لم يحكم نظام الأسد سوريا فقط، بل كان حاكماً في لبنان أيضاً، من الأدوار المحورية ما قبل الحرب الأهلية اللبنانية في ستينات القرن الماضي مروراً بمحطات الحرب الأساسية ومسارها ومعاركها ونهايتها دخولاً بمرحلة وصايا كاملة بعد الطائف ووصولاً الى مرحلة الحكم بالوكالة عبر الحليف حزب الله منذ الخروج العسكري و”شكراً سوريا” في 2005 حتى السقوط.
شهدت تلك العقود الخمسة تغلغل البعث في السياسة اللبنانية، فكراً وممارسة، إذ تخطت العلاقات النظام السوري بالسياسة اللبنانية مستويات التعاون والتنسيق والتحالف وحتى شعار “وحدة المسار والمصير”، فكان آل الأسد (الأب ثم الإبن) الحكام الفعليين للبنان عسكرياً وأمنياً ومخابراتياً وإعلامياً وسياسياً، وكان البعث يشكل نهجاً وعقلية مكرسة في الأحزاب كافة حتى تلك التي اصطدمت معه في بعض المحطات، بالإضافة الى دوره في تثبيت منظومة العائلات والكارتيلات المتحكمة بالسلطة في لبنان وفي ضبط علاقاتها في ما بين مكوناتها ومع الخارج، إذ أوجدت سطوة البعث حضورَ ودورَ عدد كبير جداً من الأحزاب والزعامات والشخصيات التي استمدت قوتها من دعم الأسد ومحيطه، ومكّنتها علاقتها بضباط النظام السوري من دخول السلطة واحتكارها وتوريثها، فصممت “قبضة الأسد-الحزب” خلال 50 سنة قوانين انتخابية، وشكلت وزارات وعينت رئاسات ووزعت وحددت مقاعد نيابية ووزارات وحصصاً في المراكز الأمنية الأساسية والإدارية والقضائية والمصرفية وحتى الاحتكارات والمنافع الاقتصادية.
هذا الارتباط والتأثير العميق وهذه البنية المتشابكة لمنظومة المصالح التي رعاها نظام الأسد في لبنان وحماها، لا يمكن إلا أن تسقط بسقوطه. وإذا كان ممكناً أن تعزل المنظومة الحاكمة في لبنان نفسها عن تأثيرات سقوط النظام في سوريا لو حدث ذلك في 2011 أو 2012، لكن اليوم، سقوط بشار ترافق مع سقوط إيران ومعها حزب الله في سوريا، بعد أيام من اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان الذي أعلن نهاية متوازية لسطوة الحزب على القرار اللبناني بفعل نتائج الحرب الإسرائيلية، وليس لأن إسرائيل تريد ذلك، بل لأن نظريات الحزب عن الردع والقوة والمقاومة سقطت ولم تعد تقنع أياً من اللبنانيين، في البيئة وكل البيئات… تداعيات ذلك كله بعد 5 سنوات من الأزمات والانفجارات والانهيارات المالية والسياسية والاجتماعية وتصدّؤ الانتظام السياسي وتحلل الدولة، لا يمكن أن تُشخَّص على أنها أقل من سقوط للنظام.
بناءً عليه، يحاول بعض السياسيين اللبنانيين “من المتحاذقين”، تدارك ارتدادات السقوط الثلاثي (الأسد وإيران والحزب) في لبنان وتحويله الى انتصار داخلي – لم يشاركوا في صناعته – لفريق على فريق آخر وإعادة تدوير أركان النظام والحد من تداعياته على المشهد في لبنان من خلال بعض التقلبات والبهلوانيات الساذجة التي تعكس حالة إنكار حجم السقوط وتأثيراته على المستقبل، كأننا ما زلنا في 6 تشرين الأول/ أكتوبر 2023.
الفرصة للخروج من المستقنع
مع هذا السقوط، يقف لبنان اليوم على أبواب 1990، وللمفارقة التاريخية يقف، في لحظة مشابهة مع سوريا هذه المرة، أمام فرصة لإنهاء حربه الأهلية التي لم تلتئم جراحها حتى الآن “عن قصد”، وبتواطؤ أحزابه الحاكمة والمتحكمة التي تحولت من كونها ميليشيات طائفية وزعامات حرب وقادة محاور بالزي العسكري ولبست بدلات السياسة وتقاسمت الحكم في الوزارات والبرلمانات والإدارات الرسمية، بإدارة الحاكم الفعلي يومها نظام الأسد، ومباركة الرعاة الإقليميين والدوليين.
الفرصة أمام اللبنانيين لبناء الدولة التي لطالما حلموا بها. لكن شرط العبور إليها بنجاح هو أولاً فهم المعطيات والتعقيدات الإقليمية والدولية التي لا يمكن تجاوزها، بل يجب تثميرها لصالح مشروع بناء الدولة، وثانياً عدم تكرار تجربة تسوية الطائف بالقفز فوق المعالجات الضرورية للبنية الاجتماعية والسياسية ومقاربة جذور المسألة اللبنانية وهواجس اللبنانيين الحقيقية، أفراداً وجماعات، بما فيها الهواجس الهوياتية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وتفكيك الألغام التي إن لم نفككها اليوم، ستنفجر بالمجتمع اللبناني لاحقاً.
لا شك في أن التطورات الإقليمية والدولية منذ 7 تشرين الأول، وصولاً الى سقوط النظام في سوريا وتحجيم الدور الإيراني في المنطقة، خلقت فرصة تاريخية أمام لبنان للخروج من مستنقع المزارع الطائفية الفاشلة باتجاه الدولة المدنية التعددية العادلة.
هذه الفرصة موجودة بقوة، وهناك قناعة واسعة لدى غالبية اللبنانيين بالتقاطها لبناء الدولة المنشودة العادلة السيدة والقوية القادرة على حماية جميع أبنائها وثرواتها وأرضها وجوّها وبحرها، دولة الشرعية الكاملة من الناس، بعد ثبوت فشل كل أنواع الشرعيات الأخرى، من شرعية الأنظمة الشقيقة الى شرعية المقاومة والسلاح وشرعية المحاور الإقليمية والدولية الى شرعية المحاصصة الطائفية.
فالمطلوب اليوم هو توقّف اللبنانيين عن الإنكار والمكابرة وتواضع الجميع والاعتراف بسقوط الهيكل اللبناني، حيث تتشكّل الحاجة الملحّة الى مسار انتقال سياسي، لا ترقيع الوضع بما تيسر ولا تكرار تجارب الفشل التي وقع فيها اتفاق الطائف.
إقرأوا أيضاً:
دروس فشل اتفاق الطائف
قد يكون اليوم هو الوقت الأمثل لتقييم اتفاق الطائف واستخلاص الدروس والعبر لتفادي تكرار الأخطاء، فوثيقة الوفاق الوطني كنص حاز إجماعاً عريضاً من القوى السياسية اللبنانية المتنازعة شكلت أرضية مقبولة لوقف الاقتتال ووقف الحرب الأهلية. لكن المشكلة كانت في الالتفاف على النص الذي مارسه نظام الوصاية السوري بتفويض دولي وبالشراكة مع القوى اللبنانية المتحكمة، ما سبب بإبقاء الحرب الأهلية مفتوحة ومنع عبور لبنان الى الدولة.
فعلى الرغم من أن شعار الطائف كان “لا غالب ولا مغلوب”، إنما الواقع السياسي كرّس غلبة الفريق الإسلامي (بري وجنبلاط والحريري) وباسم الطوائف، على الفريق المسيحي الذي نُفيت قياداته (عون والجميل) أو سجنت (جعجع)، فينا كرست قاعدة “عفا الله عما مضى” وما رافقها من تسلط مرتكبي الحرب على السياسة وتعميم الفساد في إعادة الإعمار وإعادة المهجرين والتعويض عن المتضررين ولاحقاً الكهرباء والاتصالات والكازينو والمصارف وغيرها من صناديق سوداء موّلت استمرار زعماء الحرب وأزلامهم في قيادة السلم، ما خلق اختلالات عميقة منعت تشكل مسار صحي للعبور الى الدولة. وكرت مسبحة التهرب من تطبيق بنود الاتفاق بالكامل وبخاصةً البنود الأساسية مثل حل الميليشيات الذي استثنى “المقاومة” واللامركزية وإلغاء الطائفية السياسية، وكلها خروقات حصلت برعاية الأسد وإجماع الأحزاب اللبنانية، فبقيت وثيقة الوفاق الوطني كاتفاق سلام حبراً على ورق ولم تتحول الى عقد اجتماعي فعلي يحكم علاقة اللبنانيين بعضهم ببعض وعلاقتهم بدولتهم.
خارطة طريق نحو عقد اجتماعي جديد
الحاجة الى إنتاج عقد اجتماعي جديد بين اللبنانيين ليست مهمة مستحيلة ولا شعاراً فضفاضاً. ببساطة، نحن بحاجة الى تطوير الاتفاق المكتوب الذي أنتجه اللبنانيون ودفعوا ثمنه مئات آلاف الضحايا، أي اتفاق الطائف، وتعديله حيث يلزم وتطبيقه عبر سلة من الإصلاحات في النظام السياسي تهدف إلى تمكين شرعية الدولة وتعزيز دورها كمرجعية للمواطنين بدل مرجعية الطوائف من ضمن برنامج انتقالي يتضمن ما يلي:
التطبيق الكامل والمفصل لاتفاق وقف إطلاق النار
الالتزام الجاد بتطبيق 1701 بشكل كامل وتفكيك البنية العسكرية لحزب الله حسب ما نص الاتفاق وتسليمها للجيش اللبناني، وكذلك النقاط المتعلقة بتصنيع الأسلحة وشرائها، وبالتوازي متابعة الخروقات الإسرائيلية وتكثيف العمل الدبلوماسي والسياسي مع لجنة المتابعة التي اتفق عليها الموقعون على الاتفاق لوضع حد لأي تجاوزات وأطماع للعدو في الأراضي والأجواء اللبنانية، وتأمين انسحابه الكامل من لبنان.
تعويض المتضررين من الحرب الأخيرة وإعادة الإعمار
على الحكومة اللبنانية القيام بمهامها لتعويض المتضررين من الحرب الإسرائيلية الأخيرة وإدارة ملف إعادة إعمار الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية، وأن تؤمن الأموال اللازمة لذلك ولتعويض الأضرار البشرية لعائلات الشهداء والضحايا والجرحى، والمادية في المنازل والممتلكات وجبر الضرر لدى جميع المتضررين في المناطق اللبنانية كافة.
تعزيز سلطة الجيش على كامل الأراضي اللبنانية
استكمال اتفاق وقف إطلاق النار بوضع كل السلاح الموجود لدى حزب الله تحديداً والفصائل الفلسطينية داخل وخارج المخيمات بيد الجيش اللبناني وضبط الحدود مع إسرائيل وسوريا، بالإضافة الى اتخاذ القرار السياسي بتعزيز قدرات الجيش من أسلحة وعديد وعتاد وفتح باب التطوع لضم القدرات البشرية التي يمتلكها الحزب وتمكين أفراده اقتصادياً ومعيشياً بما يعزز الثقة بالمؤسسة العسكرية.
اكتساب شرعية الدولة وتثبيتها
إعادة الانتظام الى المؤسسات الدستورية، انتخاب رئيس جمهورية يحمل مهمة تنفيذ البرنامج الانتقالي وتشكيل حكومة بصلاحيات ودور محدد، وهو الانتقال السياسي بلبنان من دولة الشرعية الطائفية المرتبطة برهانات على الخارج الى دولة الشرعية من الناس ومصالحهم، والدعوة الى الانتخابات البلدية المؤجلة ووصولاً الى انتخابات نيابية تجدّد الشرعية.
سياسة خارجية تقوم على تصفير المشاكل مع المحاور
نسج علاقات خارجية إيجابية مع القوى الإقليمية والدولية كافة، بخاصة مع الدول العربية من سوريا الحرة الى دول الخليج ومصر والأردن والعراق الى تركيا وإيران وصولاً الى الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين والولايات المتحدة الأميركية، مع الالتزام بمناصرة قضايا الشعوب وحقها بتقرير المصير، وعلى رأسها قضية الشعب الفلسطيني وحقه بالتحرر من الاحتلال الإسرائيلي، وبدولة كاملة السيادة ومواطنة كاملة الحقوق، والتمسك باتفاقية الهدنة 1974 مع العدو الإسرائيلي.
التحول إلى نظام مدني تعددي لا مركزي
الانتقال ببنية النظام من السلطة المركزية نحو لا مركزية إدارية موسعة تقوم على مجالس محلية منتخبة ذات صلاحيات واسعة على مستوى الإدارة المحلية وشؤون الناس اليومية والاقتصادية والاجتماعية والصحية والتربوية والأمنية والإدارية، مع الحفاظ على قانون مدني للأحوال الشخصية على مستوى الوطن، وتطبيق اتفاق الطائف لجهة إنشاء مجلس للشيوخ يمثل المكونات الطائفية كمقدمة لانتخاب مجلس نواب خارج القيد الطائفي وإلغاء الفيتوهات الطائفية كالثلث المعطل وإنهاء المحاصصة الطائفية في الوظائف العامة.
العدالة الاجتماعية للتعافي الاقتصادي
تنفيذ خطة للتعافي الاقتصادي مبنية على مبادئ خطة التعافي المالي لسنة 2020 (المسماة خطة لازارد) بعد تحديثها وتعديل أرقامها لتكون المخرج لحل أزمة الودائع بشكل عادل وتحميل المصارف مسؤولياتها وإعادة هيكليتها من دون المس بأصول الدولة وأملاكها، والقيام بتصحيح عادل الأجور، إذ يجب أن تضع هذه الخطة المداميك الأولى لاقتصاد منحاز الى الناس منتج وعادل ومحفز للإبداع وجاذب للاستثمارات.
الحفاظ على الحريات وتعزيز حكم القانون والمؤسسات واستقلال القضاء
إعادة هيكلة القطاع العام والأجهزة الأمنية وتفعيل الأجهزة الرقابية وتحديد صلاحيات بعض الأجهزة الأمنية، ومنها إلغاء المحكمة العسكرية وإقرار وتطبيق قانون استقلالية القضاء والقوانين المرتبطة به، واستكمال التعيينات والشواغر في الإدارات العامة.
إقرأوا أيضاً: