من نكد الدهر أن يُسجن رياض سلامة وألا نستطيع الاحتفال بالخبر كما نشاء وكما نستحق، نحن ضحاياه وضحايا رفاقه، فالاغتباط يبقى ناقصاً لأننا ندرك تماماً أن الأموال المنهوبة لن تعود حتى وإن حُكم على سلامة بالمؤبد. كما أننا ندرك جيداً أن توقيف حاكم مصرف لبنان السابق لا يمكن أن يكون بريئاً وإجراء قضائياً عادياً، تستدعيه القضية المرفوعة، كما يحدث في أي دولة طبيعية.
لا بدّ أن خلف المشهد البوليسي “المشرّف”، والذي لطالما انتظرناه منذ الـ2019، قصة أخرى قد لا تخرج إلى العلن أبداً، فبقاؤها سراً ربما يكون جزءاً من الاتفاق.
تعددت الروايات حول إحراق ورقة سلامة، عبر التحقيق معه في 3 أيلول/ سبتمبر، والذي انتهى بتوقيفه احترازياً في المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي الأسبوع الماضي، في غرفة “سوبر دولوكس”، ومن ثم التحقيق مجدداً معه لمدة ساعتين ونصف الساعة، وإصدار قاضي التحقيق الأول في بيروت بلال حلاوي، مذكّرة توقيف وجاهية بحقه، ما يعني سجنه لأشهر على الأقل.
الرواية الرائجة حتى الآن، هي أن القبض على سلامة في لبنان أتى تفادياً لمحاكمته في أوروبا، وما يعنيه ذلك من نشر لغسيل رجال المال والسياسة المتّسخ، بخاصة أن القضاء الأوروبي يُفترض أن يصدر أحكامه بموضوعية وجديّة وحياد، وليس “أهليّة بمحليّة” على الطريقة اللبنانية.
وربما يكون ذلك محفّزاً جديداً للخيبة، ففي حال حوكم سلامة في لبنان فعلياً بالتهم الموجّهة إليه من اختلاس الأموال وتبييضها وغير ذلك في ما خص حسابات شركة “أوبتيموم”، فسيعني ذلك أن القضاء الأوروبي لن يستطيع محاكمته بالتهم ذاتها، وهو كان ربما أملنا الوحيدة لمعرفة ما حصل فعلاً بمال المودعين ومال الدولة.
إقرأوا أيضاً:
منذ 3 أعوام، وسلامة يشكل محور تحقيقات قضائية في أكثر من دولة أوروبية، إضافة إلى الدعاوى المرفوعة ضدّه داخل لبنان، وقد اشتبهت الدعاوى بأنه راكم أصولاً عقارية ومصرفية بشكل غير قانوني، وأساء استخدام أموال عامة على نطاق واسع خلال توليه حاكمية مصرف لبنان، عدا اتهامه بتحويل مبالغ كبيرة إلى حسابات خارج لبنان، إضافة إلى “الإثراء غير المشروع”.
30 عاماً بقي سلامة في حاكمية مصرف لبنان، منذ آب/ أغسطس 1993 وحتى تموز/ يوليو 2023، ثلاثة عقود انتهت بأزمة اقتصادية ومصرفية أدت إلى تبخّر ودائع اللبنانيين وانهيار قيمة الليرة اللبنانية وإفقار المزيد من الناس.
وانتهت الأعوام الثلاثون ببدء الكشف عن “فضائح” مالية لم يحاكم فيها حتى الآن أي سياسي كان موجوداً طيلة هذه المدّة، ولم يُسأل رؤساء الحكومات ولا وزراء المالية عن سبب تبخّر الأموال وسوء استخدامها، وعن سبب إفلاس الدولة وانهيارها الاقتصادي.
بناء على التحقيقات، أصدرت قاضية فرنسية في باريس والمدعية العامة في ميونيخ العام الماضي مذكرتي توقيف في حق سلامة عُمِّما عبر الإنتربول. وقرر القضاء اللبناني بناء عليهما منعه من السفر وصادر جوازي سفره اللبناني والفرنسي.
إلا أن النيابة العامة في ميونيخ ألغت في حزيران/ يونيو مذكرة التوقيف، لأنه “لم يعد يشغل منصب حاكم مصرف لبنان المركزي، وبالتالي لم يعد هناك أي خطر (…) بإتلاف أدلة”. لكن القرار لا يعني أن التحقيق انتهى.
كما فرضت الولايات المتحدة إلى جانب كندا والمملكة المتحدة، عقوبات اقتصادية على سلامة وعلى أفراد عائلته لشبهات فساد، بما في ذلك تجميد أصولهم في البلدان الثلاثة.
قد يكون سرد ما حلّ بسلامة مداوياً لبعض الجروح التي طبعتها فينا المنهبة الكبيرة، إلا أنّنا حتى الآن لا نعرف شيئاً عن مصير الودائع التي تتخطى قيمتها الـ50 مليار دولار لأكثر من مليون ونصف المليون حساب.
إنما ومهما بدا توقيف سلامة هزلياً ولعبة سياسية على حسابنا وحساب أرزاقنا، فإننا لا نستطيع إلا أن نبتسم قليلاً ونحن نقرأ خبر توقيف سلامة وسجنه وإن كان في غرفة مكيّفة فيها تلفزيون وثلاجة وهاتف!