شكّل إسقاط نظام الأسد تحوّلاً كبيراً في تاريخ الشعب السوري، وتاريخ سوريا السياسي، بخاصة أنه حظي بقبول من معظم السوريين، في غالبية أرجاء سوريا، وضمنها مدن الساحل، بدلالة الاستقبال الشعبي الذي حظيتم به في تلك المدن.
والحقيقة، فإن شعور الامتنان لدى معظم السوريين، أتى بفضل طريقة إدارتكم التغيير، الذي طالما حلموا به، إذ جُنِّبت سوريا خطرين كبيرين، أولهما، اندلاع معارك دامية ومدمرة وشاملة. وثانيهما، انفجار حرب هوياتية، على خلفية عصبيات طائفية أو إثنية.
حصل ذلك، أيضاً، بفضل عوامل عدة، منها، وعدكم بالانتقال من عقلية الثورة إلى عقلية بناء الدولة، وأن سوريا لكل السوريين، بدون أي تمييز، وأن عهد الاستبداد قد انتهى، مع تأكيدكم تشكيل حكومة تدير البلد، بعد ثلاثة أشهر، مع هيئة تشريعية، لمرحلة انتقالية، يتم فيها التوافق على دستور وطني جامع، وإتاحة حرية تشكيل الأحزاب، والنهوض بالوضع الاقتصادي، ثم تنظيم انتخابات رئاسية وبرلمانية، في مناخات تسودها الحرية.
السيد الرئيس، كل ما تقدم يُحسب لكم، بيد أن سوريا تلك خارجة من تجربة تاريخية صعبة، ومن تركة ثقيلة ومريرة ومؤلمة، مُحيت فيها السياسة، وحُرم السوريون، كلهم، من علاقات المواطنة، مع وضعهم في مواجهة بعضهم، وفقاً لعصبياتهم، أو هوياتهم، الإثنية والطائفية والمناطقية والعشائرية، إذ إن الانقسامات فيها، غالباً، عمودية، وليست أفقية، أي لا تحصل على أسس وطنية، وفقاً لحاجات بناء الدولة والمجتمع السوريين.
أيضاً، سوريا تلك محاطة بأعداء لا يريدون لها خيراً، إذ باتت مرتعاً لتلاعبات وتوظيفات إقليمية، فإسرائيل تلعب على الوتر الطائفي والإثني، في الجنوب والشرق، لفرض نفوذها، وإضعاف سوريا الجديدة، بدعوى حماية “الأقليات”، وإيران تلعب على الوتر الطائفي في الغرب، في الساحل، للغرض ذاته. وطبعاً ثمة طرف ثالث، من بقايا النظام الساقط، له مصلحة في ذلك، يتألف من أقلية، من بضع مئات، من ضباط وتجار ومهربين وفاسدين ومجرمين، ممن ضاعت امتيازاتهم، وباتت مكانتهم مهددة.
إقرأوا أيضاً:
المشكلة أن الحكومة الحالية، في غضون ذلك، لم تحصّن سوريا جيداً من خطر تلك الأطراف، باستكانتها لحال الإجماع الكبير الذي حظيت به عملية التغيير، من دون الانتباه الى الأخطاء التالية:
أولاً، حلّ معظم مؤسسات الدولة، وضمنها جهاز الشرطة، وحتى شرطة المرور، والجيش، في حين كان يمكن إصلاح تلك المؤسسات، وإعادة هيكليتها، وتسريح الرتب العليا في الجيش والشرطة، وضمن ذلك إعادة التنسيب؛ وهذا كله أضعف الدولة، وخلق فراغاً أمنياً واضحاً، علماً أن الميليشيا، المتشكلة من فصائل لا تفي بالغرض، وهي بحاجة الى إعادة تأهيل، لنقلها من عقلية الثورة والمعارضة إلى عقلية الانتظام والولاء للدولة، والقانون، والشعب كله.
ثانياً، تبعاً لما تقدم، فإن السؤال الملحّ المطروح، هو: لماذا لم يتم استدعاء العسكريين الذين انشقوا عن جيش النظام، فهؤلاء كان يمكن أن يشكلوا رافداً قوياً، مع خبراتهم، للجيش الجديد؟ وهذه إشارة تضعف من صدقية التحول لدولة، ولكل السوريين، ويفترض تداركها في أقرب وقت، لصالح سوريا، ولإنصاف هؤلاء العسكريين.
ثالثاً، سُرِّح ألوف من وظائفهم، في كل القطاعات، ومنها الصحية، الأمر الذي تمخّض عن دفعهم إلى الفراغ، والتحول إلى متضررين، وربما غاضبين، من الحكم الحالي، ما يشكل مناخاً للقوى الداخلية والخارجية المتربّصة بسوريا، وبوحدة السوريين. فاقم من هذا الأمر الضائقة المعيشية الكبيرة التي يعاني السوريون منها منذ سنوات، مع الانخفاض الهائل في دخل الأسرة، علماً أن راتب الفرد لا يشكّل شيئاً يُذكر، إذ لا يزيد عن بضع عشرات من الدولارات شهرياً.
رابعاً، مع الأطراف الثلاثة المتربّصة، لإفشال التغيير في سوريا، ثمة ثغرة رابعة، تتعلق بضعف إدراك الحكم الجديد أهمية تعزيز وحدة الشعب، بالتركيز على وحدة سوريا الجغرافية، وسيادتها، واحتكار الدولة السلاح، على أهمية ذلك ومشروعيته، بيد أنه لا يكفي، فالوحدة الحقيقية، الفعلية، تتأسس على وحدة الشعب، الذي يتألف من مواطنين، أفراد وأحرار مستقلين ومتساوين، من دون تمييز، فهذا وحده ما يجعل الشعب شعباً حقاً، وما يؤسس لوحدة الدولة والجغرافيا والسيادة، والعكس غير صحيح، إذ لو تحقق الأمر بالغلبة، وبالسلاح، كما كان في ظل النظام السابق، إلا أنه سيظل يحمل بذور تشققاته وتصدعاته، ويبقي مداخل للتوظيفات الخارجية. ومعنى ذلك أيضاً، أن أي بناء للإجماعات الوطنية السورية، لا ينبغي أن يخضع للغلبة، أو للحلول الأمنية/العسكرية، وإنما للحوار، وإيجاد مناخات من الثقة المتبادلة، والبناء على حقوق المواطنة، واعتبار حق الحياة والحرية والكرامة والعدالة والمساواة، بمثابة قيم عليا وفوق دستورية لكل السوريين، لا يشترط عليها، ولا تخضع لنقاش.
خامساً، لم يعزز مؤتمر الحوار الذي عقد أخيراً، على أهميته، من صدقية الحكم الجديد، بالطريقة الارتجالية، والمتسرعة، والضيقة، التي عقد، وشكّل، بها، وهذا ينطبق على تشكيل اللجنة المشكلة لصوغ الإعلان الدستوري، ومع افتراض حسن النية، طبعاً، إلا أن مثل هذا الخطوات كان يفترض أن يُدرس بشكل أفضل، وأن يخضع لمشاورات أوسع من شخصيات كفوءة ومؤهلة، وتحظى بمصداقية شخصية، وطنية وأخلاقية وعلمية.
سادساً، لم يفهم أحد الفراغ الإعلامي، الذي يفاقم من الفراغ السياسي، وذلك بعد ثلاثة أشهر، سيما أن ثمة بين السوريين، في الداخل والخارج، خيرة من الشخصيات الكفوءة، من إعلاميين وكتاب ومثقفين، ولا أحد يعرف لم لا يتم التعامل مع هذا الملف بقدر أهميته في هذا الظرف.
سابعاً، من غير المفهوم، أيضاً، تصرّف الحكومة بشكل فوقي، ووصائي، مع النقابات، بدل دفعها الى عقد مؤتمرات تفضي إلى انتخاب قيادات جديدة، بطريقة مؤسسية وقانونية وديمقراطية.
ثامناً، شكل غياب تشكيل هيئة عدالة انتقالية، نقطة ضعف في توجه الحكم، إذ كان من شأن تشكيل هيئة كهذه، أولاً، تعزيز صدقية الحكم بالتوجه الى بناء دولة مؤسسات وقانون ومواطنين. ثانياً، كبح أي نزعة نحو الدفع الى حرب أهلية، أو نزعة انتقامية أو ثأرية. ثالثاً، عزل المجرمين، من بقايا النظام السابق، الذين تبين أنهم كمنوا تحيناً للحظة التفجير التي شهدناها. المشكلة، أيضاً، أن عملية التغيير، كما شهدناها قبل ثلاثة أشهر، بالفوضى التي صاحبتها، أدت إلى ضياع قسم كبير من أرشيف أجهزة المخابرات، وهو أمر يفترض مراجعته وتداركه.
السيد الرئيس
السوريون ليسوا بحاجة الى معارك، أو صراعات أهلية، تم تجنّبها، يوم سقط النظام، الذي زرع الكراهية بين السوريين، وأفسد عيشهم لأكثر من نصف قرن، الأمر بيدكم، بإعادة الاعتبار الى الدولة، على حساب السلطة، والحوار، على حساب السلاح، والحرية، على حساب الاستبداد، فالحل لكبح التشققات، يفترض الانطلاق من تعزيز مكانة المواطن، الحر، والمتساوي مع غيره، فالحل ليس أمنياً، فقط، وبالغلبة، وإنما هو سياسي، واقتصادي، واجتماعي، وثقافي.
هذا يتطلب تعميم وترسيخ الجرأة الأخلاقية والسياسية المسؤولة، التي أتت في خطابكم قبل أيام: “أهلنا في الساحل في أماكن الاشتباك جزء مهم من وطننا وواجبنا حمايتهم… كل من يتجاوز على المدنيين سيحاسب حساباً شديداً”. فالجريمة، من أي طرف أتت، هي جريمة، وقبول انتهاك حياة أو حق إنسان ما هو انتهاك لحق أي إنسان آخر، وينبغي أن تتم محاسبة أي جريمة وأي انتهاك وفقاً للقانون، فالقيم الأخلاقية هي التي تميز طلاب الحرية والعدالة.
باختصار، فإن السوريين يستحقون، بعد كل معاناتهم، وتضحياتهم، قيام إجماعات وطنية جديدة تتأسس على حقوق مواطنة متساوية، لبناء سوريا الجديدة، وتفويت أهداف المتربصين، وعدم الوقوع في “فخ” الصراعات الأهلية التي وقعت به، ولا تزال، بلدان عربية أخرى.
إقرأوا أيضاً: