في نهاية شهر أيلول/ سبتمبر الماضي، نشرت الحقوقية المصرية جواهر الطاهري منشورًا قالت فيه إنه استغاثة من نساء إحدى عائلات مركز البلينا بمحافظة سوهاج، إثر احتجازهن على خلفية اتهام أحد أفراد العائلة بارتكاب جريمة قتل، قبل أن تحذف المنشور بعد يومين فقط.
وقبل الطاهري، نشرت الشبكة المصرية لحقوق الإنسان، وهي مؤسسة حقوقية مقرها لندن، أنها تلقت استغاثة من عائلة عبد النبي في قرية الحلافي بمركز البلينا بمحافظة سوهاج، تفيد بأن قوات الأمن اقتحمت منازل العائلة واحتجزت عددًا من النساء إثر اتهام أفراد العائلة بقتل المواطن أحمد رائد بسبب خصومة ثأرية.
وبعد نشر الاستغاثة، أصدرت وزارة الداخلية المصرية بيانًا نفت فيه الواقعة، قائلة إن الحادث هو واقعة ثأر، وإنه عقب إلقاء القبض على المتهمين، نشرت عائلاتهم ادعاءات غير حقيقية.
إلا أن نفي الداخلية لم يلقَ صدى، لا سيما أن اعتقال النساء للضغط على أفراد عائلاتهن لتسليم أنفسهم هو سلوك وثقته شهادات وتقارير حقوقية بأنه نهج متّبع لدى وزارة الداخلية منذ ما قبل ثورة يناير واستمرّ بعدها.
احتجاجات النجيلة
في نيسان/ أبريل الماضي، قُتل ثلاثة من عناصر الشرطة المصرية أثناء ملاحقة أحد المطلوبين أمنيًا، وهو الحدث الذي أشعل غضب الشرطة المصرية. وعلى رغم أن لسكان المنطقة طبيعة خاصة، فهم في غالبيتهم من القبائل البدوية الذين يرون في احتجاز النساء انتهاكًا لا يمكن السكوت عنه، اقتحمت الشرطة منازل 23 سيدة من عائلات المتّهمين.
حاول عمد النجيلة ومشايخها التواصل مع وزارة الداخلية للإفراج عن النساء المحتجزات، إلا أن السلطات رفضت. فاضطر اثنان من شباب النجيلة ممن لم يكن لهم أي صلة بحادث مقتل عناصر الشرطة، إلى تسليم أنفسهم، بناءً على اتفاق بين المشايخ والداخلية يقضي بعدم المساس بالنساء، وإطلاق سراحهن مقابل احتجاز الشابين لحين القبض على المتّهمين الأصليين.
لكن الضابط المسؤول عن الاتفاق، ووفقًا لشهادات، أخرج الشابين إلى أحد الطرق الصحراوية وقتلهما. وبعدها أصدرت وزارة الداخلية بيانًا قالت فيه إن الشابين عنصران إجراميان شديدا الخطورة، وإن أجهزة البحث الجنائي توصلت إلى مكان اختفائهما للقبض عليهما بسبب ضلوعهما في مقتل عناصر الشرطة الثلاثة.
اللافت في القضية أنه، على رغم كل الاحتجاجات التي صاحبتها، فإن قوات الأمن التي ألقت القبض على النساء الـ23 لم تُحاسب، وكأن القضية هامشية، واحتجاز النساء كرهائن أمر معتاد. بل إن وزارة الداخلية أنكرت الأمر برمته في بيان صحافي، ولولا أزمة تصفية الشابين وقرار مشايخ النجيلة بعدم التعامل مع الداخلية ومطالبتهم بلقاء الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، لانتهى الأمر من دون أن يعرف أحد شيئًا عنه.
الحرب على داعش
في مسلسل “الاختيار” الذي عُرض قبل بضع سنوات بوصفه قصة بطولة أحد ضباط الأمن المصري، يظهر مشهد تؤدي فيه الفنانة سهر الصايغ دور شقيقة أحد العناصر الإرهابية، حين تُبلغ قوات الأمن عن شقيقها، لكنها ترجُو الضابط ألّا يمسّ والديها بسوء. فيجيبها الضابط بثقة: إنهم يحاسبون المخطئ فقط، ولا شأن لهم بأسرته.
لو أعدنا تمثيل هذا المشهد على أرض الواقع، فالأرجح أن شقيقة العنصر الإرهابي كانت ستصبح رهينة لدى الأمن حتى يسلّم شقيقها نفسه. وهذا بالضبط ما حدث في سيناء، وفقًا لتقرير صادر عن منظمة “هيومن رايتس ووتش” و”مؤسسة سيناء لحقوق الإنسان”.
فقد رصد التقرير، الصادر في أيار/ مايو 2023، اعتقالات وانتهاكات تعرّضت لها نساء، إما بالقبض عليهنّ لاتخاذهن رهائن للضغط على أقاربهن لتسليم أنفسهم، أو بتعذيبهنّ للحصول على معلومات حول أقاربهن الذكور المنتمين الى تنظيم “ولاية سيناء”. ومع ذلك، لم تحظَ هذه الانتهاكات بأي تغطية أو اهتمام يُذكر ضمن سياق ما يُعرف بـ”الحرب على داعش والإرهاب في سيناء”.
وبحسب التقرير، وثّقت المنظمتان 21 حالة وقعت بين عامي 2017 و2022، شملت 19 امرأة وفتاتين. وقد أجرت المنظمتان مقابلات عن بُعد مع أقارب تسع من النساء والفتيات، ومحامين يمثلون تسع نساء أخريات، وامرأتين كانتا محتجزتين مع امرأة ثالثة، إضافة إلى محتجزتين سابقتين.
وقال أقارب ثلاث نساء إن عناصر قطاع الأمن الوطني اعتدوا عليهن في مواقع مختلفة، بما في ذلك الضرب والصعق بالكهرباء. كما أفادت امرأتان أخريان بتعرّضهما لاعتداءات لفظية، إذ صفع أحد الضباط إحداهن على وجهها، بينما عُصبت عينا الثانية داخل أقسام شرطة شمال سيناء.
إقرأوا أيضاً:
وبحسب التقرير أيضًا، فإن بعض المعتقلات كنّ ضحايا لتنظيم داعش نفسه، إذ أُجبرن على الزواج القسري والاغتصاب، ثم اعتُقلهن بعد هروبهن من سيطرة التنظيم، من دون أن تتعامل الدولة معهنّ كضحايا محتملات لتلك الجرائم.
لكنّ الأمر في سيناء لم يبدأ مع ما يُعرف بـ”الحرب على الإرهاب”، كما يؤكد صحافي متابع للأوضاع هناك فضّل عدم ذكر اسمه. فبحسب قوله، اعتادت قوات الأمن الضغط على المطلوبين في سيناء عبر القبض على نسائهم وأقاربهم من الإناث، مستغلّين حساسية وضع المرأة في المجتمعات القبلية البعيدة عن المدن.
ويضيف الصحافي: “الأمر بسيط لدى الأمن، لا يجرح البدوي سوى عرضه. لذلك يُقبض على النساء ويُتخذن رهائن لإجبار المطلوب على تسليم نفسه، وأحيانًا يُعتقل عدد كبير من النساء لإحراج القبيلة نفسها ودفعها الى تسليم المطلوبين”.
ويتابع: “هذا الأسلوب ليس جديدًا، فقد تم اتباعه في هجمات سيناء عام 2004، إذ وثّقت المنظمات الحقوقية آنذاك سلسلة من الاعتقالات العشوائية شملت عددًا كبيرًا من أقارب المطلوبين أمنيًا، من بينهم نساء تعرّضن للتعذيب”.
ما قاله الصحافي يتطابق مع التحقيق المنشور عام 2007 في جريدة “المصري اليوم“، تحت عنوان “نساء سيناء رهائن أمنية للقبض على الأزواج المطلوبين”، إذ رصد التحقيق دأب الأجهزة الأمنية على اعتقال النساء بهدف الضغط للقبض على أزواجهن المطلوبين أمنيًا.
وعلى طريقة القبض على “أم منتصر” في فيلم الهروب، وثّق التحقيق واقعة اعتقال أم مسنّة مريضة بالسرطان للضغط على ابنها كي يسلّم نفسه. وظلّت الأم في قبضة الأمن لمدة شهرين، قبل أن يُفرج عنها لتدهور حالتها الصحية، لكنها توفيت بعد الإفراج عنها بأيام معدودة. كما أشار التحقيق إلى الإفراج عن زوجة أحد المطلوبين بعد ولادتها طفلها أثناء الاحتجاز، مقابل تسليم 15 قطعة سلاح للأمن.
خارج سيناء، لم يختلف الوضع كثيرًا في فترة التسعينات. ففي حوار منشور مع علي الشريف، أحد قيادات الجماعة الإسلامية في تلك الفترة، ذكر أن حادث استهداف الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك كان ردًّا على ما فعلته قوات الأمن بنساء الجماعة الإسلامية.
وفي الحوار الذي أجراه الصحافي أحمد إمبابي – رئيس تحرير مجلة وبوابة روزاليوسف حاليًا – ونُشر في إحدى الصحف الكويتية عام 2011، قال الشريف: “نظام مبارك استخدم النساء بشكل يتنافى مع أبسط حقوق الإنسان للضغط على أعضاء الجماعة، إذ كان يأخذ النساء رهائن لأشهر، وكان نظامه يقتحم البيوت والشقق ويأخذ النساء بملابس النوم ويعذبهن”. واستشهد بواقعة احتجاز نساء المتّهمين بقتل رئيس مجلس الشعب حينها رفعت المحجوب.
ليس السياسيين فقط
“الأمر معتاد مع الجنائيين أيضًا”، بهذه العبارة علّق المحامي محمد سليمان على احتجاز النساء كرهائن في أقسام الشرطة. وقال سليمان لـ “درج”: “احتجاز النساء أمر دارج، لا يمكن القول إنه إجراء رسمي من الشرطة، لكنه معتاد ويحدث كثيرًا. إلا أن الأمر في النهاية خاضع لضابط المباحث الموجود في دائرة القسم؛ فهناك ضباط يرفضون هذا النهج أو يقومون به من دون أن يتعرضوا للنساء بأي أذى، وهناك ضباط آخرون قد يعتدون بالضرب أو التعذيب على النساء، أو حتى يهددون الزوج المتهم بالاعتداء على زوجته أو أخته أو ابنته لإجباره على الاعتراف”.
وأشار سليمان إلى أنه تولّى قضايا عدة قُبض فيها على النساء لإجبار المتهمين على تسليم أنفسهم، وعلى رغم أن النساء يُفرج عنهن في النهاية، فإنه لا يذكر واقعة واحدة عوقب فيها ضابط على احتجاز النساء.
سواء كان بيان الداخلية في قضية البلينا حقيقيًا، أو سواء كذبت الداخلية في قضية النجيلة التي قُتل فيها شابين خارج نطاق القانون أم لا، تبقى النساء في مصر مهددات دائمًا بالاعتقال، لا لجريمة ارتكبنها، بل فقط لأنهن من أسر متهمين بارتكاب جرائم، سواء كانت إرهابية أو جنائية عادية. وتبقى الداخلية تنظر إلى النساء كـ”سبايا” أو رهائن، لا كمواطنات.













