بخلاف أفراد أسرتهِ الذين تلقفتهم المهاجر، جذب الحنين سلام بطرس (43 سنة) للعودة الى الموصل التي غادرها قسراً بعد سيطرة عناصر تنظيم “داعش” عليها في العاشر من حزيران/يونيو 2014 واجبار مسيحييها على الرحيل أو دفع الجزية.
ست سنوات قضاها متنقلاً بين أربيل في اقليم كردستان وميرسين في تركيا، قبل أن يقرر في منتصف 2020 وبعد طول تردد العودة والإقامة في المدينة التي خلت من الغالبية الساحقة من مسيحييها.
شجعته على ذلك دعوات أصدقائه المسلمين له، ونجاة منزله القديم والصغير في منطقة (الدواسة) من أتون حرب استعادتها من “داعش” في العام 2017 التي احدثت خراباً هائلاً في المدينة القديمة، وحولت أزقتها ومعالمها التاريخية الى ركام.
سليم الذي يعيش بمفردهِ هو واحدٌ من بين مسيحيين قلائل عادوا الى الموصل، ويحاول تعويض فقدانه لمطعم وجبات سريعة كان يملكه في السوق القديم بواحدٍ آخر استأجره بالقرب من مقر سكنه في الجانب الأيمن للمدينة.
يتابع الكثير من أقارب سليم باهتمام، زيارة بابا الكنيسة الكاثوليكية الى العراق، وجولاته التي تشمل بغداد والنجف وأور في الناصرية (مهد النبي ابراهيم) ومن ثم اربيل والموصل، على أمل ان تلقي الضوء على أوضاع مسيحيي العراق وتنقذ ما بقي من وجودهم هناك، لكن آخرين يرون انها “جاءت بعد فوات الأوان”.

يحدد ناشطون سلسلة معوقات تحول دون استعادة الموصل لمسيحييها الذين كان يتجاوز عددهم 50 الفا قبل 2003، رغم الاستقرار الأمني الذي تشهده، على رأسها انتشار المليشيات متعددة الولاءات بسلطتها الواسعة وضعف الحكومة وقلة الخدمات وتدهور الاقتصاد وهشاشة القانون وتراجع الحياة المدنية وضبابية المستقبل.
يردد سليم “الأشياء تحتاج إلى وقت” ممنياً نفسه بعودة الحياة إلى سابق عهدها وعودة اقاربه الى المدينة، التي كانت مسرحاً للحرب ومازال الخراب قائما في الكثير من أجزائها.
رغم الراحة التي يجدها في المكان الذي قضى فيه معظم سنوات عمره، لكنه يشعر أحياناً كما يقول بالغربة، إذ يرى بأن الموصل لم تعد كما كانت من قبل وكثير من الوجوه التي عرفها لم تعد موجودة، وحدثت تحولات كبيرة في أسواقها وأزقتها، ورحلت عنها عائلات كاملة ظلت تسكنها طوال قرون.
كما لا يخفي قلقه كلما شاهد عناصر مسلحة من الميليشيات تجوب الشوارع، كونها تذكره بحقبة التدهور الأمني بعد 2003 حين استباحت الفصائل الاسلامية المتشددة الموصل وأمعنت في قتل المدنيين، من مسيحيين ومسلمين على حد سواء.
“هذا واحد من بين أسباب عديدة تمنع المسيحيين من العودة”، يقول منبهاً إلى ان الكثيرين منهم ينتظرون أن تقول الموصل وبنحو نهائي “وداعا للسلاح” لكي يعودوا اليها.
احصائيات غير رسمية أشارت إلى أن عدد المسيحيين في العراق قبل 2003 كان نحو مليون ونصف المليون نسمة، تقلص تدريجيا بسبب الهجرة المتواصلة ليهبط إلى ما بين الـ 100 و 125 الفا
فقدان الثقة
في مدينة دهوك التابعة لإقليم كردستان (60كم شمال الموصل) يقضي التربوي والكاتب سامر الياس سعيد، عام إقامته السابع نازحاً من الموصل التي غادرها صيف 2014.
ما يمنعه من العودة للمدينة، هو عدم تعويضه من قبل الحكومة عن الأضرار التي لحقت بمنزلهِ القريب من جامعة الموصل، جراء استيلاء تنظيم “داعش” عليهِ باعتباره غنيمة واتخاذه محكمة شرعية لنحو سنتين.
ومن ثم وبعد طرد التنظيم إثر حربٍ انتهت في تموز/يوليو 2017 سيطرت عليه ميليشيا (حرس نينوى) وعاثت فيه خراباً، كما يقول، باعتبارهِ من أملاك داعش.
سامر الذي بلغ السادسة والأربعين من عمره ويعمل حالياً في مدرسة سريانية في دهوك، يعتقد بأن الأفكار والأجواء ذاتها التي ظهر فيها “داعش” مازالت قائمة وتسيطر على العقلية السائدة في المدينة، ويردد “لم يتغير الكثير”.
هو لا يخفي فقدانه الثقة بجيرانهِ ويقدم هذا على الأسباب التي تمنعه من العودة. إذ يحملهم كما يفعل مسيحيون كثر مسؤولية التكتم وعدم الابلاغ عن الذين نهبوا ممتلكاتهم، بل ويتهمون بعضهم بالقيام بذلك.
الأمر الآخر الذي يبقيه بعيداً عن المدينة التي ولد فيها وعاش معظم سنوات عمره، هو مجال عمله في تدريس اللغة السريانية. ويقول “إذا لم يكن هنالك مسيحيون في الموصل، فمن سأدرس السريانية هناك؟”.

كنيسة واحدة وسبعون عائلة فقط
من أصل 35 كنيسة في الموصل، تقرع الآن فقط أجراس كنيسة البشارة في الجانب الأيسر، في حين أن البقية وبعضها أثري، مدمرة أو متضررة تنتظر الاعمار كما هو حال معظم مرافق المدينة التي خرجت منهكة من حرب تحريرها.
الأب رائد عمانوئيل عادل راعي كنيسة البشارة وكنائس السريان الكاثوليك في الموصل، ذكر بأن سبعين عائلة فقط عادت الى الموصل بعد اكمال تحريرها من داعش.
أفراد هذه العائلات هم من أصل خمسة آلاف مسيحي كانوا قد تبقوا في الموصل قبل سيطرة داعش عليها في 2014، مقارنة بـ50 ألفاً كانوا يعيشون فيها قبل سقوط نظام حزب البعث في نيسان 2003.
ويرى بأن تراجع وجود المسيحيين في الموصل مرده إلى تعرضهم للاضطهاد على أيدي الجماعات المسلحة، حتى قبل إعلان ما يسمى بالدولة الاسلامية
(2014-2017) والتي وصل الأمر في سنوات سطوتها الى دخول منازل المسيحيين وقتل الرجال أو خطفهم مقابل المال.
ويشير عادل الى أن التماسك الاجتماعي وقتها ضعف بدرجة كبيرة وكان هنالك تنافرٌ بين المكونات بسبب تلك المجاميع، فأصبح البعض يتعامل مع غير المسلم على أنه في موقع أجتماعي ادنى. الأمر الذي دفع الأغلبية الى النزوح إلى مناطق أخرى في العراق، أبرزها عينكاوا في أربيل بإقليم كردستان أو أبعد من ذلك بالهجرة إلى أوروبا وأميركا واستراليا.
إقرأوا أيضاً:
من لا يحب لا يرى الله
في مدخل كنيسة البشارة كتبت وبخط ذهبي كبير رسالة يوحنا الرسول “من لا يحب لا يرى الله لأن الله محبة”. يقف الأب رائد تحتها في العادة لاستقبال زائريه من أبناء مدينة الموصل بمختلف طوائفهم معبرين له عن تعاطفهم ورغبتهم في عودة المسيحيين للمدينة.
هذه العودة التي يعتقد راعي كنيسة البشارة أن جملة من الأسباب تقف حائلاً دون تحققها. منها افتقار مدينة الموصل الى الخدمات الأساسية مقابل تسهيلات حياتية تقدمها لهم الأماكن التي نزحوا أو هاجروا إليها.
وأيضاً الخشية من المجهول في ظل دولة وصفها بالضعيفة وتشهد تدخلات خارجية ويستشري في الحكومتين المركزية في بغداد والمحلية في نينوى فسادُ ومشاكل كثيرة تجعل جميع المكونات تشعر بالقلق وليس المسيحيين وحدهم.
ويشترط لإقناع المواطن المسيحي بالعودة، منحه ضماناتٍ واستقرار أمني واجتماعي واقتصادي حقيقي.
احصائيات غير رسمية أشارت إلى أن عدد المسيحيين في العراق قبل 2003 كان نحو مليون ونصف المليون نسمة، تقلص تدريجيا بسبب الهجرة المتواصلة ليهبط إلى ما بين الـ 100 و 125 الفا، ويتركز وجودهم في مدنهم التاريخية بسهل نينوى (قره قوش وكرمليس وبرطلة وألقوش وقضاء تلكيف) وأيضاً بنسب متفاوتة في العاصمة بغداد والبصرة ومحافظات إقليم كردستان.
يأمل الكثير من المسيحيين بمن فيهم راعي كنيسة البشارة، ان تسهم الزيارة التاريخية للبابا فرنسيس الى العراق والموصل بشكل خاص بإلقاء الضوء على الواقع المسيحي، وفتح ملف وجودهم المهدد وأسباب هجرتهم المستمرة.
إقرأوا أيضاً:
لقد سرقوا أملاكنا
يشكو مسيحيون مهاجرون من الموصل قيام عصابات منظمة بتزوير سجلات أملاكهم العقارية وبيعها وقبض أثمانها ولاسيما في الجانب الأيسر من المدينة، حيث دائرة التسجيل العقاري التي أغلقت في مطلع العام الجاري 2021 بقرارٍ من وزارة العدل بسبب كشف عمليات تزوير كبيرة فيها.
زهير الأعرجي قائمقام قضاء الموصل يؤكد بأن أكثر من 6000 عقار فقدت مستنداتها أو تم التلاعب بسجلاتها في هذه الدائرة، وأن مديرها السابق أدين ويقضي عقوبة خمسة سنوات في السجن وتجري التحقيقات مع موظفين آخرين في ذات القضية.
النائب عبد الرحيم الشمري كان أكثر وضوحاً وبين أن جزءاً من العقارات التي زورت أوراقها الرسمية تعود لمسيحيين مهاجرين ونازحين، وأن أوامر قبض عديدة صدرت بحق المتهمين، أعتقل قسم منهم والقسم الآخر تمكن من الفرار.
المحامي أحمد فتاح خضر، وهو مختص بقضايا محكمة البداءة في محاكم منطقة استئناف نينوى، كشف عن ثلاثة طرق تم من خلالها الاستيلاء والتصرف بعقارات تعود للمسيحيين سواءً كانت أراضٍ أو مشيدات.
الأولى شاعت بين عامي 2004 و 2014، إذ استغلت عصابات متخصصة تعطل عمل دائرة التسجيل العقاري الأيسر أو كما تعرف شعبياً بـ(طابو الزهور) ولجوء الناس لتوثيق عقود بيع العقارات لدى محكمة البداءة، بدعاوى مدنية تعرف بـ( التمليك). هذه الدعاوى صورية، يحضر فيها المشتري ويبرز صورة قيد العقار(سند) ويقول للمحكمة بأنه قد اشتراه في وقت سابق لكن البائع مجهول محل الاقامة، بموجب تبليغ أصولي على عنوان سابق للبائع، فتقوم المحكمة بتمليك المشتري العقار. وتضمن قرارها بعبارة “معلق على النكول عن اليمين” أي أن بمجرد حضور البائع وإنكاره البيع يتم فسخ العقد.
وبسبب الأوضاع الأمنية المتدهورة لم يكن أصحاب العقارات المسيحيون المهاجرون في الخارج بقادرين على الوصول الى الموصل، وكانت تلك العصابات تستغل ذلك وتقوم ببيع العقارات فور حصولهم على قرارات تمليك بها.
الطريقة الثانية تمثلت، بسيطرة عناصر “داعش” أو موالون لها على عقارات تركها المسيحيون وغادروا الموصل في حزيران 2014 وقاموا بتداولها بيعاً وشراءً بعد أن سجلت ضمن أملاك الدولة الاسلامية.
والثالثة، قيام مجاميع مرتبطة بميليشيات “الحشد الشعبي” أو محسوبين عليها بالاستيلاء على عقارات تعود ملكيتها لمسيحيين، كان تنظيم “داعش” يستغلها إبان سيطرته على الموصل.
ويشك المحامي أحمد، في أن تحل قضايا العقارات المسلوبة بسهولة، لكون بعضها قد تم بيعها لمرات عدة مما يعني مشواراً طويلاً من القضايا والدعاوى يتوجب على المسيحيين فاقدي العقارات المضي فيهِ لاستعادتها.
وليد (أسم مستعار) يتعامل بحذر شديد مع وجوده في المدينة التي عاد إليها مع عائلته قبل نحو سنة لمحاولة استرجاع عقارات كان قد ورثها مع أشقائه من والدهم المتوفي. العقارات هي مخزن لتبريد المواد الغذائية ومحال تجارية متجاورة فوقها شقتان سكنيتان في منطقة الدركزلية بالجانب الأيسر لمدينة الموصل قام أشخاص بتزوير أوراقها وبيعها والآن يستغلها أناس آخرون.
يقول وليد بأن الجهات الأمنية متعاونة معه ولاسيما أن بحوزته المستندات الأصلية، وقد ساعدته بالفعل في استعادة منزلهِ الكائن في منطقة (المهندسين) لكنه سيحتاج إلى المزيد من الوقت للحصول على قرارات قضائية تعيد له وأشقائه باقي العقارات.
أما منال يعقوب( 65 عاماً) فقد فضلت معالجة الأمر من سيدني الاسترالية التي هاجرت إليها قبل 13 سنة، بتوكيلها محامٍ أقام دعوى لإلغاء قرار تمليك صدر في 2011، بيع بموجبه منزلها الكائن في منطقة الزهور بالجانب الأيسر للموصل دون علمها. في حين لم يبق رمزي خوشابا سوى يومين فقط في الموصل محاولاً استعادة أرضه السكنية(200 متر مربع) في حي الحدباء شمالي الموصل، فقد وضع شخص مرتبط بميليشيات الحشد الشعبي يده عليها، وباعها لشخص آخر بنى عليها منزلاً وشغله.
تتبعه لسيرة أرضهِ، نبه إليه من وصفهم بمسلحين من الحشد أخبره أصدقاء له أنهم سألوا عنه في مكتب عقاري كان قد غادره قبلها بفترة وجيزة، فما كان منه سوى المغادرة والعودة إلى أربيل بانتظار أن تتهيأ الظروف مستقبلاً للعودة والمطالبة بأرضه مجددا.
في مقابل قصص الاستيلاء على عقارات بعض المسيحيين هنالك قصص أخرى عن مسيحيين استعادوا عقاراتهم وعادوا ليشغلوها.
بشار حنا فتوحي واحد من هؤلاء، يعمل في تصنيع قطع الآليات الزراعية منذ 36 عاما. استعاد ورشته ومنزله بعد 2017 ويزاول عمله حالياً بتشجيع ودعم من معارفه في الموصل.
أنجز التقرير بدعم من مؤسسة نيريج للتحقيقات الاستقصائية
إقرأوا أيضاً: