كان بإمكان رياض سلامة أن يكون أكثر إثارة في خطابة، أو ربما أقل رتابة. امتلأت كلمته بالمصطلحات الثقيلة على سمع معظم اللبنانيين، الذين تغرّبوا لزمن طويل عن هذا الكوكب من التعابير التقنيّة الاقتصاديّة والماليّة. ربّما كان تغرّب اللبنانيين عن هذه التعابير مجرّد نتيجة لطريقة تعامل الإعلام التقليدي اللبناني مع الاقتصاد منذ التسعينات، أو ربّما كان ذلك بسبب طبيعة اقتصادنا الذي لم يحتوِ منذ نهاية الحرب على الكثير مما يستحق الاهتمام. لكنّ الآية انقلبت اليوم، فأصبح هناك الكثير مما يستحق الانتظار والتكهّن به في كلمة حاكم المصرف المركزي والقابض على أسراره، لكنّ غربة معظمنا عن مفاهيمه لم تتغيّر بعد.
للوهلة الأولى، بدا سلامة للجمهور بهذا الأداء أصعب فهماً وبالتالي أقل إقناعاً من أي خبير مالي من الخبراء الذين يدورون في فلكه ويخرجون عادةً على وسائل الإعلام، وهو ما كان مستغرباً من حاكم مخضرم عاشر الرؤساء والزعماء والوزراء وأتقن فنّ الإقناع.
لكن عمليّاً، من الواضح أن الرجل يمتلك الخبرة الكافية ليملك غاية من كل هذا التعقيد في الشرح واستخدام المصطلحات في كلمته، حتّى في المقاطع التي لم تكن تستدعي هذا التعقيد. إنّها “الأستذة” بمعناها العربي الفصيح، واستعراض العضلات المعرفيّة والتقنيّة حتّى أقصى حدود، وصولاً إلى عرض المسائل النقديّة والماليّة بوصفها كوكباً من المفاهيم الغامضة التي يصعب على اللبنانيين الدخول فيها ومناقشتها. وعند تقديم الواقع بهذه الطريقة، سيصعب حتماً الدخول في نقاش على مستوى الرأي العام يسعى إلى الوصول إلى مرحلة تحديد المسؤوليّات ثم المحاسبة.
شفافيّة الميزانيّات
في الواقع، وبمعزل عن التعقيدات التي يحاول سلامة إضفاءها على شروحاته، لا يستدعي فهم عمق الأزمة النقديّة القائمة هذا الإلمام التقني المالي كله، كما لا يستدعي تحديد مكامن الخلل في حجج سلامة إلى هذه الخبرة. فسلامة حاول مثلاً الرد على الاتهامات التي تطاول المصرف المركزي بخصوص الشفافيّة في عرض المعلومات، من خلال الإشارة إلى نتائج حساباته التي ينشرها في الجريدة الرسميّة، والتي تمكن العودة إليها حتّى عام 2006. لكنّ أزمة الشفافيّة في ما يتعلّق بأرقام مصرف لبنان كانت فعليّاً أبعد من مجرّد الكلام عن الميزانيّات التي تنشر في الجريدة الرسميّة.
على مدى السنوات الماضية، وقبل حصول الانهيار المالي بكثير من الوقت، كانت تقارير ودراسات ماليّة كثيرة تشير إلى إخفاء مصرف لبنان في ميزانيّاته أهم معلومة كان يمكن أن تحذّر منذ ذلك من أزمة السيولة المقبلة، وهي حجم الفجوة بالعملات الصعبة. والفجوة هذه ليست فعلياً سوى الفارق بين التزامات المصرف المركزي بالعملات الصعبة من جهة -وهي بأغلبها التزامات ناتجة عن توظيف المصارف لدولارات المودعين لديه- والموجودات المتبقية من هذه العملات من جهة أخرى. أمّا مصدر هذه الفجوة الأساسي، فكان تحديداً الخسائر التي كان يتلقاها مصرف لبنان من موجوداته بالعملة الصعبة، نتيجة تدخّله في الأسواق لتوفير الدولار وتثبيت سعر.
من الواضح أن الرجل يمتلك الخبرة الكافية ليملك غاية من كل هذا التعقيد في الشرح واستخدام المصطلحات في كلمته
وإذا عدنا إلى ميزانيّات المصرف المركزي التي يتحدّث عنها سلامة، فمن السهل اكتشاف أن المصرف المركزي كان يصنّف الموجودات التي يملكها بالعملات الصعبة في بنود خاصّة، بينما كان يخلط التزاماته لمصلحة المصارف بجميع العملات في بند واحد. وهكذا، كان من المستحيل اكتشاف الفارق بين ما وظّفته المصارف من أموال المودعين لدى المصرف المركزي، وما تبقّى من هذه السيولة بحوزة مصرف لبنان بعد الخسائر التي مني فيها في عمليات تثبيت سعر الصرف.
وعلى رغم جميع الإشارات إلى هذه الفجوة وغياب المعلومات عنها طوال سنوات طويلة، لم يعمد المصرف المركزي إلى الكشف عن الأرقام المتعلّقة بها. كانت الوثيقة الأولى التي حددت حجم هذه الفجوة بشكل دقيق هي مسودّة خطّة الإصلاح المالي التي شاركت في إعدادها شركة لازارد لمصلحة الحكومة اللبناني، والتي تبيّن فيها أن حجم هذه الفجوة يتجاوز الـ42.8 مليار دولار. هذه الفجوة، ليست سوى الدولارات التي خسرها مصرف لبنان من أموال المودعين التي وظّفتها المصارف لديه، وهي خسائر مستقلّة ومختلفة عن أزمة توقّف الدولة عن سداد سندات اليوروبوند التي تكتب بها المصارف ومصرف لبنان. هذه الخسائر وحدها توازي قيمتها الـ38 في المئة من قيمة الودائع المصرفيّة بالعملات الصعبة.
ماذا يملك مصرف لبنان؟
ثمّة جانب آخر لأزمة الشفافيّة مع الحاكم. فسلامة في كلمته بالأمس أشار إلى السيولة الموجودة باتت قيمتها تزيد عن 20 مليار دولار، بينما تشير الأرقام الموجودة في ميزانيّات المصرف المركزي إلى أن احتياطي العملات الصعبة الموجودة تتجاوز قيمته الـ28.48 مليار دولار، وهو رقم معتبر استعمله الحاكم لإقناع الدولة بعدم التوقّف عن سداد ديونها. فماذا تغيّر بين الرقمين؟

في الواقع، لطالما أشارت التقارير المالية –مثل تقرير وكالة فيتش الإئتمانيّة- إلى أنّ الأرقام الواردة في ميزانيّة المصرف المركزي لا تعكس احتياطي العملات الصعبة الموجود فعلاً، إذ كان يقوم المصرف المركزي بتضمين موجودات تحت هذا البند، لا يمكن تسييلها بسرعة عند الحاجة، أو ربّما لا يمكن تسييلها حتّى لو عُرضت بأثمان بخسة كسندات اليوروبوند اللبنانيّة التي يملكها مصرف لبنان والتي توقّفت الدولة عن سدادها.
وهكذا، وبعد إستثناء هذه الموجودات غير السائلة، تبيّن أن حجم السيولة الفعلي الموجود لدى الحاكم يقل بأكثر من 8 مليارات دولارات عن الرقم الموجود في الميزانيّة. لكنّ أزمة الشفافيّة هنا لا تنتهي، فحتّى الـ20 مليار دولار التي أشار إليها الحاكم في كلمته، والتي تستثني الموجودات غير السائلة، تتضمّن موجودات أخرى غير قابلة للاستخدام، مثل الاحتياطي الإلزامي للمصارف التي تتجاوز قيمته حاليّاً الـ17 مليار دولار.
استدانة الدولة والهندسات
في خطابه، ركّز سلامة على على الديون التي وفّرها المصرف المركزي بفوائد منخفضة مقارنة بفوائد السوق، في إشارة إلى الأدوار الإيجابيّة التي لعبها مصرف لبنان خلال الفترة الماضية. لكنّ ما يتحدّث عنه سلامة بإيجابيّة هنا هو تحديداً نمط من العمليّات التي فاقمت أزمة الدين العام طوال السنوات الماضية، وأخفت عوامل التفجّر مما ضاعف من آثارها اليوم.
فخلال السنوات الماضية، ومع تنامي القدر الذي امتصّته خدمة الدين العام من الواردات الحكوميّة نتيجة ارتفاع قيمة الدين نفسه، وبعد ارتفاع الفوائد في الأسواق وبالتالي ارتفاع كلفة الاستدانة، باتت الدولة غير قادرة على إعادة تمويل الدين من خلال بيع سندات الخزينة للمصارف، وفق فوائد السوق. في ذلك الوقت، وبدل اللجوء منذ تلك اللحظة إلى التوقّف عن السداد والتفاوض لإعادة هيكلة الدين، عمل المصرف المركزي لسنوات على امتصاص سيولة المصارف، عبر عرض الفوائد المرتفعة، وفي المقابل استخدام هذه السيولة لتمويل عمليّات الإكتتاب بسندات الخزينة بفوائد منخفضة.

بهذه الطريقة، حافظ المصرف المركزي على أرباح المصارف من خلال الفوائد المرتفعة لتوظيفاتها لديه. لكنّه عمليّاً كان يخفي بهذه الطريقة جزءاً كبيراً من كلفة خدمة الدين في ميزانيّاته، على شكل خسائر ناتجة عن الفارق بين الفوائد المرتفعة التي دفعها للمصارف والفوائد المنخفضة التي يتقاضاها من الدولة في المقابل. وبينما كان مصرف لبنان يخفي هذه الخسارة في ميزانيّاته، كان عمليّاً يضخّم الدين العام ويؤجّل الدخول في معالجة جديّة له، كما كان يقضم من حجم السيولة من أموال المودعين التي وظّفتها المصارف في أدوات الدين السيادي، إما بشكل مباشر عبر تسليف الدولة أو بشكل غير مباشر عبر التوظيف لدى مصرف لبنان الذي كان يسلّف بدوره الدولة.
ركّز سلامة على على الديون التي وفّرها المصرف المركزي بفوائد منخفضة مقارنة بفوائد السوق، في إشارة إلى الأدوار الإيجابيّة التي لعبها مصرف لبنان خلال الفترة الماضية.
وخلال خطابه، دافع سلامة عن هندساته، معتبراً أنّها ساهمت في تأجيل الانهيار بانتظار عقد مؤتمر سيدر. لكنّ سلامة يفترض مرّة أخرى هنا أن شراء الوقت كان السياسة الأمثل التي يمكن اتباعها في تلك الفترة، مع العلم أن هذه الهندسات أدّت عمليّاً إلى تسارع الزيادة في فجوة العملات الأجنبيّة، التي تحدّثنا عنها سابقاً، كما أدّت إلى ترتيب أكلاف خياليّة على ميزانيّة مصرف لبنان، ضاعفت لاحقاً من حجم الأزمة القائمة. أمّا ما هو أهم، فهو تسبب بعض صيغ هذه الهندسات إلى خلل في التوازنات النقديّة، نتيجة امتصاص السيولة بالعملات الأجنبيّة من قبل مصرف لبنان بشكل واسع من السوق، مقابل ضخ كميات كبيرة من السيولة بالليرة اللبنانيّة.
في كل الحالات، كان من الواضح أن رياض سلامة لم يشأ من كلمته سوى تقديم مرافعة عن سياساته النقديّة، في محاولة لتحييدها عن سهام الغضب الناتج عن الانهيار. لكنّ الخطاب كما كان واضحاً، لم يقدّم أي خارطة طريق للخروج من المأزق، لا بل كان واضحاً أنّ هذا لم يكن هدف الحاكم منذ الأساس. وفي المقابل، يلعب دياب مع سلامة لعبة عض الأصابع بالطريقة نفسها، فيعقد إجتماعاً لمجلس الوزراء بلا أي مقررات تتعلّق بالأزمة النقديّة، وانهيار المستوى المعيشي الناتج عنها. نحن أمام لعبة تقاذف المسؤوليّات إذاً، بانتظار الطرف الذي ستحرقه نار الأزمة أوّلاً.