أصبحت المفاجأة علامة جديدة في “حروب” المنطقة، فمن دون سابق إنذار انطلقت عملية “ردع العدوان”، وسيطرت فصائل المعارضة السورية المسلّحة الإسلامية المدعومة تركياً، على إدلب وريفها وحلب وريفها وتتقدم نحو حماة، بقيادة هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً). وترافق الهجوم المسلح مع عودة مدنيين ومسلحين إلى بيوتهم التي هجّرهم منها النظام. هذا التوصيف مقدمة اختزالية للكثير من التعقيدات الخاصة بالشأن السوري بعد 2011.
أكثر ما يثير الاهتمام في الفيديوهات المتداولة هو مشاهد “الأسرى”، أي عناصر النظام الذين تلقي العناصر المسلحة القبض عليهم، إذ بدا واضحاً أن المسلحين ومن يسمون أنفسهم “المجاهدين -الثوار” حاولوا ضبط أدائهم قياساً بتجربة “جبهة النصرة” و”داعش” في العقد الماضي.
لم نشهد حتى الآن أعمال قتل وعنفاً دموياً كالسابق، لكن الفيديوهات الواردة لم تخلُ من عنف جسدي ولفظي ومن ضرب وتحقير، فقد تكرر استخدام عبارات مثل “نصيري نجس” و”علوي خنزير” وغيرهما، واستعراض طوائف “الأسرى” من الجنود، والتأكيد أن “أحفاد عمر” لا يقتلون الأسرى أو يسيئون معاملتهم.
ليس بـ”الشاورما” وحدها يحيا الإنسان !
أبرز الفيديوهات المنتشرة، تلك الخاصة بالشاورما، فكل “أسير” من قوى النظام لدى العناصر المسلّحة المعارضة يُمنح سندويشة شاورما وقنينة “لبن عيران”، في دلالة إلى “المعاملة الحسنة للأسرى”، ولا يضرب ولا ينكل به، بل يستمتع بسندويشة بعد سنوات من الضعف الجسدي وشح الطعام.
الشاورما محل عشق سوري، يبحث عنها المهجرون في المنافي لإيجاد الطعم الذي يعيدهم إلى سوريتهم، ويستخدمها وزير سوري مرة لتثمين راتب موظف بوصفه يكفي بضع سندويشات شاورما فقط، من دون أن ننسى تناول وزير الخارجية الإيراني سندويشة في دمشق حين زار الأسد لمناقشة “ردع العدوان”، الشاورما شأن سلطوي ودبلوماسي، علامة على “الحياة” في سوريا التي تنهار.
الشاورما علامة سياسية للسطوة على الحياة إذاً، من يتناولها ينجو، ويمتلك مقومات الرخاء، وحين تمنح لعسكري جائع، أشبه بعلامة على التفوق لا فقط العسكري بل السياسي أيضاً، تفوق مفاده أننا نؤمن لك الشاورما التي حرمك منها النظام، فطعام الجنود في جيش الأسد، لا يتجاوز بضع حبات بطاطا و”كؤوس متة” كما استعرض أحد ناشطي الفصائل حيز زار ثكنة لجيش النظام، ساخراً من “حياة الكلاب” التي يعيشها المجندون”، وهنا المفارقة، دبلوماسية السوريين وحروبهم تدور حول الحق بالشاورما !.
سندويشة الشاورما علامة على شرط الحياة الذي حُرم منه جنود النظام والخاضعين لإمرته، والذي ستوفره المعارضة المسلّحة، التي في الوقت ذاته تدمر “المشروبات الروحيّة”، لا في البيوت بل في المنطقة الحرة ومنزل المحافظ، وتتعجب من المقاتلات الكرديات كونهن “على الجبهة” و”بدون غطاء رأس”، وتؤكد استعادة مسجد بني أمية في حلب، وفي ما وُصف بـ”ممارسة فردية” يعلّق علم تركيا على أسوار قلعة حلب!
ربما حملة السلاح في سوريا أمام أسلوب يعيد تقسيم الخصوم السياسيين، أسلوب هزلي تراهن فصائل المعارضة المسلحة عليه عبر شرطين للحياة يتنازعان حول الشاورما، وقدرتها على زرع السكينة والاطمئنان، فإما ثوار مجاهدون مع شاورما أو تجنيد إلزامي مع بيضة وحبتي بطاطا!
“حماية الأقليات” بالخبز
لم يوفر المتحمّسون لعملية “رد العدوان” من قادة محليين وإعلاميين مرافقين لهم، فرصةً للحديث عن التمسك بحماية الأقليات، والتأكيد أنهم لن يتعرضوا للعنف أو يُحرموا من حقوقهم، بل وأنتجوا مقابلات وجولات في الأحياء المسيحية مفادها: أنظروا كيف هي الحياة طبيعية، أنظروا كيف “لا يمسسهم سوء”.
هذا الشكل بالذات من “استعراض” سردية “حماية الأقليات” هو الوجه الآخر لتهديدهم، عبر ترسيخ أقلّيتهم وضعفهم، والتأكيد أن الجهة التي تحمل السلاح لن تهددهم، وهي تستطيع، أي بصورة ما، الحفاظ على المنطق الأقلّي، وهذا إن تجرأنا واستثنينا أن تاريخ هيئة تحرير الشام في التعامل مع الأقليات الدينية في إدلب ليس بمشرف.
هذه المعاملة المشابهة بالتعامل مع “السكان الأصليين” لا يوازيها أي كلام عن تمثيل سياسي مثلاً، خصوصاً أن المظاهر العسكرية ستنسحب، وسيتم تسليم “حكومة الإنقاذ” مقاليد الحكم. بصورة ما، ستعود الحياة إلى “الطبيعيّ” اليومي والمبتذل والتبادلي، وسيخضع “الأخوة المسيحيون” لقوانين هذه الحكومة التي أعادت أول العام 20 عائلة مسيحية إلى قراهم في إدلب! علماً أن أكثر من 650 عائلة تركت مناطق سيطرة هيئة تحرير الشام، ولم يسمح لهم إلا لعام 2021 بالاحتفال بعيد الميلاد في كنيسة اليعقوبيّة التي زارها قائد جيش التحرير أبو محمد الجولاني عام 2022، وحالياً تتداول أخبار عن زيارة الجولاني لحلب وتطمينه العائلات المسيحيّة فيها!
اللافت في الخطاب أنه قائم على التطمين والحماية والصون، وكأن المسيحيين من “خارج الأمة” وضيوف على الأرض، هم أقلية بقيت في المنطقة لسوء حظها، ولا بد من مداراتها إكراهاً وتفادياً لـ”الحوادث الفرديّة”. وبالطبع يظهر الموقف المسيحي في البيان الصادر عن متروبوليت حلب وإسكندرون المطران أفرام معلولي بالشكل التالي: “نؤكد لكم يا أبناءنا الأحباء في حلب أننا باقون في حلب إلى جانب رعيتنا وفي كل الظروف، من أقساها إلى أحلاها”.
نحن أمام بلاغتين إذاً، بلاغة “حماية الأقليات” وبلاغة “مواجهة الأكثرية” التي تتمثل بالبقاء في المكان، والتمسك بالأرض، والدفاع عن الشعائري والطقوسي المُدان كفراً، أي بين بلاغة “العهدة العمريّة” وبلاغة “الشك العميق في فرحة الجار” حسب تعبير أحد الألمان الذي “جنّ” في آخر حياته. فلا تطمين الأقوى مطمئن، ولا صمود الأضعف يحرره من الأقليّة نحو الفاعلية السياسيّة، لأن الاتفاق على شكل العلاقة خارج إطار أيديولوجية المقدّس هو ببساطة غير موجود، والتقسيم هنا: الخبز للمسيحي والشاورما للعسكري!.
إقرأوا أيضاً: