقدره عشقاً ونقداً وتمحيصاً، كنت في ذلك ابن أبيك، لكن كم منا في مقامك؟ في طريق الجنازة مررنا بمأذتنين مملوكتين رائعتين يتم “تفكيكهما”، كلاهما يعود الى عصر الباني الأعظم في تاريخ القاهرة السلطان الناصر قلاوون (ت 1341 ميلادية). الغرض كما يقال لنا “إصلاح” المأذنتين، أليس هذا ممكناً في مكانهم من دون تفكيك ونقلٍ يخشى منه؟ غير بعيدة من هنا أضرحة كثيرة، لمشهورين ومغمورين، مهددةٌ بالإزالة أو النقل، أبرزهم ممن سمعنا عنهم أخيراً أمير الشعراء أحمد شوقي وشاعر السيف والقلم محمود سامي البارودي، لطرقٍ أوسع وجسور مغروزة في عيوننا، لكن يا صديقي، تقدير الجمال والتراث والتاريخ، ناهيك بنسيج هذه المدينة التي عاشت فيك كما عشت فيها، لا يستوي فيه الناس. عسى روحك التي صعدت إلى بارئها لم ترَ هذا المشهد.
في الكتاب الذي أظنك تعرفه جيداً، الروضة البهية الزاهرة في خطط المعزية القاهرة، الذي وضعه ابن عبد الظاهر في القرن الثالث عشر الميلادي، قرأنا أن معشوقك، مسجد ابن طولون، حيث صلينا عليك، شُيد على جبل يشكر حيث الدعاء مستجاب وحيث يقال إن النبي موسى ناجى ربه، فعسى الله استجاب دعانا لك في صلاة الجنازة، وعسى ما عشقت من جمال وثراء ينجو من كل شر ويبقى بهجة لروحك يا صديقي.
إقرأوا أيضاً: