بثّت كتائب القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، مقطعاً مصوراً يظهر فيه عناصر من القسام يخططون لعملية ضد الجيش الإسرائيلي، في زاوية الفيديو، يظهر كتاب “رسائل من القرآن” المنشور عام 2021، للكاتب الفلسطيني المولود في لبنان أدهم شرقاوي.
راجت كتب شرقاوي على تطبيق “أبجد” بعد ظهور المقطع المصوّر، وتحول إلى “كاتب الشهر” على التطبيق، وانتشرت اقتباسات من كتبه على وسائل التواصل الاجتماعي على شكل منشورات وتغريدات.
نحن أمام كاتب، ما زال يستمد من “الرعيل الأول” ويقصّ علينا حكمه، إذ له مقالات نشرت مؤخراً تحمل عناوين كـ”دروس من غزوة أحد“، وفي مقال بعنوان “سيقولون لك …فقل لهم”، يقارن شرقاوي بصورة غير مباشرة الغزيين بأصحاب الأخدود، وكلاهما”شهداء بإذن الله وليسوا ضحايا”.
نصائح للـ”الثلة القليلة المؤمنة”
سبق أن ظهرت كتب دينية في تسجيلات القسّام أو التسجيلات التي بثها الجيش الإسرائيلي لما قال إنه “أوكار للقسام،” لكن هذا الكتاب كان الأوضح، والأكثر قرباً من المقاتلين أثناء “عملهم” وتخطيطهم للعملية.
نحن أمام كتاب ينتمي لـ”زمن الحرب”، هو سلوان المقاتلين، وربما مُلهم إياهم، وهذا ربما ما يفسر رواج كتب شرقاوي على تطبيقات القراءة، الذي قال إن “الفخر والامتنان” اعتلاه حين شاهد المقطع المصوّر، واصفاً المقاتلين بـ”الثلة القليلة المؤمنة”.
يضع الشرقاوي اسم الشاعر الجاهلي “قسّ بن ساعدة” تحت اسمه في الكتاب، اسم القلم الذي يتبناه، وابن ساعدة هذا تدور حوله الكثير من الأقاويل، يقال إنه واحد ممن أخذ عنهم محمد بن عبد الله” العِلم، وبشر بنبوة محمد قبل ولادته.
لكن ما يهمنا فعلاً هو الكتاب نفسه، الذي لا مبالغة إن قلنا أنه لا يحوي ما يزيد على تعليقات شديدة البساطة على بعض الآيات القرآنية، وبلاغة وحذلقة في الشرح تدعو إلى السكينة والاطمئنان تارة، والتأمل في حكمة الله تارةً أخرى، أو العض على جذع الشجرة إلى حين يأتي الموت أو الشهادة.
هذا كتاب يقرأه مقاتلون في ساحات المعارك وفي الأنفاق، يبحثون عن السكينة والنُصح تحت وطأة الصواريخ الإسرائيليّة، لكن، لم هذا الكتاب بالذات، ذاك الذي لا يحوي مخططات حربيّة، أو نصائح في “الغزوات”، كآخر إصدارت زعيم القاعدة محمد صلاح الدين زيدان المعنون بـ” قراءة حرّة في كتاب 33 استراتيجيّة”؟ الإجابة هي: لا نعلم، ربما هي مصادفة، أو حذلقة.
يحوي الكتاب حِكماً متعددة، كـ”هذا الكوكب عاق” تعليقاً على بيع النبي يوسف، أو “الباطل يكسب المعركة والحق يكسب الحربّ”، كلها عبارات جوفاء، لا تختلف عن كتب تطوير الذات، لكن بنسخة إسلاميّة. نقرأ أيضاً عبارات شديدة الغرابة كـ”الرجل هو الرجل والمرأة هي المرأة”، وعلى المرأة “أن تقاتل بشراسة دفاعاً عن أنوثتها”، وفي حال عجز الرجل عن فهم هذا “القتال”، بالإمكان مراجعة كتاب الشرقاوي “للرجال فقط مبادئ للتعامل مع النساء”.
يخاطب الكتاب القارئ مباشرة، أي أنت يا من تقلب الصفحات “أقرأ القرآن بنفس العين التي أذنبت”، شرقاوي هنا ناصح، ويشرح “أمراض العصر” للقارئ، فـ”العري موضة، والفحش حضارة، والزنا انفتاح”، الكتاب إذاً يكشف الوهم، ويرفع غشاوة العصر،”لأن الموت لا ينتظر”.
نطرح سؤال القراءة كوننا أمام كتاب ينتمي إلى العالم “المدنيّ”، ولا يشابه منشورات القسام العملياتيّة والدعائيّة، أما على مستوى المقاتلين، فأن “يتسرب” كتاب يشبه تلك الخاصة بـ”تطوير الذات”، يتركنا أمام نوع من السخرية ربما، أو نظريات المؤامرة، أو ببساطة، هو كتاب لا يثير الشبهة.
نطرح سؤال السخرية، كون الفيديو الذي ظهر فيه الكتاب يصوّر كميناً يحتاج للتخطيط والحذر والحذق، هي ليست لحظة “حياة عادية” في النفق، بل لحظة حساسة وظهور كتاب فيها مُلفت، كوننا في زمن “العمل” لا “الراحة”، والواضح أن الكتاب لم يكن مُلقى جزافاً، أو ظهر فجأة، فلا شيء مجاني في الصورة!.
القراءة في تلك اللحظة (أو استعراض الكتاب) يحوي مفارقة مُلفتة، كوننا في لحظة حركية، لا ثبات فيها، لحظة خطر وتهديد دائم، والكتاب نظرياً يحتاج سكينةً وسكوناً، ولأن القراءة تحتاج على الأقل إلى ثبات جسدي، لكن ربما القراءة تحت تهديد الصواريخ لا ينجح معها سوى هكذا نوع من الكتاب، ونقصد شكلها، أسطر قليلة في كل فقرة تشرح آية قرآنية، ثم كرّ وفر!.
الرغبة المُريبة بالـ”نص” أم بالـ”تريند”؟
نحن أمام كتاب يصلح للتأمل السطحي، فصيغة وبنية الحكم والشروحات يمكن ملأها بتجربة القارئ مهما كان السياق الذي تظهر فيه، ثم الوصول إلى نتيجة سهلة ومنطقيّة، وهي التمسك بـ”حبل الله”.
يعكس ظهور الكتاب ربما طبيعة من يقاتلون وأهواءهم، في رهان على الرغبة بـ”النص” بوصفه وسيلة لشدّ العزيمة لا فقط ملء وقت الفراغ،ما يتركنا أمام سؤال حول الذوق الأدبي نفسه، إذ لا ننسى أن المقاتلين ينتمون لهذا العصر، وزمن وسائل التواصل الاجتماعي، وكما خاطبوا الدويري رغبة بـ”التريند”، ربما خاطبوا المؤلف رغبةً في تقديم أنفسهم بصورة مغايرة عن المعتاد، كجيل ينتمي إلى كتب تطوير الذات، التي نغرق بها حالياً.
لكن لا بد أيضاً من طرح سؤال حول “أبجد”، وسياسة التسويق، فإن يظهر الكتاب في القائمة الرئيسيّة لأكثر من شهر شأن ملفت، لتكون المفارقة أن توصيات الكتب تتحرك بين ما يقرأه مقاتلو القسّام وبين مذكرات عبدالله المسيري!.
يأسر الكتاب السابق وما على شاكلته القراء في زمن بعيد زمننا هذا، هو نداء من الماضي ودعوة للعودة إليه، يفقد فيه الحاضر قيمته، في رهان على أن “القراءة” اليوم مشوبة ومعطوبة، ويبدو أن “زمن الحرب” هو القادر على استعادة تلك القراءة الماضوية ما تحمله من “حكم” تتعالى على الراهن وما يحكمه من نظام استعراض خطر، فـ”في مواقع التواصل، إن لم يكن لك حسنة جارية، فعلى الأقل لا تترك سيئة جارية تموت أنت وتبقى هي”.
من كتب “زمن الحرب” إلى كتب “أزمنة السلم”
إن كان رواج كتب شرقاوي مرتبط بـ”زمن الحرب”، فـ”أزمنة السلم”، ولنقل مبالغة أنها قبل 7 أكتوبر، تفترض كتباً استهلاكيّة خاصةً بها، راجت أيضاً عبر تطبيق “أبجد”، وتحولت نسخها المطبوعة إلى جزء من “ديكور” صور إنستاغرام، بوصفها علامة على نوع من أنواع القراءة كوعي بـ”العالم” لابد من استعراضه، ونقصد الوعي، لا العالم.
يتحول الكتاب في الحالة السابقة إلى موقف يتجاوز الرغبة بالقراءة، نحو بث مجموعة من القيم، خصوصاً أن الصورة ليست بريئة، مكوناتها في عالم الاستعراض واقتصاد الانتباه ذات جدوى.
نحن أمام “صورة القارئ”، بمعناها الحرفي، لا ذاك الأدبي، صورة تختلف عن حلم فرانز كافكا بالقراءة في كهف وحيداً على ضوء شمعة، نحن أمام قارئ يستعرض نفسه وكتبه أمام عدد لا متناه من المتابعين، فكما يستهلك هو الكتاب، تستهلكه الخوارزميات، فهل فعلاً هؤلاء القرّاء يمتهنون “فن اللامبالاة”؟.
ماذا نقرأ في زمن السلم؟
ساهم لاعب كرة القدم المصري محمد صلاح، بزيادة مبيعات كتاب “فن اللامبالاة”، حين نشر صورة له عبر تويتر، وهو يقرأ الكتاب عام 2018، وأطلق “تريند” أخذ صورة مع الكتاب، بوصفها علامة على الترفع على الهراء اليومي.
ما يثير الحفيظة ربما، أن كثراً ممن عرضوا صورهم على السوشيال ميديا مع الكتاب يظنون أنهم كصلاح نفسه، يملكون ترف اللامبالاة التي يتمتع بها نجم ليفربول صاحب دخل الـ200 ألف جنيه إسترليني أسبوعياً حينها.
كتاب مارك مانسون “فن اللامبالاة” الصادر عام 2016، مُصنّف كـ”مساعدة للذات”، ولا نظن أنه كان لينال ذات الشهرة التي حصل عليها، لو ترجم عنوانه بصورة حرفيّة أو أقرب إلى المعنى المفترض بالإنكليزية، (The Subtle Art of Not Giving a Fuck).
اقترح هنا مثلاً ترجمة “فن الـلطيزي الحذق”، العنوان الذي يشابه عنوان كتاب مانسون الصادر عام 2019، Everything Is Fucked-a Book about hope، الذي يمكن ترجمته بـ”انتاك كل شيء- كتاب عن الأمل”.
لا يهمنا حقيقة الكتاب بالذات، بل مجموعة من الكتب التي تدور في نفس الفلك، وانتشرت بالعربيّة مترجمةً، ككتاب “البشر- موجز لتاريخ كيف أفسدنا كل شيء” لـتوم فيليس، الصادر عام 2018، (Humans: A Brief History of How We Fucked It All Up)، وعنوانه المترجم بدقة: “البشر: تاريخ موجز لكيف نكنا كل شيء” أو كتابه الآخر الصادر عام 2019، Truth: A Brief History of Total Bullshit، الذي ترجم للعربية عام 2020 بعنوان “الحقيقة: لمحة مختصرة عن تاريخ الهراء”، بينما العنوان لو ترجم بدقة فهو “الحقيقة: تاريخ مختصر لأكل الخراء”.
هذه الكتب، التي يروج لها تطبيق “أبجد”، وتُنشر الاقتباسات منها على وسائل التواصل الاجتماعي، تاركةً عيون قارئها تشعّ “حذقاً”، تُكسب القارئ نوعاً من التعالي بعد الانتهاء منها، لا فقط لزخمها بـ”المعلومات العامة” والمفارقات التاريخيّة، بل أيضاً، كونها تدفع القارئ نحو تبني وجهة نظر الكاتب نفسه، الذي يبدو شخصاً عادياً، قرأ وبحث في موسوعات الانترنت اللامتناهيّة، واكتشف مثلا أن “التركيز على ما هو إيجابيّ، لا يفعل شيئاً غير تذكيرنا مرة بعد مرة بما لسنا عليه..”، حسب نصيحة مارك مانسون.
النصيحة السابقة التي تبدو مثل “بديهية” أضاء عليها مانسون، لا تختلف عن كتب تطوير الذات سوى أنها تتبنى البلاغة السلبيّة، فعوضاً عن أن نقول، (أنا سيء والعالم من حولي جيد ومليء بالفرص)، يكفي أن نعكسها، (أنا جيد، والعالم من حولي سيء). هكذا نكتشف شكلاً جديداً لـ”مساعدة الذات”، ونوعاً من السينيكيّة التي تحاول النجاة من سموم العالم، وحماقات البشر وغياب الحقيقة.
كُتبْ كلّ من مانسون وفيليس ظهرت حول عام 2018، أثناء جدل “البريكزت”، ووصول دونالد ترامب إلى السلطة محطماً صورة الحلم لأمريكيّ، كاشفاً عن جهل هائل وتعصّب في بلاد العم سام، تلك التي تحوي مؤمنين بالأرض المسطحة، وكارعي الكلور للتعافي من كورونا، فوصول ترامب إلى سدّة الرئاسة كشف أن اليسار الساخر، لا يمتلك قوة انتخابيّة كافية، لكن أين نحن قرّاء العربيّة من كل هذا؟، وهل مبالاتنا من عدمها ذات أهميّة؟.
مفارقة “أديباس”
المعروف أن علامة “أديباس” هي النسخة المقلّدة من العلامة الألمانية الشهيرة أديداس، فـ”أديباس” أرخص ثمناً، وأقل راحةً، لكنها تخدع من ينظر إليها، تلتبس عليه الأحرف، ولا يكشف “التزوير” إلّا بعد التدقيق.
الالتباس السابق هو بالضبط ما تخلقه هذه “الكتب” لدى القارئ حين “يستهلكها” بالعربيّة، هي نوع من أنواع الترفيه المستورد، الذي لا يضرب أمثلة من عالمنا ولا يرانا كليّا (إن استثنينا طبعاً حكايات فيليس عن السلطة العثمانيّة).
هي أشبه بأحذية مُقلدة، تنفخ “الأنا”، تمارس “النصح السلبيّ” لجَلدْ البشريّة والتأكيد على “الأنا”، وقدرتها على التفوق على “الآخرين” أو “البشر الأقل حذقاً”، بوصفهم ذوي حضارة حمقاء، وتاريخ مليء بالكذب راح ضحيته الدول المُستعمَرة، بسبب حماقات المستعمرين الأشهر، الأوروبيين، الذين لم تسلم منهم أمريكا وأستراليا.
هذه الكتب آنية الأثر، أشبه بأديباس، غير مريحة، تملأ الغرور المعرفي بسرعة، بمعلومات وآراء مُطعّمةً ببذاءة، تختفي من العناوين العربيّة، بصورة أخرى، نستهلك الكتاب بمجرد إغلاق آخر صفحة، ليبقى في الذاكرة تلك المعلومات البسيطة عن أزمة الأرنب في أستراليا، وقتل السلاطين العثمانيين لإخوتهم خوفاً على العرش.
توهم هذه الكتب القارئ بأنه يمتلك حذق القراءة الثقافيّة، هي اختزالية، أشبه بالقوائم المنتشرة في كل مواقع الأخبار، تركز على المفاهيم بوصفها مسلماً بها، كالخطأ، بوصفه فعلاً شخصياً بحتاً، أدى مثلاً إلى احتراق الأنهار في الولايات المتحدة، أو الكذب، بوصفه شأنا يمارسه أحدهم ببلاهة، وينساق وراءه “الجميع” عميان دون أي تفكير، والجميع هنا كلمة حساسة، لكن لأجل الترفيه يمكن قبولها.
المفارقات في الكتب، القائمة على القراءات السريعة والحذق الذي لا يمكن إنكاره، أنها ترسم تاريخاً شديدة السوداويّة للعالم، ولا مشكلة في ذلك، لكن التاريخ “سُلطة” لا مجرد أحداث، واختزاله إلى مفارقات والتسليم بها كـ”حقائق” إشكالي!.
يبدو أن ما تحاول هذه الكتب قوله كالتالي: “نـكنا كل شيء وأكلنا خراءه، وبقي الآن أن نتأمل ما تبقى مع محمد صلاح ونقول لطـيزي! ونحن نرتدي العلامات التجارية المزيّفة”.
هيراقليطس وأن تستحم بالـخراء مرتين
هنا حكاية تحوي مفارقة، هيراقليطس، أبو الديالكتيك، وصاحب الشذرة الشهيرة “أنت لا تستحم في النهر مرتين”، مات بعد أن دفن نفسه بالخراء ظناً أن ذلك سيشفيه من المرض.
لكن، ماذا تعني الحكاية السابقة لو أردنا قراءتها كعلامة على تاريخ الفلسفة، أو إحدى مفارقاتها، حقيقية، لا شيء. هي تخلق فقط شعوراً بالرضا الذاتي (في زمن الطب فيه شديد التطور)، عن أن أهم العقول يمكن أن تقع في الخطأ أو الخراء.
تكمن إشكالية كتب “الترفيه”، والأكاذيب”تطوير الذات” هذه حين نقرأها باللغة العربيّة، أنّها مُحمّلة بأخطاء “الآخرين” من مستعمرين وسياسيين، أما “نحن” فغير موجودين فيها، لا أننا لا نمتلك “أخطاءنا” و”تاريخنا” المزوّر، والأكاذيب التي ما زالت تردد إلى الآن، بل لأننا ضحايا غير مرئيين.
هذا النوع من الترفيه، على رغم زخم المعلومات فيه، أشبه بالمقالات الترفيهية التي تنتشر في باز فيد، والتي للمصادفة أن توم فيليس نفسه كان محرراً فيها، ناهيك بأن كلمات كـ”تاريخ” و “مختصر”، تحمل نوعاً من الاختزال المتعالي، وتقدم قراءة ترفيهيّة، عدميّة بصورة مفرطة، لا تبحث حتى عن أثر هذا التاريخ “الآن”، بل تتأمل الخطأ أو الكذبة التاريخيّة بوصفه خبراً، لا حكاية ذات أيديولوجية وراءها.
ما نحاول قوله، أن هناك نوع من الكتابة الترفيهيّة القائمة على السخرية والمفارقة والبذاءة في بعض الأحياء، وحين تقدم للقارئ العربيّ منقحة و”نظيفة” وبعيدة عنه وخارج سياقها، ومحملة بعدميّة وسينيكيّة مفرطة، تترك البعض، كمن يستحم بالخراء مرتين، مرّة حين يتأمل حوله الخراب في المنطقة العربيّة، ومرّة حين يغرق في “أناه” المتعالية بعد القراءة، مردداً كم هم “حمقى” أولئك الذين في الكتاب، متجاهلاً ولو جزئياً، أننا “كلنا” ضحايا سلطة التاريخ هذه.
خطاب ديوجانس أو أن تبول بوجه الفلسفة و”التاريخ”
ديوجانيس أحد فلاسفة الكلبيية، كان يستمني ويبول في الأسواق علناً، واصفاً ما يفعله بـالـ”خطاب” الذي يستحق المناظرة. هذه مفارقة أخرى، فالثقافة العالية، والفلسفة اليونانية ضمن مجتمع يحوي “عبيد”، هي برأيه أشبه بـ”الريح” الذي يستحق التهكم من البلاغة والألعاب اللغويّة.
ربما هذه الكتب، تروج لخطاب مشابه، مختلف عن “الثقافة العاليّة”، خطاب شعبي ويومي يكسبنا معلومات عامة، ويسخر من “كل شيء” خالقاً لدينا وهماً بالتعالي مفاده (ولو وهماً) أننا ننجو من أكاذيب التاريخ وأخطائه.
لكن من نأخذه على محمل الجدّ أكثر، ونؤكد هنا على كلمة “الجد”، هذه الكتب؟، أم الفلوغر التركي، ياسين جنكيز الذي أصبح شديد الشهرة، إلى حدة أنه يهز كرشه أمام الأهرامات؟، أيهما أشد سينيكيّة، من يقول للعالم “لـطيزي” أم من يهز كرشه مقابل المال؟.
الإشكالية الأخرى، أن صاحب الكرش، على الأقل، يمتلك مهارةً ما، أي هز الكرش، عبر الكسل أو المواظبة والصدفة هي مهارة، أما ما تروّج له هذه الكتب، فهو التعالي على “البشريّة”، وعادة هذا الشأن لا يحتاج مهارةً، بل حساً بالتفوق الذاتي لا داع لإثباته، أو حتى استعراضه، لكن هنا أيضاً نسأل، من أكثر لا مبالةً، من يقرأ كتاباً، أم من يغرق في تدفق الـReels بانتظار كرش ياسين جنكيز؟.