“مقتدرة مادياً”، هكذا جاء في الدعوى القضائية التي رفعها والدي ضدي في كانون الثاني/ يناير 2020. يومها تلقيت اتصالاً هاتفياً من مخفر الدرك في بلدتي، وطُلب مني الحضور في أسرع وقت. هُرعت وأمي إلى المقر حيث استلمت أوراقاً عديدة بكلمات ومصطلحات قانونية لا أفهمها، شرحت سبب الدعوى. وقّعت على الاستلام وخرجت وسط نوبات ضحك هستيرية وأمي ونحن نقول “ما لح نخلص”.
150,000 ليرة لبنانية كان يدفعها والدي كنفقة لي منذ طلاقه من والدتي، قرر يومها أنها كثيرة ولن يدفعها مجدداً، واعتبر أن الطريق القضائي في وجه ابنته هو الخيار الأنسب.
حينها، كانت قد مرت ثماني سنوات… ثماني سنوات بدون عنفه، ثماني سنوات من الأوامر القضائية التي تقيّد دنوه مني. كنت امرأة ناضجة، قوية ومستقلة، أو هكذا اعتقدت. لكن تلك الليلة، بكيت كما لم أفعل من قبل.
العبء العاطفي الذي تحمله المعارك القانونية لا يمكن قياسه. لم يكن الأمر يتعلق بالمال، لم يكن كذلك أبداً. بل كان حول التذكير المستمر بأنني لا أزال رهينة تحت رحمته، أُسحب مجدداً إلى الظلام الذي كافحت بشدة للخروج منه.
منصات التواصل كملاذ أخير
شاهدت فيديو المراهقة كايتي كنعان، التي ظهرت تتحدث بشجاعة عن العنف الذي تتعرض له هي ووالدتها وشقيقتها من قِبل والدها، والألم الصادق الذي عبّرت عنه هزني بعمق. كنت هناك يوماً، وأستطيع أن أتخيل ثقل هذه المعاناة التي تحملها فتاة في سنها. كم هو مرهق أن تضطر إلى مواجهة معركة بهذا الحجم في بلد حيث العدالة بعيدة المنال؟ مثل العديد من النساء والفتيات في لبنان، لجأت كايتي إلى وسائل التواصل الاجتماعي بعد أن فقدت الأمل في الحماية القانونية. عندما تفشل القوانين في حمايتنا، نلجأ إلى المنصات العامة، آملين أن يُحدث الظهور الإعلامي ما تعجز عنه المحاكم. لكن هذا الظهور له ثمن، التدقيق العام، لوم الضحية، والعبء المستمر الذي يترتب على كشف المعاناة علناً. يتطلب الأمر شجاعة استثنائية، وهو الخيار الذي وجد العديد منا أنفسهم مجبرين عليه.
قانون بلا حماية
النظام القانوني في لبنان ممتلئ بالثغرات عندما يتعلق الأمر بقضايا العنف الأسري. على الرغم من وجود القانون 293 الذي يُفترَض أنه يحمي النساء والأطفال من العنف الأسري، يظل تنفيذه ضعيفاً، ويواجه عراقيل متكررة، وغالباً ما يتم تجاهله من قبل السلطات.
قصة كايتي ليست حالة فردية، بل هي انعكاس لمعاناة نساء كثيرات محاصرات في دوامة العنف، مغيبات عن العدالة التي يُفترَض أن تكون حقاً لهن. الرد على فيديو كايتي كان سريعاً ومثيراً للجدل. رفع والدها دعوى قضائية ضدها وضد منصة “شريكة ولكن” التي نقلت صوتها إلى الجمهور. وقفت كايتي بثبات، مذكّرة إيانا جميعاً بالقوة التي تُجبر الفتيات على اكتسابها في ظل الإهمال المؤسساتي. التغيير الحقيقي يتطلب أكثر من مجرد المناصرة؛ فهو يحتاج إلى إرادة سياسية، وفي بلد يعاني من انهيار اقتصادي وفساد متجذر، غالباً ما تُهمّش فيه قضايا النساء.
العبء العاطفي الذي تحمله المعارك القانونية لا يمكن قياسه. لم يكن الأمر يتعلق بالمال، لم يكن كذلك أبداً. بل كان حول التذكير المستمر بأنني لا أزال رهينة تحت رحمته، أُسحب مجدداً إلى الظلام الذي كافحت بشدة للخروج منه.
المنزل: مساحة آمنة أم ميدان معركة؟
قضية كايتي هي قضية كل فتاة في لبنان، سواء كان النضال من أجل النفقة، أو الحضانة، أو حتى مجرد الأمان، يبقى الطريق مزدحماً بالعقبات. فالعنف لا ينتهي بمجرد الرحيل، بل يظل حاضراً في أروقة المحاكم، في الوعود القانونية الفارغة، وفي الخوف المستمر من تكرار الكابوس.
إن العيش في منزل واحد مع أبٍ عنيف أشبه بالسير على قشرة رقيقة من الجليد، لا تعرف متى ستنهار تحت قدميك وتغرقك في أعماق باردة لا خلاص منها. يتحوّل المكان الذي من المفترض أن يكون ملاذاً آمناً إلى ميدان معركة دائمة. الجدران التي يُفترَض أن تحتضن أسرارك تصبح شاهدة صامتة على الصراخ، والبكاء، والكلمات الجارحة التي تترك ندوباً عميقة في الروح.
لا يمكن التنبؤ بما تخبئه الأيام، فقد تتحول لحظات الدفء العائلية إلى كابوس طويل ممتد، حيث يصبح كل صوت، كل حركة، إنذاراً لاحتمال انفجار غضب عنيف. تتعلم قراءة تفاصيل وجهه، التغيّر الطفيف في نبرته، أو قبضته المشدودة كإشارات تحذير لاقتراب العاصفة. تصبح بارعاً في تجنّب التصعيد، في المسايرة، في ابتلاع الألم، كل ذلك قبل أن تكمل العاشرة من عمرك.
تستلقي في سريرك متيقظاً لكل صرير يصدر عن الأرضية، متحفزاً لأي حركة تشير إلى اقترابه. تذكّرت اليوم الذي مزّق فيه ملف تقديمي للجامعة، وقرّر أنني لن أدرس. تذكّرت أن الأقسى من الضربات التي تلقيتها، كانت تلك التي وجهها إلى أمي وإخوتي. تذكّرت كيف كنت أغرق في النوم بعد انفجار غضبه، فقط لأصحو على يد أمي تهزني برفق بعد منتصف الليل، توقظني كي أدرس في لحظات السكينة الوحيدة.
هل يتغير الواقع؟
أعود بذاكرتي إلى تلك الليلة في عام 2020، عندما بكيت بسبب دعوى قضائية لم تكن تتعلق بالمال، بل بالسيطرة. كنت بالغة، بعد سنوات من العلاج النفسي، ومع ذلك حطمني الأمر. كايتي لا تزال مراهقة، لا تزال تبحث عن ذاتها، ومع ذلك تُجبر على خوض معارك لا ينبغي لأي طفلة أن تواجهها.
قصتها تطرح أسئلة صعبة: كم فتاة أخرى ستضطر إلى اللجوء إلى وسائل التواصل الاجتماعي حتى يسمع النظام القانوني؟ كم واحدة منهن سيتم إسكاتهن عبر الدعاوى القضائية والتهديدات؟ ومتى سنبني نظاماً يُعطي الأولوية للضحايا بدلاً من حماية المعتدين؟
العزيزة كايتي:
أنا أيضاً أناديه باسمه، تماماً مثلك، لأنه لم يستحق يوماً أن يُدعى “أباً”. لقد عانيت أيضاً من عنف جسدي وعاطفي، مثلك. شهدتُ أمي تتألم على يديه وعلى يد أفراد أسرته، مثلك. قضيتُ سنوات محاصرة في أروقة المحاكم، أواجه دعاوى قضائية من الشخص الذي كان من المفترض أن يحميني، ويحبني، ويدعمني.
أريدكِ أن تعلمي أنه بمجرد أن تتخذي موقفاً ضد المعنف، برغم أنه قد يكون من أصعب اللحظات في حياتك، لن يكون هناك رجوع إلى الوراء، من تلك اللحظة فصاعداً لا يوجد سوى النضال، والقوة، والراحة، والحرية.
نحن لسنا وحدنا، هناك الكثير من المقاتلات مثلنا، نساء يواجهن المعركة نفسها بشجاعة، ويواصلن طريقهن نحو التحرر.
أنتِ قدوة.