في الرابع عشر من شباط 2005 قتلوا رفيق الحريري، وهو اليوم الذي حاز فيه المغدور وجدان اغلب اللبنانيين حين وقع الموت عليه بأبشع ما يكون الموت.
اليوم، وبعد ستة عشر عاماً على الإغتيال، يتخفف المرء من المنسوب الوجداني الذي هو بالضرورة من صنائع الزمن في البشر وطبائعها، هذا إذا ما نحينا جانباً إرثه السياسي والعائلي، إذ أن الأخيرين كانا كفيلين بتقصير المهل الوجدانية أكثر من الزمن.
كان رفيق الحريري، ومنذ دخوله السلطة مسكوناً بعقلين، سياسي واقتصادي، وهو ما جعله الشخصية المحورية في مرحلة ما بعد اتفاق الطائف إلى لحظة اغتياله، وبدا الرجل معها، سيما في بداياته، كأنه قدر اللبنانيين في محو ذاكرة الحرب التي كانت صورتها لا تزال جاثمة فوق بيروت بما هي المكان الأكثر التصاقاً بذاكرتهم عن الحرب .
لكن قدر رفيق الحريري أنه جاء إلى السلطة في الزمن الذي تغولت فيه الوصاية السورية على لبنان، وهو قدر كان الحريري يعرفه بلا شك، ومما لا شك فيه أيضاً ان الراحل، ورغم موقعه الملتبس سياسياً معها، كان الأكثر تأثيراً في إضفاء شرعية سياسية على تلك الوصاية من سياسيين قاسموه السلطة من الموقع غير الملتبس في علاقتهم معها كنبيه بري ووليد جنبلاط، وممن انتدبتهم تلك الوصاية لرئاسة الجمهورية ، ثم حزب الله الذي كان يُضفي في ظل تلك السياسة مناعةً قويةً لتلك الوصاية قبل أن يباشر ومنذ العام 2000 مساره السياسي المعلن كأبرز شركائها، وهو بالمناسبة العام الذي باشر فيه الحريري تمايزاً خفراً عنها.
لكن”سيادية” رفيق الحريري لم يُنجزها إلا في لحظته الدموية حيث سلوكه السياسي راوح قبلها بين مسارين، تواطأً معلناً مع الوصاية السورية، ثم مثله شراكة مستحيلة مع إميل لحود الذي كان التمديد له السبب الرئيسي في توتر علاقة الحريري بنظام بشار الأسد، والعودة إلى كتاب “الطريق إلى الإستقلال” لجورج بكاسيني يشي بهذا الالتباس حيث يكشف كاتبه انه حمل رسالة من الحريري إلى النائب سليمان فرنجية تتضمن موافقته على ان يكون الأخير رئيساً للجمهورية لقطع الطريق على التمديد للحود.
الوجود السوري شرعي ومؤقت، أي اللازمة التي دأبت السلطة اللبنانية على رفعها في وجه منتقدي الوصاية، كان رفيق الحريري أكثر من رددها أمامنا نحن المُكرهين بها، وكان الثقل السياسي له، والمتكئ على علاقاته الدولية، قد شكلا استثماراً ناجحاً لتلك الوصاية في المحافل العربية والعالمية، وهو استثمار لم يكن ليقدر عليه إلا رفيق الحريري، وهو على الأرجح ما سمح للنظام السوري بإطالة عمر وصايته التي وللمفارقة لم ينه مفاعيلها إلا جسده الذي تشظى فوق شوارع بيروت.
بيروت هذه يُحسب لرفيق الحريري أنه من ازال ركام الحرب عنها، ويحسب له أيضاً أنه أطلقها من الذاكرة الدموية التي أُثقِلت بالحرب، فيما الحديث عن كلفة إعمارها على الإقتصاد هدراً وفساداً على ما تحف وحفت به خطابات معارضي سياساته، سواء في حياته أو باثر رجعي هو ضالة العونيين، فأغلب الظن، وبافتراض رجاحته، فهو إذا ما قاربناه مع ما تلا”الحريرية” كمشروع اقتصادي ، وحتى راهننا، فنحن والحال أمام نمطين من السياسات الإقتصادية.
القدرة على التأمل في ما شطَرَه قتل رفيق الحريري يستقر على سوأتين لا تستويان . هدر وفساد ودين عام وليدِين أو متوارِين في مشاريع إعمار هائلة هي شاهدة على الحقبة “الحريريةً، مع استقرار اقتصادي كان الحريري قادراً على رتق اختلاله غالباً، وبكلفة هي بالمعاينة أقل بكثير من هدر وفساد وتضاعف للدين العام بلا أي شواهد تواري ما تنكبته كل حكومات ما بعد الرابع عشر من شباط 2005 ، فيما الإرث السياسي والبيولوجي له، والذي يدرجه خصوم “الحريرية”، وتحديداً العونيون، ضمن تركته الاقتصادية على لبنان، فالأرجح أنها الحصة التي تم صرفها لثلاث سنوات أو أكثر في خدمة القائمين راهناً على آخر جمهوريات البؤس.
إقرأوا أيضاً: