بعد أشهرٍ أمضيناها في الشارع في انتفاضتنا اللبنانية، شاء القدر أن يفرض علينا إقامةً جبريّة في بيوتنا، وكأنّه ينوي تعويض الفارق. 4 أشهرٍ تقريباً، لم نعرف من منزلنا سوى غرفة النوم – للاستراحة بين معركتَين مع السلطة وأدواتها. اليوم، وبسبب الكورونا، يقبع عدد من اللبنانيّين في بيوتهم، سواء أكانوا من المنتفضين أم لا. وأقول “عدداً منهم”، لأن العدد الآخر لا يملك ترف الحجر المنزلي، وعليه خوض معركة الحياة بأبشع أشكالها: التعرّض لـ”كورونا” أو الموت جوعاً.
في كل الأحوال، فرض “كورونا” تغييراً جذرياً على نمط الحياة اليوميّة، حتى بات بإمكاننا القول إنّ “الروتين ما بعد كورونا ليس كما قبله”. وبعدما عرضنا بإيجازٍ الواقع الاجتماعي- السياسي للموضوع، سنتناول في ما يلي الجانب الاجتماعي- المعماري. وسنتكلّم عن ظواهر برزت في الأحياء الشعبيّة هذه الفترة، أمّا في تلك المرفّهة، فلا نعلم كيف يتفاعل قاطنوها مع المساحات فيها – فلم تسنح لنا فرصة بعد لمراقبة عاداتهم.

في هذه الظروف، يعيد السكّان اكتشاف منازلهم، مجرين عليها التعديلات المناسبة. بعد جولةِ استجواباتٍ سريعة، تبيّن مثلاً أن عدداً من الشباب القاطنين بمفردهم عدّلوا كنبة الصالون لتصبح القطعة المركزيّة في المنزل: طاولة السفرة ثم السينما ثم الفراش. آخرون استغنوا عن التلفزيون، كونه أصبح (أو بالأحرى هكذا كان دائماً، لكن بشكلٍ مموّه) جهازاً لتلميع صورة المصرفيّين والفاسدين، أو جهازاً يبسط من خلاله الإعلام التقليدي كلّ فوقيّته وفاشيّته تجاه المواطنين، تارةً بنعتهم بالـ”بلا مخ”، وطوراً بحماسة “إعلاميين” لتحرير مخالفات وتسطير ضبوط لمن يخرج من حجره؛ المهم، لسنا بحاجة للتلفزيون في هذه الفترة، سيستبدله الشباب بموقع “نتفلكس” ومواقع الأفلام المُقرصَنة، وسيستبدله الجيل الأكبر بـ”فايسبوك” والمقالات الرقمية.
أما الظاهرة الأهم هنا، فهي “إعادة إنتاج البلكون”، أو الشرفة أو “البرندا” أو “السطَيحة” (ولا تعبّر هذه التسميات بالمناسبة عن الوظيفة ذاتها). كان هذا الحيّز الذي نعيد اكتشافه اليوم مهملاً لسبَبين: الأوّل، وجود الوظائف “الروتينيّة” داخل المنزل، كالتلفزيون مثلاً أو المكتب أو السفرة. لكن في هذه الفترة تحديداً، وبسبب “ضيق الخلق”، ينقل معظم السكّان هذه الوظائف إلى الخارج. والسبب الثاني، هو الضجيج الذي يطاول الشرفة جرّاء زحمة الشارع، وهذا ما انتفى اليوم نتيجة الحجر المنزلي وإغلاق المحال التجارية. أصبح البلكون إذاً مساحة هادئة و”لذيذة”.
فرض “كورونا” تغييراً جذرياً على نمط الحياة اليوميّة، حتى بات بإمكاننا القول إنّ “الروتين ما بعد كورونا ليس كما قبله”.
يكفي أن نخرج إليه ونراقب منه جيراننا ونرى، هذا يقرأ على الشرفة وهذا يدرس، هؤلاء يتصبّحون على فنجان القهوة، ثم يفرشون الغداء هنا، وهناك آخرون أعادوا ترتيب الشرفة كمساحة لعب للأطفال “ت ما يبقوا جوّا، حرام”، هنا نرجيلة، وهناك جارتنا تفتح الكاميرا لتُري ابنها في المغرب “كيف أن كل المحلات مسكرة هون! الله يستر شو هالمرض؟”. يمكننا أن نقول إن الشرفات تخطّت وظيفتها المعمارية البسيطة وأصبحت مساحة تواصل؛ في الأحياء الشعبية، ستبقى “الرندحة” من شرفةٍ إلى أخرى فعّالة أكثر من اتّصالات الفيديو.
أما في الجانب التقنيّ، أو بالأحرى “التخصّصي”، فليست هذه الظاهرة عبثية، بل مفهومة جدّاً. أذكر مثالَين للتوضيح، يرجّح بعض المنظّرين في العمارة أن سبب استخدام الخشب لصنع الأغراض الداخلية لا يقتصر على وفرة هذه المادة وسهولة التعامل معها، بل له أيضاً أسباب سيكولوجيّة. فالإنسان بطبيعته جزء من الطبيعة، والمنزل بشكله الباطونيّ الحالي ليس سوى ظاهرة حديثة جدّاً في تاريخ مساكننا، لذا يلجأ الإنسان قدر المستطاع إلى استعمال مواد من الطبيعة في تجهيز المنازل من الداخل، كرغبةٍ لا واعية منه للبقاء على هذا الاتصال اللصيق مع الطبيعة. وأميل شخصيّاً إلى الاعتقاد أنّها حاجة وليست رغبة وحسب. والمثال الثاني، هو الطراز الذي أرساه المعماري “ميس فان دير-روه”، وهو باختصار واجهة زجاجيّة “محرّرة”، كما أصبح المسقط في القرن العشرين أيضاً “محرّراً”، أي بلا قواطع داخلية ثابتة. ابتدع ميس الواجهة الزجاجيّة التي تمتدّ على طول المساحة الأفقية، واستعملها في المنازل التي صمّمها في البراري، في الطبيعة، بين الأشجار. ورغب بذلك في أن يمدّ الداخل إلى الخارج، وأن يُدخل الخارج إلى الداخل، ولاقى هذا التصميم نجاحاً باهراً وشكّل نقطة أساسيّة في تاريخ العمارة الحديثة. إنّما هذا النجاح مردّه إلى أن ميس استطاع توسيع حيّز تلاقي الإنسان بالخارج، بينما هو يجلس في الداخل. بهَذَين المثلَين، تتّضح لنا أهمية المساحات التي تعزّز العلاقة بين الإنسان والطبيعة، والعلاقة بين الداخل والخارج، وهذه تحديداً هي وظيفة الشرفة التي أهملناها لعقود – وها نحن اليوم نعيد اكتشافها بسبب وباءٍ عالميّ.

ختاماً، قد نستخرج من هذه الظاهرة خلاصةً مفادها أنّ التواصل لا غنى عنه، إن كان في زمن الحجر أو غيره، وإنّ علاقاتنا مع الآخر والخارج والطبيعة هي علاقات أساسية في صوغ تكوينٍ نفسي واجتماعي “سَويّ”. تقديري أنّ هذه الفترة مناسبة للتفكّر بموضوع المسكن، وتثويره حتى يصبح مساحة تفاعل وإنتاج عوضاً من أن يكون مساحة استهلاك تخضع لشروط المجتمع الاستهلاكي وحسب. فلنعد إنتاج مساحاتنا إذاً، بما يتناسب مع حاجاتنا الحياتيّة، بعيداً ممّا فرضته علينا الكانتونات في المناطق الشعبية، ولنُرَندح عن شرفاتنا ما شئنا، ولنستمع منها إلى موسيقانا وموسيقى جيراننا، ولنُعد الاعتبار إلى المنطق الجماعي في الأحياء بعيداً من التفرّد والفردانية.