ضجّت وسائل التواصل الاجتماعي، أمس، بالنقاشات الدائرة حول وقف رئيس الجامعة اللبنانية العمل بقرار مناقشة رسالة ماجستير في علم النفس العيادي، بسبب “تعارض موضوعها مع القيم الاجتماعية السائدة في المجتمع اللبناني بمكوناته كافة”، ودعوته مجلس الوحدة للتداول في الموضوع.
موضوع الرسالة حمل عنوان “تعزيز المرونة النفسية لدى المثليين لتجنيبهم مخاطر رهاب المثلية”، وكان من المقرر أن يناقش غداً الأربعاء، بعدما جال في أروقة الجامعة سنة ونصف السنة على أقل تقدير، بدءاً بتقديمه كمشروع بحث ونيله موافقة لجنة المشاريع، وهي لجنة علمية “متخصّصة”، مروراً بمتابعته من المشرفة، ولاحقًا بملاحظات القارئتين وبموافقة العميدة وصولًا إلى صدور قرار عن رئيس الجامعة اللبنانية بالموافقة على صرف اعتماد لمناقشته.
ولكن لسبب لا يزال مجهولاً، وعلى الغالب ليس بريئاً، تم “نكش” الموضوع وإثارة زوبعة حوله.
سيناقش مجلس الوحدة الموضوع ويتّخذ في شأنه قراراً يؤمل بألا يكون مخجلاً ومخيباً للبقية الباقية من أمل بعضنا بنجاة الدكاترة، حملة الشهادات الأعلى، من براثن “الأيديولوجيات” المكمِّمة للأفواه الحاجرة على العقول وحتى على البحث. من جهتي، لم أفقد الأمل بأن ينصف مجلس الوحدة الزميلة ويصوّت لصالح السماح لها بمناقشة رسالتها ونيل شهادتها، ولكن…
الموضوع لا يتعلق بالزميلة وموضوعها وشهادتها فقط، بل يذهب في اتجاهات عدة كلّها مقلقة وتطرح إشكاليّات لا حصر لها، تتعلق بالبحث العلمي والرقابة عليه، وكل أهل الجامعة اللبنانية وحتى الجامعات الأخرى معنيون بنقاشه.
يتعلق الموضوع أيضاً بمنصب “حراسة القيم الاجتماعية” واحتكار الحقيقة والصواب، بالحرية والوصاية والديمقراطية والتمرد والخضوع، بالمواقف والمصلحة، ولكن كلها مواضيع لن أتطرق إليها لأن ما يعنيني الآن هو التركيز على نقطة محددة متعلقة بردات أفعال بعض الزملاء “النفسانيين” من طلاب وخريجين وممارسين لمهنة النفساني، وقد هالني ما قرأته من آرائهم التي تشيد بقرار رئيس الجامعة وتعتبره تصويباً للخطأ المرتكب من كل المتخصّصين الذين مرّ عليهم موضوع الرسالة وقدموا موافقتهم على بحثه ومناقشته.
تخيلوا أن يمتنع طبيب أو ممرض عن إسعاف جريح قبل أن يتفقّد “أخلاقياته” ويوافق عليها!!!…لم يطلب منكم أحد أن تباركوا “المثلية”، بل أن تتحلّوا بأخلاق “المهنة”.
الغريب في الأمر، أن موضوع الرسالة لا يتناول المثلية وإنما المرونة النفسية. وقد اختارت الزميلة “مثليين” لتعمل على تعزيز مرونتهم النفسية لكونهم يشكلون فئة معرّضة للمخاطر، وهو أمر مثبت بالأرقام والدراسات، مثلهم بذلك كمثل أي فئة “مهمّشة” أو “مستضعفة” معرّضة للمخاطر.
وتعزيز المرونة النفسية هو شكل من أشكال الرعاية الصحية التي نتعلم ونتدرب، على مدى سنوات، لنقدمها، كمتخصّصين، لطالبي الخدمة، الذين لا نميز بينهم ولا نحاكمهم أخلاقياً، لأن أحد أهم المقررات التي ندرسها هو مقرر أخلاقيات المهنة، الذي يعلمنا أن نخرج “ذاتياتنا”، بميولها وأهوائها وقناعاتها ومعتقداتها، خارج الجلسة العيادية.
ندخل الكادر العيادي بكل تجرد وحياد وموضوعية، وندخل المهنة بإيمان راسخ بحق الإنسان بالوصول إلى الرعاية الصحية، والصحة النفسية جزء لا يتجزأ من الصحة العامة، والإنسان هو كل إنسان وأي إنسان، بمعزل عن عرقه ولونه وجنسه وجنسيته وسنّه ومهنته وميوله الجنسية، وأخلاقياته وسلوكه ومواقفه.
لكنّ الزملاء المستنكرين اكتفوا بقراءة كلمة “مثليين” ليصابوا برهاب أنساهم ما تعلّموه (أو ربما لم يتعلموه، وهذا سؤال يجب طرحه)، أنساهم دورهم. فالنفساني لا يوافق أو يرفض، لا يشجع ولا يستنكر، لا يبدي رأيه ولا نصحه، لا يعظ. النفساني لا يهدي الناس الى الصراط الذي يعتقد أنه مستقيم، لا يقيم محاكمات أخلاقية، ومن المؤكد أنه لا يمتنع عن تقديم رعايته لمن يحتاجها لأنه مختلف ولأنه لا يتوافق مع منظومة قيمه الخاصة…
تخيلوا أن يمتنع طبيب أو ممرض عن إسعاف جريح قبل أن يتفقّد “أخلاقياته” ويوافق عليها!!!…لم يطلب منكم أحد أن تباركوا “المثلية”، بل أن تتحلّوا بأخلاق “المهنة”.