يروي كارلوس غصن في مقابلة صحافية بكل ثقة وشجاعة مسيرة هروبه من اليابان إلى لبنان، بعدما اتهمته شركة “نيسان” اليابانية بالاختلاس، واعتقلته السلطات هناك عام 2019، قبل أن يخرج بكفالة مالية.
في المقابلة بدا غصن بطلاً حقيقياً على الطريقة اللبنانية، وهو مشهد بطولي تحيلنا مباشرة إلى مآثر مشابهة، كالاستقبال الملوكي الذي ناله المصرفي مروان خير الدين حين عاد من فرنسا بعد التحقيق معه في قضية جرائم مالية.
ومثله الآن يُرفع رياض سلامة حاكم مصرف لبنان على الأكتاف بوصفه ضحية مؤامرة كونية، أدت إلى إصدار القاضية الفرنسية أود بوروزي مذكرة توقيف دولية بحقه، علماً أن بوروزي هي المكلفة بالتحقيق مع سلامة بتهمة مراكمة أصول عقارية ومصرفية وإساءة استخدام أموال عامة لبنانية، خلال توليه إدارة مصرف لبنان على مدى ثلاثة عقود.
وقد تسلم لبنان من الإنتربول الدولي نسخة عن “النشرة الحمراء” التي تطلب توقيف سلامة لصالح القضاء الفرنسي، إلا أن المؤشرات تحيل إلى أن الحاكم في أفضل الأحوال قد يخضع لاستجواب لبناني شكلي. أما تسليمه إلى الإنتربول فما زال بعيداً، على رغم أن سلامة طرف أساسي في عملية نهب أموال المودعين. إنما حتى الآن يحظى سلامة بدعم سياسي يحميه من المحاسبة.
ويواجه سلامة ومساعدته ماريان الحويك وشقيقه رجا تحقيقات في لبنان و5 دول أوروبية على الأقل للاشتباه في استيلائهم على أكثر من 300 مليون دولار من البنك المركزي.
لكن هذا كله لا يعني أي شيء في مفهوم العدالة اللبنانية، فسلامة ما زال في منصبه، وترجّح بعض المعلومات أن يبقى فيه لحين انتخاب رئيس للجمهورية. حتى إن القاضي شربل أبو سمرا أخبرنا أنه لم يستطع إيجاد سلامة في أي مكان، ومثله كل الأجهزة الأمنية، إلا أنه للمفارقة، تمكنت قناة “الحدث” من التقاطه، وإجراء مقابلة معه.
تلك المفارقات العجيبة لا تطاول سلامة أو غصن أو خير الدين وحدهم، فلبنان تحول في السنوات الأخيرة إلى جنة آمنة للهاربين من العدالة، موفراً لهم حرية التنقل ومتابعة حياتهم والحماية التي تصل إلى حد تبوؤ مناصب رفيعة.
“قاتلو” 218 شخصاً
المتهمون عن ثاني أكبر انفجار في العالم والذي أودى بحياة حوالى 218 شخصاً وجرح أكثر من 7000 شخص في مرفأ بيروت في 4 آب/ أغسطس، ما زالوا حتى الآن طلقاء، بحصانات حزبية وطائفية ونيابية ومناطقية.
وقد إستلم التحقيق في الملف بداية القاضي فادي صوان ليُنحى بعدها بسبب الارتياب المشروع ويتم تعيين القاضي طارق البيطار مكانه، لينحى أيضاً بعد توجيهه قرارات اتهامية لأكثر من مسؤول ووزير. فبدل القبض على المتهمين، تمت تنحية القاضي، كما تعرض أهالي الضحايا للعنف خلال تحركات نظّموها للمطالبة بالعدالة.
وبحسب تقرير مفصل أعدته “هيومن رايتس ووتش” عن إنفجار المرفأ سنة 2021 فإنه وفق الأدلة، هناك عدد من السياسيين المتهمين بقضية الإنفجار بمن فيهم رئيس الجمهورية السابق ميشال عون، ورئيس الوزراء آنذاك حسان دياب، والمدير العام لأمن الدولة اللواء طوني صليبا، وقائد الجيش اللبناني الأسبق العماد جان قهوجي، ووزير المالية الأسبق علي حسن خليل، ووزير الأشغال العامة والنقل الأسبق غازي زعيتر، ووزير الأشغال العامة والنقل الأسبق يوسف فنيانوس، من بين آخرين، أُبلِغوا بالمخاطر التي تُشكّلها نيترات الأمونيوم ولم يتخذوا الإجراءات اللازمة لحماية الناس.
إنما حتى الآن لم يُحاكم أحد!
هل تذكرون سليم عياش؟
بعد 15 عاماً من التحقيق، أصدرت المحكمة الدولية الخاصة بلبنان قرارها في قضية اغتيال رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري في 14 شباط/ فبراير 2005. فعام 2020 وجهت المحكمة إدانه لسليم عياش في الجريمة، بينما تمت تبرئة ثلاثة متهمين آخرين هم حسين عنيسي وأسد صبرا وحسن مرعي لعدم كفاية الأدلة.
عياش المتهم بقضية اغتيال الحريري لا يزال حراً طليقاً لحد اللحظة، بحجة تعذر الوصول إليه وتوقيفه، تماماً كما تعذر توقيف سلامة وفنيانوس وخليل…
معاقَبون بحماية الدولة
الجنة اللبنانية تضم أيضاً أشخاصاً معاقبين من الخزانة الأميركية أو من الاتحاد الأوروبي، مثل الأخوين تيدي وريمون رحمة لتورطهما بمناقصات وعقود حكومية “غامضة”.
كما فرضت وزارة الخزانة الأميركية عقوبات على مواطنين لبنانيين اثنين بتهمة الضلوع في تهريب الكبتاغون إلى سوريا وهما نوح زعيتر، الصادرة بحقه عشرات مذكرات التوقيف في لبنان، وحسن دقو، الذي ألقي القبض عليه في لبنان عام 2021 بتهمة تهريب الكبتاغون إلى منطقة الخليج.
وفرضت الخزانة عقوبات على الصرّاف والخبير المالي اللبناني حسن مقلّد، وشركته CTEX للصرافة، لتسهيله “الأنشطة المالية لحزب الله، ويلعب دوراً رئيسياً في تمكين الحزب من الاستمرار في استغلال الأزمة الاقتصادية في لبنان وتفاقمها”.
وطاولت العقوبات أيضاً راني وريان مقلّد لتسهيلهما أنشطة والدهما حسن مقلّد.
وشملت العقوبات رجلي الأعمال جهاد العرب وداني خوري والنائب جميل السيد، ووزير المالية السابق (في حكومات عدة) علي حسن خليل، ووزير الأشغال العامة والنقل السابق، يوسف فنيانوس، إما لضلوعهم في الفساد أو لدعمهم “حزب الله”.
وامتدت العقوبات لتشمل رئيس “التيار الوطني الحر” النائب جبران باسيل بسبب تورّطه، بشكل مباشر أو غير مباشر في الفساد. والمفارقة أن مناصري التيار الذين اعتبروا المذكرة بحق سلامة انتصاراً لهم، معتبرين أنها معركتهم، فاتهم مثلاً أن باسيل من ضمن المعاقبين دولياً أيضاً.
هؤلاء كلهم يعيشون في جنة لبنان، يتابعون حياتهم وصفقاتهم المشبوهة من دون أن يرف لهم أي جفن، ومن دون أن يجرؤ القضاء على مساءلتهم على الأقل. فما هو دور القضاء اللبناني؟ وهل أصبح مرتهناً للهاربين من العدالة الدولية أو المعاقَبين؟
إقرأوا أيضاً: