fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

رمضان شهر بطيء!

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

ينقل رمضان قيمة العيش من الإنتاج إلى الاستدامة. يذكرنا أننا لسنا مخلوقين لنكون منتجين طوال العام، وأنه يُسمح لنا بالتباطؤ، وأن نكون انتقائيين، وأن نُعطي الأولوية لصحتنا وعائلاتنا، على عكس عالم الشركات الذي لا يُعطي الأولوية لنا أبداً. 

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

كل شيء يصبح أبطأ خلال شهر رمضان. 

مع تقليل عدد وجباتنا خلال النهار، ينكمش احتياطيّ أجسادنا من الطاقة، ما يجعلنا أكثر حذراً في كيفية صرفنا لها، حتى المشاعر تصبح أقل انفعالاً، كما تتغير أولوياتنا، وتنحصر مفرداتنا، وتصبح قصصنا أقصر، لأننا نفقد الرغبة في الكلام، وندرك أننا غالباً في غنى عن الحديث، فنركز فقط على ما هو أساسي لتجاوز يومنا، بخاصة في ظل صعوبة إعادة شحن طاقتنا قبل المغيب.

 في العمل، يتراجع أداؤنا، تقلّ إنتاجيتنا، ونجد أنفسنا نطوف فوق مكاتبنا، وهي حالة نُحرم منها طوال العام، لكنها تظلّ ضرورية.

في النظام الرأسمالي، قد يبدو التباطؤ والمينيماليزم، إحدى نتائج الصيام، أمراً غريباً على المؤسسات الاقتصادية، بخاصة تلك التي تعمل في مجال صناعة الطعام والشراب، وهو قطاع رئيسي في بلد سياحي مثل لبنان. تحاول هذه الشركات تعويض الخسائر النهارية من خلال تنظيم فعاليات تمتدّ من الليل حتى السحور.

في بيروت، تنتشر لافتات “ليالي رمضان”، ويظهر فيها راقصان صوفيان، لأن تصوير واقع الإفطار البسيط والعائلة المتعبة لن يكون جذاباً بما فيه الكفاية. تروّج هذه اللافتات للأجواء “الرمضانية” التي تسعى سلاسل المطاعم والشركات إلى جعلها ظاهرة اقتصادية جديدة، متأثّرة بدول الخليج وليس كنوع من التحدي للإسلاموفوبيا المبطنة في بنية البلد الاجتماعية. وغالباً، تخلو الطريقة التي تُنفّذ بها هذه الأمسيات من الروح الرمضانية. 

هذه الأماكن تكون عادة مكتظّة، مليئة بالطعام والترفيه، ما يتناقض مع فكرة التباطؤ والمينيماليزم نفسها، ما يدفعك الى التساؤل حول ما إذا كان الجانب التجاري من رمضان موجهاً حقاً لأولئك الذين يصومون، تماماً كما أن الجانب التجاري من عيد الميلاد ليس موجهاً حقًا لأولئك الذين يحتفلون بميلاد المسيح؟!

في لبنان، هناك نكتة تقول إن شجرة عيد الميلاد في جبيل مخصصة للمسلمين. لا أستطيع إلا أن أتساءل، هل هؤلاء الراقصون الصوفيون الزائفون مخصصون للمسيحيين؟ لا أعرف، فلم أذهب إلى هذه الفعاليات أبداً. بعد الصوم، غالباً ما أنام فقط. في الواقع، أتجنب تناول الإفطار في الخارج تماماً لغلاء الأسعار مقابل رداءة الجودة: 40 دولاراً من أجل فتوش، حساء، وطبق؟ ما هذا؟!

كل شيء يصبح أبطأ خلال شهر رمضان. 

لكن، إذا كان الصوم مرهقاً إلى هذا الحد، فلماذا يصوم الكثير من المسلمين، بخاصة غير المتدينين منهم، لا سيما عندما يكونون أقل التزاماً بأنواع العبادة الأخرى؟ 

أولاً، تم الاعتراف علمياً بالصوم كطريقة فعالة لإعادة “التدوير” على المستوى الخلوي. حتى أن عملية التلقيم الذاتي، المعروفة بالأوتوفاجي، فاز بها الأستاذ يوشينوري أوسومي من معهد طوكيو للتكنولوجيا، بجائزة نوبل عام 2016.

خلال هذه العملية، تقوم الخلايا بتفكيك وإعادة تدوير مكوناتها الخاصة. لا يتم تنشيط هذه العملية إلا بعد مرور 7 ساعات على الأقل من الجوع والحركة المتزامنين، ويفضل أن تكون المدة بين 10 إلى 12 ساعة. تشير الدراسات إلى أن الصوم مرتين في الأسبوع يمكن أن يقدم فوائد صحية كبيرة. على مر التاريخ، استُخدم الصوم كعلاج للكثير من الأمراض، ليس فقط في الثقافات الإسلامية بل في الكثير من التقاليد حول العالم.

ثانياً، يجمع رمضان العائلات معاً، يُعدّ الطعام بحب واهتمام، مع الحرص على سعادة الأفراد المجتمعين وراحتهم، وليس مجرد أداء مهمة تناول الطعام. يعيد رمضان تحديد قيمة تناول الطعام التي اختطفتها المطاعم، ويعيدها إلى مطبخ البيت المتواضع، حيث تجتمع العائلة والأصدقاء. وهذا أيضاً يُعدّ شكلاً من أشكال الديتوكس detox – يكشف عن الأشخاص الذين يجلسون حقاً معك على مائدة متواضعة، قد يصرون على غسل الصحون- ولكنك سترفض- أو يجلبون الكعكة لنتقاسمها في نهاية الإفطار مع الشاي، ويشكرونك في النهاية ويغادرون مع الكثير من القبلات. 

كل هذه الدينامكيات الاجتماعية نفقدها في باقي الأشهر، إذ تكون عملية تناول الطعام أكثر ميكانيكية من دون كثير من الاهتمام المتبادل.

على نطاق أوسع، ينقل رمضان قيمة العيش من الإنتاج إلى الاستدامة. يذكرنا أننا لسنا مخلوقين لنكون منتجين طوال العام، وأنه يُسمح لنا بالتباطؤ، وأن نكون انتقائيين، وأن نُعطي الأولوية لصحتنا وعائلاتنا، على عكس عالم الشركات الذي لا يُعطي الأولوية لنا أبداً. 

يذكرنا أنه يمكننا أن نكون موجودين من دون استهلاك، يمكننا أن نلتقي بأصدقائنا من دون الحاجة الى شراء فنجان من القهوة، يمكننا أن نكون موجودين من دون الحاجة الى إثبات ذلك من خلال عمليات الاستهلاك. أنا شخصياً أختار الصوم، للسبب نفسه الذي أتخذ به قراراتي الأخرى، كشكل من التمرد ضد النسخة التي تم تشكيلها مني من خلال الإنتاج.

خلال رمضان، لا أهتم بالكثير، فليس لدي الكثير من الطاقة، كل ما يهم هو من معي على مائدة الطعام، جسدياً أو عاطفياً، ومن ليس كذلك (أو يرفض أن يكون) فلا يهم، لا يمكنني الانشغال بالأشياء التي لا أستطيع التحكم بها، مثل الشؤون الخارجية أو الحروب.

 تبدو النيران من حولي وكأنها باردة، ويختفي الخوف لأنه غير ضروري في معظم الأحيان، تبقى فقط الحماسة لرؤية والدي في نهاية اليوم يطبخ بفرح، كم من الحب الصافي يضيف إلى طبق الفتوش نفسه كل يوم، وأتناوله دائماً وكأنها المرة الأولى.

19.03.2025
زمن القراءة: 4 minutes

ينقل رمضان قيمة العيش من الإنتاج إلى الاستدامة. يذكرنا أننا لسنا مخلوقين لنكون منتجين طوال العام، وأنه يُسمح لنا بالتباطؤ، وأن نكون انتقائيين، وأن نُعطي الأولوية لصحتنا وعائلاتنا، على عكس عالم الشركات الذي لا يُعطي الأولوية لنا أبداً. 

كل شيء يصبح أبطأ خلال شهر رمضان. 

مع تقليل عدد وجباتنا خلال النهار، ينكمش احتياطيّ أجسادنا من الطاقة، ما يجعلنا أكثر حذراً في كيفية صرفنا لها، حتى المشاعر تصبح أقل انفعالاً، كما تتغير أولوياتنا، وتنحصر مفرداتنا، وتصبح قصصنا أقصر، لأننا نفقد الرغبة في الكلام، وندرك أننا غالباً في غنى عن الحديث، فنركز فقط على ما هو أساسي لتجاوز يومنا، بخاصة في ظل صعوبة إعادة شحن طاقتنا قبل المغيب.

 في العمل، يتراجع أداؤنا، تقلّ إنتاجيتنا، ونجد أنفسنا نطوف فوق مكاتبنا، وهي حالة نُحرم منها طوال العام، لكنها تظلّ ضرورية.

في النظام الرأسمالي، قد يبدو التباطؤ والمينيماليزم، إحدى نتائج الصيام، أمراً غريباً على المؤسسات الاقتصادية، بخاصة تلك التي تعمل في مجال صناعة الطعام والشراب، وهو قطاع رئيسي في بلد سياحي مثل لبنان. تحاول هذه الشركات تعويض الخسائر النهارية من خلال تنظيم فعاليات تمتدّ من الليل حتى السحور.

في بيروت، تنتشر لافتات “ليالي رمضان”، ويظهر فيها راقصان صوفيان، لأن تصوير واقع الإفطار البسيط والعائلة المتعبة لن يكون جذاباً بما فيه الكفاية. تروّج هذه اللافتات للأجواء “الرمضانية” التي تسعى سلاسل المطاعم والشركات إلى جعلها ظاهرة اقتصادية جديدة، متأثّرة بدول الخليج وليس كنوع من التحدي للإسلاموفوبيا المبطنة في بنية البلد الاجتماعية. وغالباً، تخلو الطريقة التي تُنفّذ بها هذه الأمسيات من الروح الرمضانية. 

هذه الأماكن تكون عادة مكتظّة، مليئة بالطعام والترفيه، ما يتناقض مع فكرة التباطؤ والمينيماليزم نفسها، ما يدفعك الى التساؤل حول ما إذا كان الجانب التجاري من رمضان موجهاً حقاً لأولئك الذين يصومون، تماماً كما أن الجانب التجاري من عيد الميلاد ليس موجهاً حقًا لأولئك الذين يحتفلون بميلاد المسيح؟!

في لبنان، هناك نكتة تقول إن شجرة عيد الميلاد في جبيل مخصصة للمسلمين. لا أستطيع إلا أن أتساءل، هل هؤلاء الراقصون الصوفيون الزائفون مخصصون للمسيحيين؟ لا أعرف، فلم أذهب إلى هذه الفعاليات أبداً. بعد الصوم، غالباً ما أنام فقط. في الواقع، أتجنب تناول الإفطار في الخارج تماماً لغلاء الأسعار مقابل رداءة الجودة: 40 دولاراً من أجل فتوش، حساء، وطبق؟ ما هذا؟!

كل شيء يصبح أبطأ خلال شهر رمضان. 

لكن، إذا كان الصوم مرهقاً إلى هذا الحد، فلماذا يصوم الكثير من المسلمين، بخاصة غير المتدينين منهم، لا سيما عندما يكونون أقل التزاماً بأنواع العبادة الأخرى؟ 

أولاً، تم الاعتراف علمياً بالصوم كطريقة فعالة لإعادة “التدوير” على المستوى الخلوي. حتى أن عملية التلقيم الذاتي، المعروفة بالأوتوفاجي، فاز بها الأستاذ يوشينوري أوسومي من معهد طوكيو للتكنولوجيا، بجائزة نوبل عام 2016.

خلال هذه العملية، تقوم الخلايا بتفكيك وإعادة تدوير مكوناتها الخاصة. لا يتم تنشيط هذه العملية إلا بعد مرور 7 ساعات على الأقل من الجوع والحركة المتزامنين، ويفضل أن تكون المدة بين 10 إلى 12 ساعة. تشير الدراسات إلى أن الصوم مرتين في الأسبوع يمكن أن يقدم فوائد صحية كبيرة. على مر التاريخ، استُخدم الصوم كعلاج للكثير من الأمراض، ليس فقط في الثقافات الإسلامية بل في الكثير من التقاليد حول العالم.

ثانياً، يجمع رمضان العائلات معاً، يُعدّ الطعام بحب واهتمام، مع الحرص على سعادة الأفراد المجتمعين وراحتهم، وليس مجرد أداء مهمة تناول الطعام. يعيد رمضان تحديد قيمة تناول الطعام التي اختطفتها المطاعم، ويعيدها إلى مطبخ البيت المتواضع، حيث تجتمع العائلة والأصدقاء. وهذا أيضاً يُعدّ شكلاً من أشكال الديتوكس detox – يكشف عن الأشخاص الذين يجلسون حقاً معك على مائدة متواضعة، قد يصرون على غسل الصحون- ولكنك سترفض- أو يجلبون الكعكة لنتقاسمها في نهاية الإفطار مع الشاي، ويشكرونك في النهاية ويغادرون مع الكثير من القبلات. 

كل هذه الدينامكيات الاجتماعية نفقدها في باقي الأشهر، إذ تكون عملية تناول الطعام أكثر ميكانيكية من دون كثير من الاهتمام المتبادل.

على نطاق أوسع، ينقل رمضان قيمة العيش من الإنتاج إلى الاستدامة. يذكرنا أننا لسنا مخلوقين لنكون منتجين طوال العام، وأنه يُسمح لنا بالتباطؤ، وأن نكون انتقائيين، وأن نُعطي الأولوية لصحتنا وعائلاتنا، على عكس عالم الشركات الذي لا يُعطي الأولوية لنا أبداً. 

يذكرنا أنه يمكننا أن نكون موجودين من دون استهلاك، يمكننا أن نلتقي بأصدقائنا من دون الحاجة الى شراء فنجان من القهوة، يمكننا أن نكون موجودين من دون الحاجة الى إثبات ذلك من خلال عمليات الاستهلاك. أنا شخصياً أختار الصوم، للسبب نفسه الذي أتخذ به قراراتي الأخرى، كشكل من التمرد ضد النسخة التي تم تشكيلها مني من خلال الإنتاج.

خلال رمضان، لا أهتم بالكثير، فليس لدي الكثير من الطاقة، كل ما يهم هو من معي على مائدة الطعام، جسدياً أو عاطفياً، ومن ليس كذلك (أو يرفض أن يكون) فلا يهم، لا يمكنني الانشغال بالأشياء التي لا أستطيع التحكم بها، مثل الشؤون الخارجية أو الحروب.

 تبدو النيران من حولي وكأنها باردة، ويختفي الخوف لأنه غير ضروري في معظم الأحيان، تبقى فقط الحماسة لرؤية والدي في نهاية اليوم يطبخ بفرح، كم من الحب الصافي يضيف إلى طبق الفتوش نفسه كل يوم، وأتناوله دائماً وكأنها المرة الأولى.

19.03.2025
زمن القراءة: 4 minutes
|

اشترك بنشرتنا البريدية