أُطفئت الأنوار في قاعة «سينما بانورا» في مدينة مالمو السويدية استعداداً لعرض باقة أفلام عربية قصيرة حديثة الإنتاج. قاعة ممتلئة في أمسية خريفية مثالية لكسر روتين حياة أهل المدينة، خصوصاً المهاجرين واللاجئين العرب. عرضٌ أتى في سياق «مهرجان مالمو للسينما العربية» في دورته التاسعة في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، والذي تدعمه مؤسسات سويدية ودنماركية.
أتى أحمد (25 سنة)، من مدينة لوند القريبة، خصيصاً لحضور الفيلم السوري «الحبل السرّي» للكاتب رامي كوسا والمخرج الليث حجّو. من سوء حظ الطالب الجامعي أن حجّو، مخرجه المفضل، لم يحضر العرض وعَلِم لاحقاً أن مشكلة تنسيق مع إدارة المهرجان حالت دون حضوره مع أن لديه «تأشيرة شينغن» تسمح له بالسفر إلى الاتحاد الأوروبي.
مفاجأة أحمد لم تكن بسبب حكاية الفيلم الافتراضية المشوقة. فعلى مدى 18 دقيقة، تروي كاميرا حجّو بلغة بصرية متقنة ترافقها موسيقى تصويرية مؤثرة، مواقف مكثفة من حياة قاسية لزوجَيْن يعيشان في حي محاصر. ويترقب المشاهد دخول الزوجة في مخاض يستحيل معه وصول القابلة، لأن قناصاً لا تُكشَف هويته يترصّد السكان ويطلق النار على كل ما يتحرك. ويضطر الزوج إلى مساعدة زوجته بنفسه في مخاضها. دهشة أحمد جاءت من أن الفيلم مصور في مدينة والدته، الزبداني، وفي حارة أهلها القديمة المدمرة عند «جامع المراح» أو «جامراح». وهو الحي الذي لم يزره أحمد منذ عام 2012 حين خرج من المدينة مع تدهور الوضع الأمني، ثم خروجه من البلاد ليتجنب الخدمة العسكرية الإلزامية.
يحفظ أحمد تفاصيل الحي جيداً، ويعرف الطبيبين المسلم والمسيحي اللذَينِ ظهرت لافتتا عيادتيهما سريعاً في سياق الفيلم. وفي الحي نفسه كان خال والدته يحضر السندويش كل صباح لمن تبقى منهم أثناء معركة شتاء عام 2012. كذلك أغلقَ ابن خالِ أمهِ دُكانَهُ ربيع عام 2011 وجرى حافي القدمين خلف تظاهرة مناهضة للرئيس بشار الأسد. وأثناء تحقيق المخابرات معه، قال إنه شارك المتظاهرين لأنهم كانوا يهتفون: «الـ ما بيشارك، ما فيه ناموس (أي نخوة)». ورفض الرجل يومها أن يكون ممن لا «ناموس» فيهم.
“أعجبني الفيلم خصوصاً أنه يحمل الكثير من الرسائل الإيجابية غير المباشرة لكنني حزين جداً على مدينة أمي المدمرة ومصير أهلها”، يقول أحمد.
وقبل عرض الفيلم في مالمو وبعده، أصدرت «مجموعة سوريون مستمرون في مالمو» على صفحتها في «فيسبوك» بيانين يدينان استخدام أنقاض المدن السورية باعتباره «استمراراً في نهج إرهاب الدولة ضد المواطنين السوريين المدنيين وعبثاً بالحقائق ومسارح الجريمة، بغض النظر عن قصة الفيلم”.
فضّل حجّو الاعتذار عن عرض فيلمه الذي كان مقرراً في اسطنبول في 9 تشرين الأول، إثر تهديدات تلقاها على وسائل التواصل الاجتماعي من معترضين على تصوير الفيلم في الزبداني.
وقال متحدّث باسم المجموعة رفض الكشف عن هويته إن المجموعة لم تتطرّق إلى مضمون الفيلم، إنما بَنَت بياناتها على تغطية وسائل إعلام النظام الفيلم، إذ بررت وكالة «سانا» الحكومية حبكة قصة الفيلم بأن الحي الذي يقطنه الزوجان “تعرض لعدوان إرهابي”.
وإثر ذلك، ووفقاً لمصادر مقربة من المخرج السوري، فضّل حجّو الاعتذار عن عرض فيلمه الذي كان مقرراً في اسطنبول في 9 تشرين الأول، إثر تهديدات تلقاها على وسائل التواصل الاجتماعي من معترضين على تصوير الفيلم في الزبداني.
ولا يُوِرد الفيلم مكان حدوث قصته وزمانه، ولا يشير إلى الزبداني أو سوريا. ولولا أن الممثلين يتحدثون بلهجة سورية، لأمكن أن تحدث قصته في أي مكان.
وتقول البروفسورة كريستا سلمندرا، أستاذة الأنثروبولوجيا في جامعة سيتي يونيفيرسيتي بنيويورك، إن العالمية (universality) إحدى أهم الخصائص التي تميز أعمال حجّو، وتُردف أن ذلك «مكان يجعل المشاهد متفاعلاً معها بغض النظر عن بيئته». «لقد كان «ضيعة ضايعة» مثلاً مقبولاً على رغم أنه كان يحمل رسائل سياسية من دون اصطفاف أيديولوجي. لماذا الاعتراض على «الحبل السرّي» بهذه الطريقة؟» تسأل سلمندرا.
وترى سلمندرا التي تعمل على كتاب جديد عن سوريا يتناول المسلسلات السورية، أن انتقاد الفيلم في السويد جاء من خلفية أيديولوجية دون النظر إلى محتواه الفني؛ وأن لهجة البيانات القاسية تجاه الفيلم غير مبررة معتبرة أن تحدّث وسائل إعلامية عنه بطريقة غير دقيقة لا يبرر الهجوم عليه. «شاهدت الفيلم وأعتقد أنه إنجاز مهم،» تضيف سلمندرا. “الليث لا يفتعل المكان ولم يدن أصحابه. وهو لا يستطيع أن يتحكم بما تقوله وسائل إعلام النظام أو غيرها. وهو ليس جهة لمحاسبة مجرمي الحرب”.
وتفاوتت ردود الفعل على الفيلم السوري على وسائل التواصل الاجتماعي. فقد اعتبر الصحافي السوري صخر إدريس الفيلم أحد الأدلة الموثقة لجرائم الأسد ويجب استخدامه وثيقة مسجلة لإدانة النظام، سائلاً إن كانت هناك أي أعمال درامية ستوثق هذا الإجرام.
ورأى الفنان التشكيلي السوري خليل يونس أن التظاهر ضد عرض الفيلم وعدم عرضه مجرد كلام فارغ. وتابع أن حرية التعبير درجة واحدة لا استثناءات، وأن فكرة التظاهر السلمي «الحضاري» للمطالبة بفعل إقصائي لا يضيف أي شرعية للمطلب. بينما أشار الصحافي والمخرج السينمائي السوري محمد علي الأتاسي إلى أن استخدام الزبداني موقع تصوير وبإذن رسمي “مشاركة في الجريمة وتواطؤ مع سردية القاتل وعبث بمسرح الجريمة وبذاكرة الضحايا”.
“الليث لم يدمر مدينة أمي أو يحاصر أهلها”، يقول أحمد. “لقد وثق دمارها مع أنه لم يذكرها بالاسم.
وعُرِض «الحبل السرّي» للمرة الأولى ضمن مهرجان الجونة السينمائي في خريف عام 2018 كما جال في مدن سورية عدة دون أي اعتراض. وهو من إنتاج الاتحاد الأوروبي عبر منظمتي «مدني» و«البحث عن أرضية مشتركة» بالتعاون مع شركة «سامة» للإنتاج الفني والتوزيع، ومن بطولة: نانسي خوري ويزن الخليل وضحى الدبس وجمال العلي.
مصادر مقربة من حجّو قالت إن المخرج السوري قدم في فيلمه رسالة ضد الحرب والسلاح إذ ركّز على معاناة المرأة في الحروب علماً أن الاتحاد الأوروبي لم يكن ليمول الفيلم لو رأى فيه تحيّزاً أو دعاية سياسية.
وفي دردشة مع «درج»، قال بعض أهالي الزبداني ممن ساعدوا حجّو أثناء تصوير الفيلم إن فريق العمل لم يصور في أي مكان في المدينة من دون استئذان أصحابه المدنيين.
وقال وسام داوود، 45 عاماً وهو موزع أسطوانات غاز، إن المخرج دعا أهالي الزبداني لحضور عرض فيلمه في «ثانوية الشهيد حسن يوسف» في المدينة مساء 9 تشرين الثاني/ نوفمبر.
ويؤكد داوود الذي فشل في الهجرة خارج البلاد أن حجّو توسط للسكان لدى قسم الكهرباء لتزويد ما تبقى من أحيائهم بالتيار، «فباعتمادنا على أنفسنا لم نستطع أن نستجر الكهرباء».
وفيما لا يتجاوز عدد سكان الزبداني اليوم 7000 نسمة يعيشون في ظروف قاسية من شبه انعدام في الخدمات الأساسية من ماء وكهرباء وتعليم وغيره، كان عدد سكان المدينة يتجاوز في موسم الاصطياف 120000 حتى عام 2011. كما خسر سهل الزبداني أكثر من نصف مليون شجرة ما بين عامي 2011 و2017 وفقاً لتصريحات حكومية.
“الليث لم يدمر مدينة أمي أو يحاصر أهلها”، يقول أحمد. “لقد وثق دمارها مع أنه لم يذكرها بالاسم. هو لم يكتب على جدرانها عبارات المتطرفين التي رأيناها في أفلام غيره ولم يمجد جيشاً أو فصيلاً مسلحاً، بل أظهر تكافل شعبنا في تلك الظروف”.