تقى ( 5 سنوات)، طفلة من رفح وتعاني من قصر القامة ونقص هرمون النمو، وهي بحاجة الى العلاج، إذ يجب أن تتلقى يومياً حقنه للمساعدة على تنشيط نموها. منذ بداية الحرب على غزة، لم تتلقَّ تقى علاجها. وفي العادة، يتم شراء الدواء لها من إسرائيل.
ثمن العلاج 1050 شيكلاً، وهو غير متوافر أساساً في وزارة الصحة، فعائلات المرضى يشترون الدواء من حسابهم الشخصي على رغم ظروفهم الاقتصادية المالية الصعبة.
قصة الطفلة تقى تجسد المأساة والكارثة الإنسانية في رفح وما تبقى فيها من مؤسسات صحية، والتي يعيشها الفلسطينيون في غزة والشمال، والتفاصيل اليومية التي يتجاهلها العالم، والجوع الذي يضرب بقوة، خصوصاً أنه لم يصل الى الشمال أي مساعدات، وفقدان الناس حياتهم نتيجة الحرب المستمرة والتضليل الذي يدفع ثمنه الأطفال والنساء والمسنون والمرضى وحرمانهم من الحق في العلاج.
حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة واحدة من أكثر الحروب تضليلاً وخداعاً في العالم، والتي يقال فيها “كل شيء”، إذ تتداول التصريحات والمواقف السياسية، والأخبار والمعلومات المضلّلة بكثرة، وغير الدقيقة، باستثناء الخبر الوحيد الحقيقي الثابت، وهو استمرار الإبادة وعدم وقف إطلاق النار.
في العصر الحديث وخطاب الديمقراطية وحقوق الإنسان والقانون الدولي والحريات، من الغريب كيف بإمكان مسار التاريخ أن يغير الرأي العام الدولي حول الحرب على غزة، التي بدأت بدعم هائل من الولايات المتحدة الأميركية ودول أوروبا المركزية، ثم تغيير المواقف الحكومية لتلك الدول تجاه الحرب.
لم تنتهِ دوامة التضليل والتناقضات، واختزلت بقضية الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين المختطفين الـ 136 في غزة، وحصر كل ما يجري من حرب الإبادة وتفاصيلها بهؤلاء، وتجاهل حرب الإبادة والمعاناة الإنسانية والحقوق السياسية للفلسطينيين، وحصرها بـ”حل الدولتين” و”المذبحة مستمرة”، والعودة الأميركية والغربية الى هذا الشعار بوصفه الحل، علماً أنه مطروح منذ ثلاثة عقود ولم يتحقق شيء منه.
في قلب ذلك، يعيش الفلسطينيون في قطاع غزة حالاً من الانتظار وعدم اليقين والخوف من ارتكاب إسرائيل مجزرة فظيعة أكثر وحشية مما ارتكبته خلال الأسابيع الماضية، وإجبارهم على الهجرة القسرية تجاه مصر.
يتعرض الفلسطينيون لحرب التضليل التي تمارسها الولايات المتحدة الأميركية ورئيسها جو بايدن، مدّعياً أنه غير موافق على اجتياح إسرائيل رفح برياً، لكنه طالب نتانياهو بإخلاء السكان وأنه يجب ألا تمضي إسرائيل في العملية العسكرية في رفح من دون وجود خطة لتأمين سلامة المدنيين.
حرب التضليل هي جزء أساسي من حرب الإبادة المستمرة، وإسرائيل لم تتوقف عن القصف ودحرجة كرة النار الملتهبة في كل مكان من قطاع غزة. وما يثير رعب الناس هو التهديد باجتياح رفح باعتبارها “آخر معقل لحركة حماس”، كما يدعي نتانياهو، الذي يصرح بأن مطالبته بعدم اجتياح رفح برياً، تعني هزيمة إسرائيل وعدم تحقيق النصر المطلق.
الحديث عن رفح وحرب الإبادة لا يتوقف، إذ يقتل ويصاب المئات يومياً بالإضافة الى عشرات القتلى تحت الأنقاض. وما يجري ليس تهديداً وجودياً لإسرائيل أو تقدماً نحو تحقيق الأهداف، بل هو استمرار لسياسة التهجير القسري والدمار والقتل والهمجية.
“جريمة حرب غير مسبوقة”
يزداد التضليل في هذه الحرب حدّة على خلفية حقيقة مريعة، مفادها أن الاجتياح البري في رفح سيكون “جريمة حرب غير مسبوقة”، فسكان غزة المحاصرون في رفح ليس لديهم مكان للمغادرة إليه. والحديث عن إخلاء السكان كذب، وليس هناك من إنجاز يمكن تحقيقه من عملية في رفح سوى مذبحة جماعية ومزيد من تدمير همجي لجميع ملامح الحياة.
ليس بايدن وحده الشريك في الحرب، بل إن زعماء الدول الأوروبية المركزية بريطانيا وألمانيا وفرنسا، يكذبون ويضللون العالم أيضاً. يقول بايدن “إن الحياة في غزة أصبحت مأساة،” و”نعارض أي تهجير قسري للفلسطينيين من غزة”، وغيرهما من التصريحات وعبارات التعاطف، التي لم تتخللها إلى الآن دعوة إلى وقف إطلاق النار.
وفي تماهٍ مع الموقف الأميركي، تحدث المستشار الألماني في السياق ذاته، وقالت وزيرة الخارجية الألمانية إنه ليس بإمكان النازحين في رفح التوجه إلى الحدود الجنوبية المصرية ولا يمكن تهجيرهم قسرياً، وإن الوضع الإنساني كارثي في غزة وثمة أعداد لا تحصى من الفلسطينيين فقدوا ذويهم. لكنها مثل بايدن والمستشار الألماني، لم تتحدث عن وقف حرب الإبادة، ولم تمارس دولتها ضغطاً جدياً لوقف إطلاق النار، ولم تتوقف عن ترديد المصطلح السخيف، أن من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها.
يردد زعماء أوروبا أنه لا يجوز لإسرائيل تنفيذ سياسة الهجرة القسرية على النازحين الفلسطينيين، لكنهم هم أنفسهم من دعموا وشجعوا إسرائيل على إجبار الفلسطينيين على النزوح والهجرة القسرية الداخلية باتجاه رفح، وتنفيذ السياسات الإسرائيلية المعلنة وغير المعلنة لتهجير الفلسطينيين.
136 يوماً من حرب الإبادة والعالم يكرر الخطاب والشعارات والكلمات والمناشدات والإدانات نفسه والتحذير من كارثة إنسانية، وسيظلون يكررونها فيما إسرائيل مستمرة بمحو غزة.
أين يذهب النازحون؟
تسعى إسرائيل إلى ترحيل النازحين من رفح، لكن إلى أين؟ في غزة والشمال وخان يونس أيضاً لم تتبقّ بيوت لإخلاء النازحين من رفح، حتى بعد وقف الحرب يجب أن تكون هناك بيوت للناس في غزة ليسكنوا فيها. لكن الجيش الإسرائيلي يدمر هذه المنازل من دون أن يرف له جفن.
هناك مئات الآلاف من الفلسطينيين الذين يتم إجبارهم على النزوح والهجرة من مكان إلى آخر، هذا كله حتى يتمكن الجيش الإسرائيلي من تحقيق الهدف الحقيقي للحرب حسب ادعائه، وهو القضاء على قدرات حماس العسكرية والسلطوية وقتل السنوار، لكن في قلب هذه الأهداف، لم يغب عن أذهان الحكومة الإسرائيلية سعيها الى دفع الناس للهجرة.
لكن إسرائيل غير مدركة أن من سيبقى من هؤلاء النازحين على قيد الحياة سيتذكر، فإسرائيل مستمرة بغرس بذور الغضب والكراهية لعقود من الدمار والخراب والقتل الذي خلفته في غزة.
في هذا الواقع، تتعاظم التحديات، ويُطرح السؤال: من سيهتم بسكان غزة عندما يمنع الجيش الإسرائيلي أي إمكانية لإعادة الإعمار بتحويل القطاع إلى أرض قاحلة مقفرة؟ قد يعتبر ذلك حلماً، وما زال الفلسطينيون في غزة المكدسون في رفح حائرين مرعوبين ويفكرون في الحفاظ على حياتهم وهاجس الهجرة القسرية.
خلال الحرب، كانت مستشفى الشفاء العنوان، والآن أصبح خان يونس ومستشفى ناصر وعملية تدميرهما المستمرة. وببساطة، لم يعد هناك المزيد من الأهداف للعمل على تحقيقها كما تدّعي إسرائيل. والسؤال، ما الذي ستحققه من خلال عملية برية في رفح؟ هل ستقتل قادة حماس والسنوار؟ كيف سيؤدي ذلك إلى تحسين أمن إسرائيل؟ فهل ستقتل عشرات الآلاف من النازحين في غزة؟ كيف سيؤدي ذلك إلى تحسين أمن إسرائيل؟ هل سنقتل الرهائن والجنود بأعداد كبيرة؟
لا يوجد منطق سوى القتل والهمجية ودفع الناس الى الهجرة، والعالم شريك في هذه السياسة ويمارس سياسة التضليل برفضه التهجير، في حين أن كل هذه السياسية والتصريحات والتحذيرات تسير في اتجاه استمرار الإبادة والتهجير، وما يصدر من تصريحات مصرية مرتبك وغير واضح ولم تقدم مصر على اتخاذ خطوات تمنع إسرائيل من اجتياح رفح ومنع التهجير.