توفي المغني والمؤلف الموسيقي الإيراني محمد رضا شجريان، في مستشفى “جم” في العاصمة طهران، عن عمر يناهز 80 سنة، بعد صراع دام 15 عاماً، مع مرض السرطان، وقد أعلن نجله همايون، خبر وفاته، بعبارات صوفية، على حسابه الرسمي في “إنستاغرام”، فكتب: “غبرة أقدام الشعب الإيراني، حلق نحو ديار الحب”.
منذ بداية تشرين الأول/ أكتوبر 2020، أخذ وضع شجريان الصحي بالتراجع، لذلك لم يكن موته مفاجئاً، وعلى إثر إعلان أطبائه، منذ ايام، أنهم بدأوا يفقدون الأمل بنجاته، وأنه بات في حاجة إلى معجزة، تحول محيط المستشفى الذي يرقد فيه، إلى ملتقى لمحبيه، الذين دأبوا على ترديد ترتيلته الدينية الشهيرة “ربنا”، حتى لحظة توقف قلبه عن الخفقان.
وبعد انتشار خبر وفاته، تدفق آلاف الإيرانيين، إلى الساحات المحيطة بالمستشفى والشوارع المؤدية إليه، للتعبير عن حزنهم وسخطهم أيضاً، وسرعان ما تحولت التجمعات إلى تظاهرة حاشدة، ارتفعت فيها هتافات ضد النظام الإسلامي ورموزه، وضد هيئة الإذاعة والتلفزيون، التي امتنعت منذ نحو 20 سنة، عن بث أغاني شجريان وحفلاته، وتدخلت الأجهزة الأمنية لقمعهم وتفريقهم بالقوة.
اعتزل شجريان الحياة الاجتماعية والفنية والثقافية، إرادياً، منذ أربع سنوات، وذلك بعدما اشتدت عليه وطأة المرض، فانقطع تواصله مع جمهوره كلياً. أما النظام فعزله قسراً، منذ عام 2009، بسبب انحيازه إلى مطالب شعبه، وتأييده “الحركة الخضراء”، ودعمه التظاهرات التي انفجرت صيف 2009، اعتراضاً على تزوير نتائج الانتخابات الرئاسية لمصلحة محمود أحمدي نجاد.
كان شجريان في تلك الفترة يعلن دائما أنه “مؤيد للشعب”، وقد استفزته عبارة “الحثالة” التي وصف بها نجاد المتظاهرين، فرد عليه يومها قائلاً: “أنا صوت هذه الحثالة وسأبقى دائماً صوتها”، فعاقبته رئاسة الجمهورية بعدم بث إنتاجه بقديمه وجديده، في وسائل الإعلام، الرسمية وغير الرسمية كافة، إضافة إلى منعه من إقامة الحفلات الموسيقية على الأراضي الإيرانية. وعلى رغم سقوط نجاد السياسي لاحقاً، ومجيء روحاني (المعتدل)، ظل شجريان محظوراً في الإعلام، حتى لحظة وفاته.
لم يسبق أن حظي فنان إيراني بشهرة وشعبية ومحبة، من مختلف شرائح الشعب الإيراني، كالتي حصل عليها شجريان، فعلى مدار الأربعين سنة الماضية، شكل صوته ذاكرة موسيقية مشتركة للشعوب الإيرانية، حمل به أفراح شعبه وأتراحه، آلامه وآماله، غنى للعشاق، لهجرهم ووصالهم، وأبكى السجناء والمنفيين والمسافرين. وفيما كان النظام الإسلامي يزيد من نفور الإيرانيين من الدين، كان صوت شجريان يقربهم من الله، وصارت ترتيلته الدينية “ربنا”، التي أهداها إلى شعبه، بعد حظر صوته، بمثابة “أذان” يردده الإيرانيون قبل كل صلاة.
كان شجريان في تلك الفترة يعلن دائما أنه “مؤيد للشعب”، وقد استفزته عبارة “الحثالة” التي وصف بها نجاد المتظاهرين، فرد عليه يومها قائلاً: “أنا صوت هذه الحثالة وسأبقى دائماً صوتها”.
كتبوا عن سيرته الشخصية ومسيرته الفنية، مؤلفات كثيرة، أهمها “راز مانا”، وأطلقوا عليه الكثير من الألقاب: أستاذ الأغنية الإيرانية، أبو الطرب الأصيل، خسرو الغناء، أسطورة الصوت، وغيرها، ما جعله أحد أهم رموز إيران وقيمها الثقافية، شأنه شأن متصوفيها الأوائل، الذين أحياهم بصوته، أمثال فريد الدين العطار، بابا طاهر، سعدي، حافظ، عمر الخيام وجلال الدين الرومي، وشعرائها المعاصرين أمثال سهراب سبهري، هوشنك ابتهاج، اخوان ثالث وملك الشعراء محمد تقي بهار، صاحب قصيدة “طائر السحر”، التي أخذ منها شجريان أحد أبرز ألقابه، وسرعان ما صار يوقع بها ألبوماته.
شجريان صاحب الصوت الكامل، تم تصنيف صوته كواحد من بين أجمل 50 صوتاً في العالم، تتلمذ على يده أهم المغنين والموسيقيين الإيرانيين، من بينهم نجله همايون وابنته مجكان. كان قارئاً للقرآن في طفولته، ثم اختار الغناء باسم مستعار (سیاوش بیدكاني) كونه ابن عائلة دينية، اشتغل في التعليم. كما عمل خطاطاً، وكان أول ظهور فني له، في حفل موسيقي في شيراز عام 1974. في العام التالي، فاز بالمرتبة الأولى في مسابقة تلاوة القرآن في إيران، وعام 1979، قبل انتصار الثورة الإسلامية ببضعة أشهر، أسس شركة “دل آواز” للموسيقى والغناء.
كان ثورياً منذ شبابه، يكره الأنظمة ورجال السياسة والدين، لذلك رفض الرعاية الرسمية لبدايات أعماله، واتهم النخب الثقافية والفنية والفكرية التي كانت تهادن الحكم الملكي، بالابتذال، ووصف الدوائر الفنية المدعومة منه بالملاهي الليلة، وفي هذه الفترة أيضاً، أنتج عدداً من الأغنيات الوطنية مع صديقه المغني الكردي شهرام ناظري.
ظل على ثوريته وعلى نفوره من السياسة والدين بعد انتصار الثورة الإسلامية. في أيامها الأولى، كان منتشياً بفكرة التخلص من الملكية، لكنه، سرعان ما اعترف بأنه أخطأ في تأييدها، ليس ندماً على الملكية، إنما لاكتشافه أن الحكام الجدد، لا يقلون دموية ولا عنفاً عمن سبقهم، فقرر أن يقاوم الإحباط بالأمل، فانصرف كليا إلى الغناء والتأليف الموسيقي، وكان أول نتاج له بعد الثورة الأوبريت الملهمة “ايران اى سراى اميد”، أي “إيران يا منزل الأمل” التي ظلت هيئة الإذاعة والتلفزيون تبثها في المناسبات الوطنية على رغم قرار مقاطعته.
ثم توالت أعماله الموسيقية، وتعاون مع مغنين وموسيقيين من قماشته، وتعدت شهرته حدود بلاده، وباشرت صالات باريس ولندن والولايات المتحدة وكندا باستقباله، وحصل عام 1999 على جائزة “بيكاسو” من منظمة “الأونيسكو”، ووسام “موزارت” من الأونيسكو” أيضاً عام 2014. ومنحته الدولة الفرنسية، في هذا العام، وسام الاستحقاق الوطني من رتبة فارس، في حفل أقيم على شرفه في السفارة الفرنسية في طهران. كما قلده السفير الفرنسي في طهران برونو فوشيه وسام وزارة الثقافة والفنون، وأهدته جامعة استانفورد الأميركية جائزة “بيتا” للموسيقى، وحصل عام 2017 على جائزة “الفن من أجل السلام” العالمية.
عاش شجريان من أجل الحب، على رغم جدران الكراهية التي كانت تحاصره، سواء في عهد الملكية أو في عصر الجمهورية، كما يروي عنه محبوه. كان يعتبر أن الفن بأنواعه كافة، ليس إلا أداة للتعبير عن الحب، لنشره بين الناس، لذلك كرهته الأنظمة وأحبته الشعوب، وليس مهماً تعداد الجوائز التي حصل عليها خلال مسيرته، ولا اسم أول أغنية ولا آخر أغنية أداها، ولا عدد ألبوماته، ولا الحفلات التي أقامها في بلاده وخارجها، فصوته سيظل يتردد “ما دام هناك عاشق يعترف بحبه لمعشوقته”، كما قيل فيه، وطالما أن هناك “من ينتظر عودة حبيب، أو صديق، أو ابن، أو زوجة، أو أب، أو أم”، وسيظل يغني، كما قال، طالما أن “رصاص هذا النظام يخترق رؤوس الإيرانيين وصدورهم”، سأبقى أغني: “ألقوا سلاحكم”.