سينم شابة كردية إيزيدية في التاسعة عشرة من عمرها. عايشت معركة غصن الزيتون وهي العملية العسكرية التي شنتها تركيا عام 2018 ومعها فصائل معارضة سورية ضد مناطق كردية شمال سوريا وشهدت معارك شرسة تحديداً في عفرين.
نزحت سينم إلى منطقة الشهباء (مخيم فافين) مع الكثير من أهالي عفرين ولكنها عادت مع عائلتها لاحقاً من دون أختها.
القصة وثقتها عينا شابة إيزيدية عن الحياة الاجتماعية في قريتها التابعة لعفرين قبل معركة غصن الزيتون وبعدها.
توثق أيضاً تحول حياتها البسيطة إلى حياة معقدة وصعوبات التواصل مع الناس الجدد الذين ارتطمت بهم حياتها، إلى صعوبة إقامة حديث مع صديقتها أريج التي تنحدر من بلدة مسرابا من غوطة دمشق.
كنت أحاول زيادة كسرة على آخر الكلمات، على أمل أن أفلح في التواصل مع والدة صديقي اللاجئ في هولندا، بعدما ألح علي برسائله عبر مواقع التواصل الاجتماعي للاطمئنان إلى أهله، الذين لا يملكون هاتفاً ولأن التغطية عبر الشبكة التركية لم تصل إلى قريتهم بعد، وبطبيعة الحال لا توجد تغطية سورية.
كلماتي مكسورة الحروف في نهايتها، لم تستطع الشرح لوالدته، أنني أريد أن أصورها فيديو تطمئن فيه ابنها على حالها.
ثمة شابة تنظر إلينا من سطوح المنزل المجاور، أنا ووالدة صديقي، أظنها كانت تضحك في سرّها من حركات يدي والحروف المكسورة في فمي. في المقابل بقيت السيدة جامدة، لا تفهم سوى اسم ابنها من كلامي كله، إلى أن أتت الشابة وتبرّعت بالقيام بالترجمة. حين فهمت السيدة ما قصدت قوله، أصرت عليّ للبقاء عندها طابعة قبلات دافئة على جبيني. صورت الفيديو أخيراً، فأخذت مني هاتفي، وصورت له غرف المنزل، كلها، وصوره المعلقة على الجدران عندما كان صغيراً، ومعطفه الذي لا يزال معلقاً ولم تغسله منذ هجرته، خوفاً من التجنيد الإجباري الذي تفرضه وحدات الحماية على الشباب بعد سن الثامنة عشرة، ولمساعدة أهله مادياً.
عرضت على سينم الشابة الصغيرة المترجمة أن ترافقني لتترجم كلامي من العربية إلى الكردية، فأغلب كبار العمر لا يفهمون كلامي في عفرين، ضحكت سينم، أخبرتني أنها تعلمت العربية منذ فترة ليست ببعيدة، قالت:
كان في السابق لحياتنا وقع بسيط جداً، لا نعلم ما يحدث في محيطنا ولا صلة لنا به، ألفظ لك كلمة “كان”، ولكني أجدها لفظة مبسطة وغير صحيحة للمعنى الذي أريد إيصاله لك، كنا في حياة لا تشبه ما نعيشه الآن، ولا تلك الأفكار والمفردات التي تعشش في رؤوسنا واقتحمت أحلامنا. أشعر أنني غبت عن نفسي لسنوات… بل قرون.
كنا نستيقظ على صوت أدعية أهل القرية، نذهب إلى الكرم بتململ، وبحب، فلا لباس بألوان زاهية إلا بعد الموسم، فكل شيء مؤجل حتى بيع الموسم، لذلك نذهب بحب وتململ إلى الكرم.
في السابق سألت جدي، الذي مات باكراً، كيف نستطيع التمييز بين شجر الزيتون الخاص بنا وشجر الزيتون الخاص بجيراننا، إذ لا فاصل بينها؟ قال: الوجدان والضمير، وحب الزيتون… فحب الناس للزيتون يدفعهم لعدم سرقة زيتون غيرهم، لأنهم يفهمون التعب الذي خلفه والصبر الذي يتطلبه الأمر.
اليوم يأتي من يقطع أشجار زيتون هؤلاء الناس بلا رحمة.
كانت متطلبات الحياة بسيطة، لم يكن السلاح موجوداً في يومياتنا، ربما في مكان آخر من عفرين، لكن في قريتنا فلا. كانت الحياة عبارة عن أرض وعمل ودراسة. نكتفي بتعلم الحروف والكلمات الكردية، وقصص الكبار قبل النوم، نداري الزيتون لأنه كل ما نملك، كان لنا عيد واحد فقط، هو لحظة عودة أهالي القرية من بيع الزيتون، والملابس الجديدة التي نرتديها في اليوم التالي!
مدينة راجو 2018
أخشى أن يرافقني هذا الشعور، فكلما يحل الضباب، أشعر وكأن القصف قريب، والخطر داهم، في السنة التي تلت دخول هؤلاء إلينا وهذه السنة، يضيق صدري عند حلول الضباب، ما زلت أخشى أن يرافقني هذا الشعور حتى الموت. لو أنهم دخلوا في الصيف، لكانت الشمس المتعاقبة طيلة أيام السنة، كسرت من ربط الأحداث ببعضها، دخلوا مع طقس لا يتكرر كثيراً على مدار أيام السنة.
سبقت تلك الأيام صمت مخيف، غابت الشمس التي تحمينا من مخاطر الحياة خلف الغيوم الكئيبة، وكأنهم حجبوا الشمس عنا، نسمع أصواتاً بعيدة، يقول الأهالي إنها أصوات أصابع متفجرات لتفتيت الصخور من الجبال، لأخذ منها الحجارة بغية تشييد منازل. لكن الحقيقة أنها كانت أصوات تدمير المنازل…
في الأول من آذار/ مارس 2018، كانت أصوات الأصابع المتفجرة كما يقول الكبار، تكبر ونشاهد دخاناً أسود من بعيد، ما دفعنا للنزوح باتجاه قرى أخرى غير قريتنا، مشي وجلوس وصعود جبال صخرية، كل هذا يحدث والشمس تأبى الشروق، ربما خذلتنا أو تخجل منا، كنت انتظرها ولا اتعب من صعود الجبال الصخرية، علني أصل إلى الشمس وأزيح عنها الغيوم الكئيبة، لتحرق بأشعتها هؤلاء ونعود إلى قريتنا. سأقول لك شيء، ما لاحظته في تلك الرحلة الوعرة والمؤلمة وكلما اتذكره الان، اجد أننا كأطفال في تلك الفترة كانت لنا خفة حركة أكثر من الكبار، فأهل القرية تاهوا وباتوا كالأطفال الضائعين عندما خرجوا من القرية، لم تتعبهم حراثة أشجار الزيتون في قمم جبال المحيطة بالقرية، تراهم في تلك الرحلة، يتعبون ويستريحون كأطفال صغار ضائعين، تنتظر من يصرخ في وجوههم، أن عودوا، فأهل القرية لا يعرفون إلا الطرقات الصغيرة المتعرجة بين أشجار الزيتون، و الطريق إلى راجو لبيع محاصيل الزيتون.
مخيم فافين _ شهر أبريل/ نيسان من العام نفسه
بريفان ترفض العودة إلى القرية رغم صغر سنها. أنا الآن عمري 17 سنة وهي 19سنة، تلك الفترة هي كانت 17 وأنا كنت 15، لكن أنا الآن كبيرة، الذي حدث أن أختي رفضت العودة إلى القرية، وكانت تقول إنها لن تعود، لتسكن تحت حكم من احتل قريتنا، ستذهب إلى الجزيرة ( مناطق سيطرة قوات سورية الديمقراطية شمال شرق سورية) وتتدرب على حمل السلاح، كانت تخاطب أمي التي تنفض الوسائد الرقيقة داخل الخيمة، بقوة وكأنها تضرب بريفان، وتنهاها عن عدم تكرار الحديث، سنعود إلى القرية عندما يفتح الطريق وكفى، لكن بريفان كانت تنهي جملتها قائلة: سأطيل جدائلي هذه واشنق بها المحتلين على أبواب منازل القرية.
ترد عليها أمي: إن كان يجب علينا أن ننتظر جدائلك حتى تطول حتى نعود إلى بيتنا، يا لسعدنا وفرحتنا!
كنا كثيرات الجدال، كأن العيش في الخيمة يعبث في رؤوسنا، ويولد فقط من الأحاديث ما يثير الجدال الذي ينتهي بالقتال بين المجادلين. وبينما يحتدم الجدل، كنت أعاتب الشمس بطرف عيني لعدم مساعدتها لنا.
لكن معظم كبار العمر من قريتنا ومن القرى المجاورة لنا، لا زالوا عند شروق الشمس، يقفون أمام خيمهم ويصلون للشمس كما في السابق، لكن مع إطالة وقت الدعاء أكثر، كأن الشمس تعذبنا لندعوها أكثر.
الأطفال في قريتنا الكبيرة التي اسمها مخيم، فرحوا لعدم وجود استيقاظ صباحي للذهاب إلى الحرث، ليرد على فرحهم رجل مسن، ستكبرون ولا يبقى في ذاكرتكم إلا ما تفرحون بالابتعاد عنه الان، إن طال البعد عن عفرين.
تصدق، ربما سأكرر الفكرة ولكن الآن لا تذهب عن ذهني مثل هذه الذكريات، فمن كنت أراه قبل دخول هؤلاء، من رجال القرية، لا يتعب من المشي والحرث، شاهدته في مخيم فافين، لا يقوى على السير إلى الخيمة الملاصقة لخيمته، وكأن الأعمار تكبر بتغير مكان الإقامة، ليس فقط بمرور السنوات.
كانت إدارة المخيم تمنعنا من العودة إلى القرية، يخوفوننا من هؤلاء بدل من مساعدتنا على العودة، قتلوا شاباً كان ينتظر أن يفتح الطريق لأنه يريد العودة، كل من يعود إلى زيتون قريته، يقولون عنه إنه خان الزيتون، أبي وأمي رفضوا إلا أن يعودوا وجدي وعماتي، كلهم قرروا العودة، يقول عمي لأبي: إن بقيت هنا شهراً إضافياً سأموت من القهر، موت أهون من موت.
انقسم المخيم بين من يريد العودة وبين من يرفضها، اجتمع من يريد العودة وأصروا على العودة بالرغم من التخويف وضرب الرصاص بغية ردع العائدين. في النهاية، عدنا، وصلنا إلى منزلنا لنجد إنه لا يوجد فيه شيء على الإطلاق، رد أبي على كلام عمي بعد عدم عثوره على شيء: أرى أن القهر محيط بنا ولا يوجد قهر أهون من قهر!
دعني أخبرك أن أختي بقيت في المخيم، ورفضت العودة، وهي الآن تقاتل مع وحدات حماية المرأة، أرسلت لنا صورتها منذ مدة متعمدة إظهار ضفيرتها.
إقرأوا أيضاً:
قرية ماساكو
لم تعد القرية كما كانت، ولن تعود، هو جرح دخل في أحشاء القرية ولن يشفيه أي شيء. كل شيء تغير، لا اتكلم فقط عمن سيطر علينا من هؤلاء، ولا من كان يحكمنا، كنا نعيش في مسافة بعيده عن العالم، لم نخرج في ثورة لنطالب بتغيير أحد، ولم نزاحم أحداً على رزقه وطعامه ولم نحمل السلاح على أحد، قريتنا تستطيع أن تعيش فيها طيلة أيام عمرك، لا تحتاج إلى الخروج منها، فكل شيء يساعدك على الحياة، متوفر فيها، هذا الكلام الذي قلته في وصف الحياة في قريتنا من الكلام الذي حفظته من رجال المخيم.
نصبوا حواجزهم على مداخل القرية الجنوبية والشمالية. هم يقولون إنهم يخشون من عناصر تابعة لوحدات الحماية الكردية تتسلل عليهم! كيف ذلك؟! وهم يقولون ويبتهجون أنهم ” حرروا” عفرين من الوحدات؟! هل يرون زيتون عفرين، عناصر تتبع الوحدات؟!
يفتشون أهل القرية من المارة، ويدوّنون أسماءهم بلغة عربية على أوراق غير نظيفة، فوق ذلك لا يعرفون كيف يكتبون الأسماء الكردية، ليطلبوا منا تهجئة الحروف العربية من أسمائنا لكتابتها!
الهاتف المحمول، الذي بتنا الآن بحاجة إليه للتواصل مع من تبقى من أهالي القرية في المخيم، في السابق لم يكن في القرية إلا عدد قليل من الهواتف المحمولة، فلا داعي لها، كلنا موجودون وكلنا تطمئن على بعضنا مباشرة، فلماذا الهاتف اذاً؟
اليوم، فقط عن طريقه نتواصل مع أختي، نضطر لحذف المحادثة وحذف رقم أختي من الهاتف، على الرغم من أننا لا نخرج الهاتف من المنزل، لكن خشية الاعتقال، نرسل أو ترسل أختي الرسالة، وننتظر الرد بعد عدة أيام بحسب توفر الانترنت عندنا أو عندها.
أتذكر، أثناء تبريرهم توقيفهم لنا لوقت طويل، حديثهم عن خشيتهم من خلايا الوحدات أو حجتهم، عثورهم على رسالة صوتية لأختي: أنهم _ أي هؤلاء_ سيتندمون على اليوم الذي دخلوا فيه عفرين واستوطنوا بها، حتى أشجار الزيتون في عفرين الذي يبلغ عددها أكثر من ثمانية عشر مليون شجرة، ستتحول لمقاتلين يتبعون للقوات تحرير عفرين وينقضون عليهم.
في الحديث عن قريتنا، لم ينتسب أحد من ابنائها على الإطلاق إلى الوحدات القتالية، لكن بعد دخول المحتلين إلى قريتنا، ونزوحنا إلى مخيم فافين، انتسب عدد من الأهالي إلى الوحدات ومنهم أختي.
هم يتحججون بخلايا الوحدات، لكنهم يسجنوننا، أو يريدون منا العودة إلى المخيم ولا نعود على الإطلاق. حتى أني اعتقدت أنهم يقيمون حواجزهم في مخيلتي، فعندما أسرح بخيالي وأتذكر ما عشناه في مخيم فافين، انهي تخيّلي وأعود إلى القرية، حتى في خيالي وفي أحلامي، أجد الحاجز يسألني من أين أنا ويدوّن اسمي باللغة العربية على أوراق يحرقها بعد ملئها بأسمائنا.
عندما يطول الرد من قبل أختي على رسائلنا، امتعض، أعاتب الشمس، واتحدث معها، أقول لها إنني سأسامح تجاهلها لنا في يوم الضياع، لكن عليها أولاً، أن ترسل ما سأقوله لها لأختي، وبسرعة أشعتها، ترد علي أختي فوراً عن حالها وصحتها، يكبر اشتياقي لأختي كلما طالت أيام غيابها، أقول للشمس، لكن الشمس لم تف بوعدها.
أريج؛ الأخت والصديقة
دخل إلى قريتنا ناس وجوههم شاحبة، كوجوه من بقي في المخيم، من أهل قريتنا، شعرت في البداية بالوحشة منهم، لا لشيء، لكن لكثرتهم، فقريتنا كان صوتها العام: الصمت. بالكاد نسمع صوت زمور سيارة سابقاً، أما الأن، فنسمع أصواتاً كثيرة متداخلة مع بعضها البعض، تغطي على أصواتنا.
أنا لا أتحدث إلا باللغة الكردية، ومن الصعب عليّ أن أسرد ما يجول في خاطري إلا بعد ترجمته إلى اللغة العربية في رأسي، وإخبارك والعالم به. فقبل قدوم هؤلاء، كانت حتى أحلامي باللغة الكردية، وحتى حديثي مع نفسي وخيالي باللغة الكردية، أما اليوم من العسر على خيالي وذاكرتي أن أتحدث بكل شيء ظل محفوراً بذاكرتي منذ الصغر، إن تذكرت شيء سأقوله..
يوجد صديقة لي الآن من بلدة بعيدة جداً، تقع خلف جبال عفرين، هي من بلدة اسمها مسرابا في الشام. أجد اختلافاً زمنياً كبيراً بيني وبينها، عندما تقول أي شيء، أحاول ضبط معنى كلمتي قبل وبعد، بمعاييري أنا. فقبل وبعد بالنسبة لها، أي قبل عام 2011 وبعد عام 2011، أما بالنسبة لي فـ “قبل وبعد” هي قبل دخول هؤلاء وبعده في شتاء عام 2018.
لذلك مثلما أترجم في ذهني الكلمات الكردية إلى العربية، أفكر كثيراً بمفرداتي عندما أجلس أنا وأريج في باحة المدرسة ونتحدث. ترجمة الكلمات، ليست بالضرورة من لغة إلى لغة، من الكردية إلى العربية، بل هناك ترجمة المقصود من الكلمات، كقبل وبعد، فمع ترجمتها في ذهني من الكردية إلى العربية، يجب ترجمتها من قبل التي تقصدها أريج إلى قبل التي أقصدها أنا.
ومن الأمور التي أجد فيها اختلافاً مع صديقتي أريج – التي أشعر بشيء ينقصني إذا لم أرها يومياً، لا أخفيك سراً لا أريد لبشار أن يسقط، حتى لا تعود إلى بلدتها مسرابا، لكن لا أخبرها كي لا تزعل فهي تتحدث كثيراً عن أحلام عودتها إلى منزلها- لكن السؤال الذي أجد فيه اختلافاً ولم أجد له جواباً: هل حقاً نحن كنا في بلد واحد اسمه سورية، أم نحن عشنا في بلدان عدة في بلد واحد كبير له سور خارجي وأسوار داخلية!؟
ما يفرحني، لا يفرح أريج بالضرورة. ما يزعجها لا يزعجني وما يزعجني لا يزعجها. لا أعرف، ثمة أمر غريب، تضحكني قصص، لا تعني لها شيئاً، والعكس صحيح.
أريج ترى بشار الأسد شيطاناً يجب قتله والخلاص منه فكل مشاكلها وطموحها أن تدرس في جامعة الشام ( جامعة دمشق) كأختها. كان بشار سبباً في عدم تحقيق طموحها.
إقرأوا أيضاً:
بالنسبة لي، لا أكره بشار كما تكرهه هي. أكره أصدقاء أخيها مقاتلي الجيش الوطني، فهم فعلوا بنا مثلما فعل بشار بها، أو لا أدري فلم أكن معها حتى أقارن، لكن الجيش الوطني دمر أحلامي وفرقني عن أختي، مثلما فعل بشار مع أريج وأختها.
عندما قدمت عائلة أريج إلى عفرين من الغوطة، لم يسكنوا في قريتنا فوراً، بل تهجروا وانتقلوا من مدينة إلى مدينة ومن قرية إلى قرية. من يطردك من منزله لأنك لا تمتلك إيجار منزل، يسمى تهجيراً أيضاً، أليس كذلك؟ نعم، فكل من خرج من مكان إقامته وهو مكسور الخاطر ولا رغبة له بذلك يعتبر مهجّراً.
عن طريق الصدفة، نزلت أريج مع أهلها في منزل بسيط في قريتنا بالكاد يسمى منزل، اشترط عليهم صاحب المنزل أن لا يسمحوا لرعاة الأغنام بأكل زيتون أرضه، ولهم حرية الإقامة في المنزل من دون أن يدفعوا ليرة واحدة، أقصد ليرة سورية. نعم، أهل أريج ارتضوا أن يكونوا “كلاب حراسة” بسبب الفقر الذي عاشوه، والذي تسبب بتنقلهم مرات عدة من مخيم إلى مخيم، ومن منزل إلى منزل، حتى وجدوا حراسة زيتون أرض شخص لا يسكن في منزله، عرضاً مغرياً، وإذا ما دخلت إلى المنزل، فما هو إلا غرفة واحدة، قسمت أم أريج الغرفة إلى عدة أقسام بأكياس نايلون.
” يكفينا سقف نأوي تحته ولا نخشى القصف وقدوم نهاية الشهر، كلاهما يسببون لي الخوف” تقول أم أريج لأمي.
هذه الغرفة المهجورة، خلف منزلنا، كانت الكلاب الضالة تنام فيها، كان لها رائحة كريهة. الآن، ومع إقامة أهل أريج، تشتهي السكن فيه.
أختي بريفان تشتم أريج وأهلها ومن لف لفيفهم، تقول عنهم مستوطنين احتلوا أرضنا ولا يوجد أحد منهم يستحق التحدث معه. ولأنها تحبني، لا تمنعني من الحديث عن أريج، لكنها تختم قولها بمقولة غاية في البشاعة قالها أحد رجال المخيم ذات عاصفة مطرية، تعيد إلى الأذهان عبارة حادثة نازية منسوبة إلى هتلر: “المستوطنون _ أهالي الغوطة _ ضربهم بشار بالكيماوي ولكنه لم يقتلهم جمعياً، ليس لأنه يحبهم، باستطاعته إبادتهم، بل ترك القليل منهم حتى نعرف لما ضربهم ولا نلومه على ما فعل بهم، إن كانوا مظلومين كيف يرضون لأنفسهم السكن في منازل مظلومين آخرين!؟”.
أزعل من بريفان على كلامها، أنهي الأحاديث معها، فأختي هذه مثل سيل جارف لا أحد يستطيع منعها من إبداء رأيها. أزعل منها وأحن إلى أريج ووصفها المقتضب للأشياء. تصف المساحات الشاسعة ورياح عفرين بطريقة تجعلني أعشق عفرين أكثر من عشقي لها، لولا أريج وبريفان، لما عرفت قيمة عفرين في حياتي.
إقرأوا أيضاً:
” تقصد كذا”
وقعت في قريتي التي باتت مقسومة بقسمة غير منتظمة، بين عوائل فقيرة من الغوطة، وعدد قليل من أهالي القرية، وقعت بين مجموعة ناس، ما يضحكها ويبكيها شيء، ومجموعة أخرى يضحكها ويبكيها شيء آخر. الترجمة التي أتقنها من العربية إلى الكردية الآن، ليست مفردات اترجمها من العربية إلى الكردية أو العكس، بل اترجم مشاعراً وحباً وقصصاً وأفكاراً ومعاني. ربما لو كنت تتقن الكردية لوجدت عدداً من المفردات الخاطئة في ترجمتي، لكن ما اترجمه من معنى أكيد، أو هكذا أظن، باتت كلمة يقصد أو تقصد، بمتلازمة ترافقني قبل التحدث بأي جملة بالعربية أو الكردية. قلت لك، لا أترجم الكلمات، بل ثقافتها وموسيقاها ومعانيها، بين مجموعات بشرية تسكن في بلد واحد ولكنها تبتعد عن بعضها في طقوس الحياة، بلداناً وأجيالاً وقرون.
تقول لي جدتي، التي عادت معنا من المخيم (هي ليست جدتي، الحقيقة، بل امرأة وحيدة تقول إنها داخت في المخيم لذلك عادت معنا إلى القرية)، تقول لي: كانوا يعبدون الله على طريقتهم؟ دعاء بلهجة سريعة أمام باب المنزل عند شروق الشمس وغروبها. كانوا إذا ما وجدوا ورقة جلبتها الرياح إلى قريتنا مكتوبة باللغة العربية، كانوا يعظمونها وكونهم لا يعرفون ما مكتوب عليها، فكانوا يظنونها شيء من كلام الله، يقبّلونها ويضعونها على جباههم. الآن، بعد الحرب، التي أبغضها، لم تورث لي تلك الطقوس التي أحاول تقليدها الآن، لكنها اندثرت، عرفنا أن ليس كل كلمة باللغة العربية هي كلام الله. بل قد تكون شتيمة بحقنا. أكره الحرب لأنها سببت هذه القطيعة مع سلسلة الطقوس التي نتوارثها عن أجدادنا ونعطيها لأحفادنا. حفيدتي بالطبع لن تعرف جدتي فلا رابط بينهما، فلا أعتقد أن الأمر مرتبط فقط بترجمة المفردات والكلمات، بل ترجمة الحياة ومعانيها وتراثها، ترجمة وجع كامل لا كلمة ننطق بها.
قررت أريج، لتوزيع العدل بيني وبينها، أن تتعلم اللغة الكردية، وتتعب نفسها، عندما تحاول استحضار المفردات الكردية، مثلما أتعب نفسي عند استحضار المفردات العربية.
أخذت أردّد على مسامعها المفردات الكردية، بعض الكلمات لم تستطع لفظها، قمت بتغير اللفظ حتى تفهمها. الأمر مضحك، لكن بيني وبين أريج لغة مشتركة وخاصة ربما تضاف إلى قاموس اللغات: “العردية”.
لكن، ما لم أخبرك به وما لم تسألني عنه، هو أني، قلت لك إنني رددت على أريج المفردات الكردية، وأخبرتك أنهم ساعدوها بالنزول من السيارة، وأخبرتك أيضاً أنها لحسن حظها لم تسكن في منزل ذي طبقات.
مالم أخبرك به، أن أريج لا ترى، فقد فقدت بصرها بقصف لطيران النظام على شارعهم في مسرابا.
إقرأوا أيضاً: