في الربيع الماضي 2024، عبرت سفينة شحن ترفع علم الكاميرون، اسمها “بربروس”، مضيق البوسفور في إسطنبول. بدأت “بربروس” رحلتها في روسيا، وكانت متّجهة إلى ميناء في شرق ليبيا، الذي يخضع لسيطرة قائد عسكري اتُهمت قواته بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، من قبل بعثة تقصّي الحقائق التابعة للأمم المتّحدة.
أثناء عبور السفينة “بربروس” مضيق البوسفور في نيسان/ أبريل الماضي، لاحظ مراقب يقظ هو يوروك إيسيك، الذي يدير شركة استشارية لتحليل النشاط البحري في المضيق، شحنتها. نشر إيسيك صوراً للسفينة على منصة “إكس”، واصفاً إياها بأنها “سفينة مثيرة للاهتمام”، تحمل شاحنات مصنّعة من قبل شركة روسية خاضعة للعقوبات، وتُستخدم غالباً في المهام العسكرية.
تبع ذلك نشاط مكثّف من قبل جهات إنفاذ القانون، وفقاً لوثائق مسرّبة من مهمّة بحرية للاتّحاد الأوروبي، تُعرف باسم “عملية إيريني”، تهدف هذه المهمّة إلى تتّبع شحنات الأسلحة المحظورة بموجب حظر دولي على الأسلحة، المتّجهة إلى ليبيا ومنعها.
تُظهر الوثائق كيف استخدمت السفن التجارية مجموعة متنوّعة من الحيل، لتجنّب الكشف أثناء شحن المعدّات الروسية إلى ليبيا. كما تسلّط الضوء على قلق أوروبي متزايد بشأن النفوذ الروسي في البلاد، الذي اعتبره المسؤولون جزءاً من استراتيجية أوسع لموسكو، لفرض نفوذها في البحر المتوسط وعدة دول إفريقية.
بعد نشر الصور، أعدّ الإنتربول تقريراً عن السفينة “بربروس”، ووجد أن السفينة قد تلاعبت بنظام تحديد الهويّة الآلي (AIS)، وهو الجهاز الذي ينقل معلومات عن موقع السفينة، في محاولة لإخفاء موقعها، كما وجد التقرير أن السفينة قد غيّرت اسمها ثلاث مرات، وسجّلت نفسها تحت علم دولة مختلفة عشر مرات على الأقل منذ العام 2013. وخلص التقرير إلى أن السفينة “قد تكون تحمل أسلحة موجّهة إلى ليبيا” وأوصى بمراقبتها عن كثب.

كانت وُجهة “بربروس” ميناء طبرق الليبي، الذي يخضع لسيطرة خليفة حفتر، القائد العسكري الذي يُهيمن على شرق البلاد.
ساعد “الأسطول الشبح” الروسي موسكو على التهرب من العقوبات الغربية المفروضة على مبيعات النفط، وفقاً للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. سواء كانت تحمل النفط أو الأسلحة، غالباً ما تتلاعب هذه السفن بنظام تحديد الهويّة الآلي لتجنّب الكشف. وفي عشرات التقارير التي أُعدّت في عام 2024، تتّبع المسؤولون الأوروبيون كيفية إيقاف السفن لنظام تحديد الهويّة الآلي، أثناء مرورها بالقرب من ميناء طرطوس السوري، حيث تحتفظ روسيا بقاعدة بحرية. وفي بعض الأحيان، زيّفت هذه السفن بيانات نظام تحديد الهوية الآلي، لتبدو وكأنها في مكان مختلف عن موقعها الفعلي. وفي حالة أخرى، وفقاً لتقرير وارد في الوثائق المسربة، تلاعبت سفينة يُشتبه في أنها تنقل أسلحة من سوريا إلى ليبيا بموقعها، لتظهر قبالة ساحل العاصمة اللبنانية بيروت، لكنها أخطأت وأرسلت موقعها كأنها على اليابسة في المطار بدلاً من الميناء البحري.
في الأول من أيّار/ مايو 2024، صعدت عملية “إيريني”، المهمّة البحرية الأوروبية، على متن السفينة “بربروس”، ووجدت 115 شاحنة روسية الصنع. وبينما كانت هذه الشاحنات من النوع المستخدم بانتظام من قبل الجيوش، إلا أنها لم تكن معدّلة خصيصاً للاستخدام العسكري، وبالتالي لم تنتهك حظر الأسلحة، مما سمح للسفينة بمواصلة رحلتها إلى طبرق، ومع ذلك، كتبت المهمّة البحرية الأوروبية في تقرير داخلي أن الشحنة تمثّل “تأكيداً لاتّجاه عسكرة المنطقة”.
لم تردّ “عملية إيريني” على أسئلة ICIJ لهذه القصة
على مدى ما يقرب من عقد من الزمان، دعمت موسكو حفتر بالأسلحة والأموال والجنود، مما جعله حليفها الأهم في ليبيا بشكل تدريجي، وأفادت بعثة عيّنتها الأمم المتحدة في عام 2023، أن القوات الخاضعة لسيطرة حفتر ارتكبت “جرائم ضد الإنسانية”، كما اتّهم تقرير لمنظّمة العفو الدولية ميليشيا بقيادة نجله بارتكاب جرائم قتل وتعذيب واغتصاب.

حفتر الأب، وهو مواطن مزدوج الجنسية (أميركي- ليبي) عاش لعقدين في شمال فرجينيا في الولايات المتحدة، واجه دعاوى مدنية عدة في الولايات المتحدة تتّهم قواته بقتل المدنيين، وتمّ رفض القضايا العام الماضي، بعد أن حكم قاضٍ بعدم اختصاصه بالنظر فيها، ومن المقرّر الاستماع إلى استئناف هذا الحكم أمام محكمة أميركية في أيّار/ مايو.
ومع ذلك، لم تجعل الدول الغربية حفتر شخصاً غير مرغوب فيه دولياً. ففي آب/ أغسطس 2024، بعد ثلاثة أشهر فقط من وصول السفينة “بربروس” إلى إيطاليا، التقى قائد القيادة الأميركية لأفريقيا ودبلوماسي أميركي بارز بحفتر في ليبيا.
كما أشار المسؤولون الأوروبيون إلى النفوذ الروسي المتزايد في شرق ليبيا، كسبب لزيادة الانخراط مع المؤسسات الخاضعة لسيطرة حفتر. وقال نيكولا أورلاندو سفير الاتحاد الأوروبي لدى ليبيا: “ما لا نفعله نحن في الشرق ستفعله روسيا”، وذلك وفقاً لمحضر اجتماع عقدته بعثة الاتحاد الأوروبي البحرية في تشرين الأول/ أكتوبر 2024.
لم يردّ وفد الاتحاد الأوروبي في ليبيا، ولا متحدثو خدمة الدبلوماسية الأوروبية على طلبات التعليق من ICIJ.
قال أنس الجماتي مدير “معهد صادق” ومقره طرابلس، إن وجود روسيا في ليبيا يمنحها السيطرة على طرق تهريب المهاجرين إلى أوروبا، ويخلق مركزاً للعمليات البحرية على بعد مئات الأميال البحرية فقط من السواحل الأوروبية.
وأضاف: “لدى روسيا شراكة مع حفتر، لكن وجودها في ليبيا يتعلّق بالغرب بشكل أكبر”، وتابع: “أوكرانيا هي الجبهة الشرقية لحلف الناتو، وليبيا هي الجبهة الجنوبية، إنها الخاصرة الرخوة لأوروبا”.
قضية أمن عاجلة لأوروبا
تدخّل روسيا في ليبيا، الذي ساهمت فيه جزئياً عمليات “أسطولها الشبح”، توسّع بشكل كبير منذ أوائل العام 2024، وفقاً لمسؤولين أوروبيين.
ووفقاً لوثيقة إحاطة مسربة، تم إبلاغ رئيس المهمّة البحرية للاتحاد الأوروبي في حزيران/ يونيو، أن عدد الرحلات الجوية الروسية إلى ليبيا في النصف الأول من العام 2024، يُعادل إجمالي عدد الرحلات طوال العام 2023، وأن المهمّة لاحظت “إضفاء طابع رسمي على الوجود الروسي” خلال العام الماضي. كما وصفت الوثيقة زيادة شحنات الأسلحة الروسية إلى البلاد. وجاء في وثيقة الإحاطة: “الوجود البحري الروسي في البحر المتوسط حقيقة، ونحن نرى زيارات منتظمة للبحرية إلى ليبيا”.
وأفادت الوثائق المسرّبة بأن مرتزقة مجموعة “فاغنر”، وهي شركة عسكرية روسية خاصة كانت تعمل في ليبيا منذ العام 2018 على الأقل، تم استبدالها في عام 2024 بـ”فيلق إفريقيا”، وهو وحدة تحت السيطرة المباشرة للجيش الروسي.
شحنات الأسلحة الروسية لا تغذّي الصراع في ليبيا فحسب، بل تخدم أيضاً توسيع نفوذها في منطقة غير مستقرّة وغنية بالموارد في إفريقيا. وجاء في ملخّص داخلي أعدّته المهمة البحرية للاتحاد الأوروبي، بعد اجتماع مع المبعوث الألماني إلى ليبيا، أن موسكو تستخدم ليبيا كـ”نقطة دخول لمسارها اللوجستي إلى منطقة الساحل”. لم يردّ المبعوث على طلبات التعليق من ICIJ.
وقد جنت موسكو مكاسب مالية وسياسية من تدخّلها في هذه المنطقة الواسعة التي تشمل 10 دول. فعلى سبيل المثال، دعمت القوات الروسية انقلاباً عسكرياً في النيجر، ودعت الحكومة العسكرية لاحقاً الشركات الروسية للاستثمار في تعدين اليورانيوم في البلاد، وفي جمهورية إفريقيا الوسطى، عزّز المرتزقة الروس قبضة الرئيس على السلطة، مقابل السيطرة على مناجم الذهب والألماس.
روسيا ليست الدولة الوحيدة التي تنتهك حظر الأسلحة المفروض على ليبيا. فقد تتّبع فيلم وثائقي لهيئة الإذاعة البريطانية (BBC) في عام 2020، كيفية استخدام تركيا ـ”سفن شبح” لنقل أسلحة إلى حلفائها في البلاد، مستخدمة تكتيكات مشابهة لتلك التي تستخدمها موسكو.
لكن سقوط الرئيس السوري بشار الأسد، الحليف المقرّب لروسيا في كانون الأول/ ديسمبر الماضي، يبدو أنه وفّر دافعاً لموسكو لتوسيع تدخّلها في ليبيا. وفي وقت لاحق من ذلك الشهر، قال وزير الدفاع الإيطالي إن روسيا تنقل أسلحة من قاعدتها البحرية في سوريا إلى ليبيا. وفي كانون الثاني/ يناير، حدّدت الاستخبارات العسكرية الأوكرانية سفناً روسية معيّنة، قالت إنها تستعدّ لنقل أسلحة من سوريا إلى ليبيا.
وقال متحدّث باسم الاستخبارات العسكرية الأوكرانية للاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين: “إن المسؤولين العسكريين الروس، توصّلوا إلى اتفاق مع حفتر أواخر العام 2024 لإجلاء بعض وحداتهم من سوريا إلى ليبيا، وتحديث البنية التحتية للطيران في شرق ليبيا”، وأضاف: “القوات الجوية الروسية نفّذت ما لا يقلّ عن 20 طلعة جوية لنقل أفراد ومعدّات عسكرية من سوريا إلى الأراضي الليبية الخاضعة لسيطرة حفتر، وأن قرابة 3000 جندي روسي يتمركزون حالياً في ليبيا”.
تمثّل ليبيا “قضية أمنية فورية لأوروبا”، بسبب الوجود الروسي في البلاد ودورها كطريق للهجرة، وفقاً للملخّص الداخلي عُقب الاجتماع مع المبعوث الألماني إلى ليبيا.
وقال أنس الجماتي مدير “معهد صادق” إنه: “دليل على الإهمال الاستراتيجي الغربي”، وأضاف: “روسيا تبني قاعدة عسكرية ليست فقط قادرة على زعزعة استقرار ليبيا، ولكن أيضاً تهدّد الأمن الأوروبي على بعد 400 ميل فقط من شواطئ الناتو”.
إقرأوا أيضاً: