أحدث العمل الفني الذي عرض في “غاليري مشربية” في القاهرة للفنانة سارة أيمن جدلاً واسعاً. والغريب أن العمل لم تنشر صوره في أي جريدة أو وسيلة إعلامية مصرية، إلا بعد تمويه العبارات المكتوبة عليه.
والعبارات التي حرص من تناول المعرض في سياق التغطية الاعلامية على تجاهل ذكرها هي: “كسم اللي يزعلك”، “اللبوة”، “تعبان نيك”، “بزازك حلوة”، “عسل أوي”، “ما تيجي تلعبي”، “ما تيجي تمصيلي”، عبارات حاكتها سارة بالخيط على رداء نسائي لتناهض به التحرش، وما تتعرض له النساء في مصر من عنف لفظي وجنسي، يتعدى أحياناً فظاعة هذه العبارات التي تترك أذى نفسياً بالغاً لدى الضحايا.
العمل كشف تحت ضوء جديد واقعاً معهوداً تتعرض فيه النساء للانتهاك، وكأن العمل قام بتثبيت الصورة بلا زخارف على العبارات السائلة في الحياة اليومية، التي يتم للأسف الاعتياد عليها وتبريرها.
الفنانة سارة أيمن (24 سنة)، صاحبة العمل كانت تتوقع هذا الجدل، بل كانت تنتظره لأن الجدل والصدمة جزء من رسالتها التي ترغب في إيصالها، مثلما قالت لـ”درج”، “نعم نحن نتعرض لهذه العبارات وأسوأ منها في الشارع من شباب وأطفال، ونتعرض للصفع على الوجه إذا اعترضنا في الفضاء العمومي بهذه القسوة”.
موجة الجدل هذه صعدت بشكل متسارع لتواجه الفنانة تنمراً إلكترونياً لا يقل في فظاعته عن العبارات المكتوبة على الرداء، العمل فتح النار على سارة أيمن على أكثر من جبهة، فكانت محاكمتها من عاملين في الفن التشكيلي فهاجموها بقسوة متهمين اياها بأن ما تعرضه ليس فناً. وهذا الهجوم كشف شبه القطيعة مع الفن المفاهيمي والتجهيز في الفراغ، أو بشكل أدق قطيعة بين “كهول” المهنة وشبابها من الفنانين المعاصرين.
موجة الجدل صعدت بشكل متسارع لتواجه الفنانة تنمراً إلكترونياً لا
يقل في فظاعته عن العبارات المكتوبة على الرداء.
الفنانة في عقدها الثاني استطاعت بعملها أن تفتح نقاشاً جذرياً ليس حول تجميد مشكلاتنا الاجتماعية بعيداً من الفن وحسب، بل أيضاً فتحت النقاش الأزلي حول القيمة الجمالية، هل قيمة الفن في مدى قدرته على إحداث اللذة الجمالية، أم قدرته على تحويل القضايا الاجتماعية إلى موضوع تأمل؟ تقول سارة: “مع احترامي للوحات الفنية وأشكالها وأنماطها، لكن منذ فترة طويلة يعمل فنانون مصريون على إنتاج لوحات جميلة تجسد شجراً أو وروداً وغير ذلك، وكلها أعمال راقية، لكن هناك قضايا ضرورية تستحق التناول. ومن غير المنطقي أن تكون فناناً تزين بيتك بلوحة زيتية لكن ابنتك أو زوجتك تخرج إلى الشارع وتسمع عبارات مهينة بشكل يومي، وتترفع فنياً عن تناول ما يحدث في الشارع الذي تسكن فيه أو ما يحدث في قلب بيتك”.
وتضيف: “الفن ما زال مقتصر لدى فئة كبيرة من الفنانين أو الجمهور على اللوحات الجمالية، ما زال الفن المعاصر أو الفن المفاهيمي أو الفن المعبر عن قضايا اجتماعية غير معترف به كفن أصلاً. من أغرب التعليقات التي جاءت على العمل أن هناك شريحة من المتلقين ظنوا أن العمل (ستايل) ينتظر مصنعاً لإنتاجه بآلاف القطع، لترتديه الفتيات في الشارع، هناك فن يسمى “تجهيز في الفراغ”، أي يمكن أن أعرض ملابسي الشخصية أو فرشاة أسناني في معرض ما دام وراء ذلك قصة، هو إذاً عمل فني”.
في كتاب “نظائر ومفارقات” يحكي الكاتب الفلسطيني- الأميركي إدوارد سعيد عن مسألة الاحتراف والموقف في الفن وإن كان احتراف الفنان كافياً أم أن هناك ضرورة قصوى لبناء موقف وتبني قضايا معينة، وكأنه يجيب على سؤال سارة، لماذا يرون أن الموقف الواضح وتبني قضايا اجتماعية في عمل معاصر ليس فناً؟
يقول إدوارد سعيد: “لطالما اعتبرت أن الاحتراف في مجال ما، ليس كافياً أبداً . لم يرضني ذلك بالقدر الكافي. أعتقد أن أحد الأمور التي أفعلها، هو أني أشعر أن لدي موقفاً تجاه ما أفعل، وهي مسألة غير مرتبطة بأمور الأسلوب أو الخبرة أو الاحتراف، لكنها تتعدى ذلك إلى العلاقة بين الفن والمجتمع”.
واجهت سارة أيمن تنمراً من كتائب الصوابية وحراسها، “أنت بنت ولا يصح أن تكتبي هذه العبارات وأنت في بداية مشوارك الفني، نعلم أن هذه العبارات تقال في الشارع لكن مكانها الشارع وليس صالة عرض للفنون”. لكن سارة عهدت بألا ترد على هذه التعليقات، وتوضح أن “التحرش أصبح يحصل بمنهجية تعتمد على التسلية والهمجية، قد تجاوزنا إلى مرحلة الألفاظ البشعة، لدي تجربة شخصية مع التحرش اللفظي اليومي وقررت تنفيذ العمل منذ أكثر من عام ونصف العام، بالتزامن مع حركة me too وبعد حملة assault police، وعقب قضية الفيرمونت. قررت أن أحاول من جديد عرض العمل في غاليري مشربية، بعدما تم رفضه في صالون الشباب وفي التقديم للمسابقات وفي أكثر من صالة عرض مصرية”.
تقول سارة أيمن “كان مبرر الرفض أن العمل بلا قيمة، وكان هناك فزع حقيقي من فكرة قبوله للعرض. المدهش أن لدي عمل فني قمت بتنفيذه عقب موت الطفلة جنى تعذيباً، على يد جدتها بعدما اغتصبها خالها، وكان العمل يتناول مسألة التحرش بالأطفال من الأهل، ورفض صالون الشباب عرضه وكذلك الصالات الأخرى، وكأن هناك من يتقصّد تجنب فتح أي نقاش حول كوارثنا الاجتماعية، كي لا ينقلب الرأي العام ضده، لا بد أن يكون العمل بلا موقف وأن يكون الجمهور راضياً عنه”.
كلمة “بلا قيمة” كانت من أكثر الكلمات إزعاجاً لسارة، على رغم أن لويس لافيل أوضح معضلة القيمة في “رسالة القيم” عندما قال، “نستخدم كلمة قيمة عندما نكون بصدد موقف يخرج بنا عن حالة اللامبالاة والحكم بالمساواة بين الأشياء، والقيمة تعبير عن اختيار، عن أولوية تعني أن كل تقييم هو انتخاب وتراتب”.
في مقال للباحثة والناقدة منيرة بن مصطفى بعنوان “هابرماس والمعقولية الجمالية”، تقول “تطور الفن المعاصر لا يعد إيذاناً بنهاية “الذوق الفني” ولا يؤدي إلى رتبية عامة في المجال الجمالي، والعلوم الاجتماعية تفيدنا بما يسمى “عقلنة” الدائرة الفنية، والحديث عن معقولية جمالية هو ما يخلق ما يسمى بتماسك الأثر الفني، تماسك السخرية والتهكم أو التجربة المأساوية أو المؤلمة أو غيرها، فالفنان الذي يقنعنا بتماسك أثره هو الفنان الذي يقدم فكرة أو اختياراً ذا دلالة ويبرز ذلك قدرته على تحويل الواقع”.
كلمة “بلا قيمة” كانت من أكثر الكلمات إزعاجاً لسارة.
أجرت سارة أيمن استبياناً على “انستغرام” بعد الجدل حول عملها الفني، سائلة عن العبارات التي تسمعها الفتيات في الشارع، وقامت بنشرها على صفحتها الشخصية، تقول سارة “جالي كمية عبارات مأساوية كنت فاكرة أن اللي انا كاتباه دا أصعب حاجة وأسوأ حاجة ممكن تتقال في الشارع لكن شفت عبارات أكثر قسوة”. وتضيف: “قالت فتيات أنهن أصبحن يفضّلن عدم الخروج، بسبب التحرش الجنسي والألفاظ الجنسية التي يسمعونها، وأكدت أخريات أنهن يتعرّضن يومياً للتنمر بسبب لون البشرة أو شامة في الوجه وحجم الشفاه، أو حتى بسبب زيادة في الوزن. وعبّرن عن مدى انزعاجهنّ من ذلك. وروت أخريات عن محاولاتهنّ لحماية أنفسهن من التحرّش، وكيف تعرّضن إزاء ذلك للصفع على الوجه والضرب في الشارع”.
تضيف سارة “جمهور ياسمين صبري هاجمها لأنها علقت عند سؤالها عن قضايا المرأة قائلة: “مفيش قضية أوي”، على رغم أنها بالتأكيد قالتها سهواً، لكن حتى العمل الذي يطرح قضية اجتماعية تخص واقع المرأة اليومي والانتهاك اللفظي الحاصل عليها تمت مهاجمته بقسوة. بصراحة لا استطيع وصف هذه الحالة سوى بالازدواجية، لا أعلم ماذا يريد المجتمع، يريدنا أن نتحدث، وعندما نتحدث يوجه سهامه إلينا لينكل بنا، بحجّة أن قيمنا الاجتماعية لا تسمح لك بترديد هذه الألفاظ”. وتختم: “في كل حال سعيدة بالعمل لأنه كشف للمجتمع وجهه، كأنه نظر إلى نفسه في المرآة”.