تستمر الاشتباكات العسكرية بين فصائل المعارضة المتشددة بقيادة “إدارة العمليات العسكرية” وقوات النظام السوري والميليشيات الإيرانية المساندة لها لليوم الثالث على التوالي، على جبهات ريف محافظة إدلب الشرقي وريف محافظة حلب الغربي، والسيطرة على تلة خان طومان ذات الموقع الاستراتيجيّ، إلى حد الوصول إلى مشارف مدينة حلب.
العملية التي انطلقت صباح يوم الأربعاء 27 تشرين الثاني/ نوفمبر، جاءت تحت مسمى عملية “ردع العدوان”، كرّد على هجمات النظام وحلفائه التي تستهدف مناطق سيطرة المعارضة المتشددة، والتي ازدادت خلال الأشهر الأخيرة، بخاصة الهجمات بالطائرات الانتحارية، كما أعلن “أبو زبير الشامي” الناطق باسم “إدارة العمليات العسكرية”.
تفاصيل الهجوم
مع الساعات الأولى لفجر يوم الأربعاء 27 تشرين الثاني، شّن مقاتلو فصائل إدارة العمليات العسكرية في شمال غربي سوريا، هجوماً برياً واسع النطاق، استهدف خطوط الدفاع الأولى لقوات النظام والميليشيات الإيرانية في ريفَي إدلب الشرقي وحلب الغربي.
الهجوم بدأ بتمهيد ناري كثيف لفصائل “إدارة العمليات العسكرية”، التي تشكل غرفة “عمليات الفتح المبين” المناطة بها إدارة مناطق سيطرة “حكومة الإنقاذ”، وتعتبر “هيئة تحرير الشام” و”الجبهة الوطنية للتحرير” و “جيش العزة” أكبر فصائلها، إضافة الى مشاركة حركة نور الدين الزنكي وفصائل تابعة للجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا.
تقدُّم الفصائل المسلحة المتشددة جاء عبر محورَين لحظة انطلاق المعركة، المحور الأول في ريف إدلب الشرقي، انطلاقاً من بلدتي كفر عمة وكفر تعال، باتجاه مناطق أورم الكبرى والصغرى والشيخ علي. أما المحور الثاني فانطلق في ريف حلب الغربي من جهة الشيخ سليمان والفوج 111 باتجاه بلدتي قبتان الجبل والشيخ عقيل، وخان طومان.
وعلى رغم حشدها تعزيزات كثيرة خلال الأشهر الأخيرة على جبهات التماس في إدلب وحلب، إلا أن قوات النظام السوري انهارت بشكل كبير خلال الساعات الأولى للهجوم، إذ تمكنت فصائل المعارضة السورية المتشددة حتى الآن من السيطرة على مساحة تقدّر بـ 220 كم مربع في المناطق المستهدفة، إضافة الى قطع الطريق الدولي M5 من جهة بلدة الزربة وخان العسل.
تعتبر مدن أورم الكبرى، عنجارة، كفرناها، قبتان الجبل، خان العسل، الزربة، وجزء من سراقب، أهم البلدات والمدن التي سيطرت عليها المعارضة السورية، فيما يعتبر الفوج 46 ومدرسة الكيمياء على أطراف سراقب أهم نقطتين عسكريتين سيطرت عليها القوات المهاجمة.
مع استمرار الهجوم العسكري وانهيار قوات النظام، باتت فصائل إدارة العمليات العسكرية داخل ريف حلب الجنوبي على أطراف العيس وأيضاً خان طومان، التي تعتبر أهم القواعد العسكرية للنظام والميليشيات الإيرانية في ريف حلب وعلى بعد أقل من 3 كم من المدينة.
التكتيك العسكري للمعركة
على رغم وجود فصائل مختلفة عسكرياً وعقائدياً ضمن العملية، إلا أن لمسات “هيئة تحرير الشام” وأسلوبها العسكري كانا واضحين، وهذا لا يعود فقط الى أنها أقوى الفصائل المشاركة بل كونها العمود الأساسي للعملية العسكرية.
الهجوم جاء في بعض جوانبه كلاسيكياً ضمن المعتاد، مثل الهجوم فجراً مع ساعات الصباح الأولى، إضافة الى التمهيد المدفعي والصاروخي المكثف على خطوط الدفاع الأولى للنظام، وأيضاً استخدام عمليات التسلل خلف خطوط العدو.
إلا أن الهجوم حمل في جوانب أخرى تطوراً مهماً في القدرات العسكرية للفصائل المعارضة السورية في الشمال غرب سوريا، وهو استخدام الناقلات المدرعة للجنود بكثرة، وهي في غالبيتها مدرعات صُنِّعت وطُوِّرت محلياً، ما ساهم في نقل الجنود بطريقة آمنة، ودخول المناطق التي توجد فيها قوات النظام والميليشيات الموالية لها بكل سهولة، وبالتالي خفّف من الخسائر البشرية في صفوف قوات الاقتحام التابعة لإدارة العمليات العسكرية.
التطور العسكري الثاني لقوات المعارضة المتشدّدة، الذي كشفه الهجوم، هو توافر وتطور آليات القتال الليلي لدى تلك الفصائل، بما فيها معدات الرؤية الليلة والقناصات الحرارية لدى المقاتلين، ما ساهم في استغلال الفترات الليلية للتقدم ورصد تحركات النظام والتعامل معها، وهذا ما يفسر كم المدن والبلدات والقرى التي سقطت خلال أقل من 72 ساعة من الهجوم.
أما أهم التطورات في التكتيك العسكري، التي كشفتها هذه المعركة، هو سلاح الطائرات المسيرة الانتحارية منها أو الخاصة بتصوير أرض المعركة ونقاط تمركز النظام، إذ أطلقت الفصائل ثلاثة أنواع من الطائرات خلال المعركة، أولها الطائرات المسيرة المجنحة الانتحارية، التي تستخدم للمرة الأولى، والتي ضربت نقاط النظام في اليوم الأول للهجوم، وثانيها طائرات مسيرة تحمل قنابل ومتفجرات، وتظهر الفيديوات العشرات منها، استهدفت عناصر النظام وآلياته، أما ثالثها فهو طائرات الاستطلاع والتصوير التي مسحت أرض المعركة للقوات المتقدّمة.
تطور سلاح المسيرات لدى فصائل المعارضة السورية كان له دور بارز في العملية، لكن حتى اللحظة لا يوجد أي تأكيد حول ما إذا كانت هذه الطائرات هي صناعة محلية أم تم الحصول عليها من عمليات شراء أو دعم من جهة ما.
لكن، على رغم تطور القدرات الهجومية لقوات المعارضة السورية ودخول أساليب عسكرية جديدة ضمن المعركة، إلا أن تقدمها الكبير لا يعود الى هذه التكتيكات أو التطور العسكري فقط، إنما الى حدوث خرق عسكري ضمن جبهات ريف حلب الغربية، ساهم في كسر خطوط الدفاع عبر عملية تسلل فاجأت قوات النظام السوري وأربكتها، ما سمح للقوات المهاجمة بالدخول خلف الخطين الأول والثاني الدفاعية، حيث أرسلت الفصائل قرابة الـ1500 مقاتل عبر هذا الخرق، وهذا يفسر سبب تقدم المعارضة بريف حلب الغربي بسرعة، مقابل تقدم بطيء لها في ريف إدلب الشرقي.
خسائر على الطرفين
أعلنت “إدارة العمليات العسكرية ” ليلة أمس الخميس، أن عدد قتلى قوات النظام السوري وصل إلى أكثر من 200 عنصر، إضافة إلى مئات الجرحى وأكثر من 50 أسيراً، نُقلوا إلى مناطق آمنة بعيداً من الاشتباكات.
كما تظهر المقاطع الواردة من أرض المعركة سيطرة فصائل المعارضة السورية على العشرات من الدبابات والمدرعات ومضادات الطائرات من عيار 14,5 و23، ومستودعات أسلحة وذخائر، بينها صواريخ مضادة للمدرعات من نوع كورنيت وكونكورس.
من جانب آخر، أعلنت وسائل إعلام إيرانية مقتل العميد في الحرس الثوري الإيراني کیومرث پورهاشمی (الحاج هاشم) أثناء المعارك الدائرة في ريف حلب الغربي ضمن عملية “ردع العدوان”.
إدارة العمليات العسكرية لم تعلن خلال بياناتها عن عدد القتلى في صفوفها خلال الهجوم، لكن المنطقة شهدت حالات تشييع كثيرة لقتلى قيل إنهم سقطوا نتيجة المعارك في ريفَي حلب وإدلب ضد قوات النظام.
الدفاع المدني السوري أعلن من جانبه، عن مقتل 16 مدنياً بينهم 5 أطفال وامرأتان، وجرح 5 مدنيين بينهم طفلان، يوم الخميس 28 تشرين الثاني، نتيجة قصف طائرات النظام وروسيا مدينة الأتارب في ريف حلب ومناطق متفرّقة من محافظة إدلب.
حدود المعركة وموقف الأطراف
لا يمكن التكهّن حتى الآن بكيفية سير العملية العسكرية ولا حدود المعركة، لكن سيطرة فصائل المعارضة على كل تلك المساحات سيشكّل خرائط جديدة لتوزّع السيطرة في سوريا، بعدما حافظت على توزّعها القديم منذ عام 2020 ضمن خمس مناطق نفوذ رئيسية، 63 في المئة منها بيد النظام بدعم إيراني- روسي، مناطق “قسد” المدعومة أميركياً، مناطق الجيش الوطني المدعوم تركياً، إدلب وريفها المسيطَر عليها من “هيئة تحرير الشام” وحكومة الإنقاذ، ومنطقة التنف، التي يديرها جيش سوريا الجديد بدعم أميركي.
يعتقد البعض أن المعركة مرسومة الحدود، وهذه الحدود تتوقف على استعادة الأراضي التي خسرتها المعارضة ضمن مناطق خفض التصعيد التي اتفقت عليها روسيا وإيران وتركيا في عام 2019، فيما يرى البعض أن العملية مفتوحة ولن تتوقف إلا في حالة وصول الفصائل إلى عجز عسكري يمنعها من التقدم أكثر.
ماجد عبدالنور، صحافي وناشط سوري مقيم في شمال سوريا، قال لـ”درج”: “إن العملية لم تكن لها أهداف محددة سوى الرد على عدوان النظام المستمر على المناطق المحررة، لكن بعد انهيار قوات النظام وحدوث خرق في بعض المناطق، فإن العمل سيستمر حتى تصل الفصائل إلى مرحلة العجز عن التقدم أكثر، حتى لو ساهم هذا التقدم في السيطرة على حلب أو حتى ما بعدها”.
وأضاف عبدالنور: “أن وصول القوات المهاجمة إلى M5 واستمرار التقدم إلى ما بعده وعدم توقف المعركة، سيعني أن المعركة تتجاوز حدود اتفاق خفض التصعيد، لتنطلق إلى إعادة السيطرة على المناطق التي خسرتها المعارضة بموجب اتفاق أستانة 2016، مثل مورك ومعرة النعمان وكفر نبل وغيرها”.
وأشار عبدالنور إلى “أن حالة الانهيار السريع في قوات النظام والميليشيات الموالية لها، فتحت الباب أمام “إدارة العمليات العسكرية”، حيث الحديث عن أن التقدم سيستمر من دون توقف طالما أن النظام ينهار، والعامل الوحيد لتوقف المعركة الهجومية هو العجز العسكري عن إحراز أي تقدم جديد”.
غياب أهداف معلنة للعملية العسكرية أو حدودها، لم يمنع تأييد أطراف عدة لها، في مقدمها تركيا، إذ نقلت وكالة “رويترز” عن مصادر أمنية تركية، قولها “إن عملية المعارضة السورية باتجاه حلب وريف إدلب تقع ضمن حدود مناطق خفض التصعيد التي تم التوافق عليها بين روسيا إيران وتركيا عام 2019، وإن هدف المعركة هو العودة إلى تلك الحدود”.
دعم تركيا العملية رغم كونه غير مباشر، تهدف من خلاله إلى أمرين، الأول الضغط على النظام السوري، الذي رفض مبادرات التطبيع التي طرحتها أنقرة خلال العام الماضي، ودعوات أردوغان المتكررة لبشار الأسد، إضافة الى تهديد وجود إيران الاستراتيجي في مناطق ريف إدلب وريف حلب، بسبب ضغط إيران على النظام لرفض التطبيع مع تركيا، وهذا بدا جلياً من خلال الاستهداف المتكرر من ميليشياتها لمناطق سيطرة المعارضة شمال غربي سوريا، وما يحمله من إحراج لتركيا كونها الضامن لها.
الهدف التركي الثاني هو قطع الطريق على أي مكاسب لقوات سوريا الديمقراطية في حال انسحاب إيران من سوريا والمنطقة، إضافة الى أن التقدم في حال استمراره في ريف حلب، وخاصة إذا وصل الريف الشرقي، سيعزل جيب “قسد” و “قوات تحرير عفرين” الموجودة في تل رفعت، والتي تعتبر منطلقاً لهجمات تستهدف مناطق الجيش الوطني، حليف تركيا.
الائتلاف الوطني السوري أعلن في بيان رسمي، تأييده للعملية العسكرية التي أطلقتها فصائل المعارضة، وقال “إن العملية تهدف إلى حماية المدنيين وردع اعتداءات النظام والميليشيات الإيرانية”.
المجلس الإسلامي السوري أعلن أيضاً عن تأييده العملية ومباركتها، وشدد في بيان، على ضرورة التمسك بالقيم الإسلامية والتكاتف في مواجهة عدوان النظام وحلفائه”.
أما وزارة الدفاع السورية فقالت في بيان رسمي صادر عنها، “إن تنظيمات إرهابية مسلحة منضوية تحت ما يسمى “جبهة النصرة” في ريفي حلب وإدلب، شنت هجوماً كبيراً على مناطق سيطرة الحكومة السورية”، وذكرت أنها لا تزال تتصدى للهجوم وكبّدت المجموعات المهاجمة خسائر كبيرة بالمعدات والأرواح”. فيما لم يصدر أي بيان رسمي من القوات الروسية في سوريا حول الهجوم، كما أن المشاركة العسكرية الروسية، وبخاصة سلاح الجو، جاءت خجولة بقصف أهداف مدنية في إدلب وحلب، على عكس سابق الهجمات حيث كان الطيران الروسي يقوم بعمليات إسناد عسكري للقوات على الأرض، إضافة الى قصف المدن والبلدات بمئات الغارات والطلعات الجوية.
إيران وحزب الله خاسران
خلال الأشهر الأخيرة ومع الضربات التي تلقاها حزب الله في لبنان، والضربات التي استهدفت الميليشيات الإيرانية في سوريا على يد جيش الاحتلال الإسرائيلي، عمل الطرفان على إيجاد مناطق تمركز مؤقتة تحمي ما تبقى من عناصر الحزب وأسلحته، بخاصة التي كانت في سوريا، إذ بدأ الطرفان بإعادة تموضع ضمن البلدات والقرى الواقعة في ريف حلب وإدلب.
اختيار الحزب وإيران تلك المناطق جاء لأسباب عدة، أولها، بعدها النظري عن الأراضي الفلسطينية، ما يخفف من احتمالية استهدافها المتكرر من سلاح الجو الإسرائيلي. كذلك، تشكّل تلك المناطق الخالية من السكان مكاناً آمناً لنقل مقاتلي الحزب وعائلاتهم للعيش داخلها كونها فارغة من السكان.
الهجوم العسكري لفصائل المعارضة والتقدم السريع داخل تلك المناطق، هدما خطة إيران في إعادة تموضع حزب الله وبعض ميليشياته في سوريا داخل تلك المناطق، ما قد يدفع مقاتلي الحزب للانتقال إلى مناطق أخرى في سوريا، أو العودة إلى لبنان، بخاصة في ظل التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار مع الجانب الإسرائيلي.
إن منع إعادة تموضع الحزب والقوات الإيرانية في تلك المناطق وتمدّدهما، من شأنه إضعاف القوى العسكرية الحامية لمدينة حلب، ما يفتح المجال لفصائل المعارضة خلال هذه المعركة أو مستقبلاً، للسيطرة على مدينة حلب، ما سيُعتبر أهم إنجاز عسكري للثورة السورية منذ عام 2016.
تشكّل محافظة حلب وريفها، أهمية رمزية واقتصادية وجغرافية، كونها أكبر كتلة سكانية في سوريا مع العاصمة دمشق، وسيطرة أي طرف عليها كلياً أو جزئياً، ستكون ورقة تفاوض قوية ضمن عملية الانتقال السياسي وفق قرار مجلس الأمن 2254 مستقبلاً.
إقرأوا أيضاً: