في آب/ أغسطس من العام 2024، شعرت الزوجة- الطفلة المصرية فاتن زكريا (15 عاماً) بالجوع، لم يكن “زوجها” أو أسرته قد عادوا الى المنزل بعد، فاضطرت لتناول طبق من المعكرونة من دون علم زوجها، هذا الطبق الذي كلفها حياتها. فبعدما عاد الزوج وعلم بالأمر، قرر معاقبتها بالضرب والكي بالنار، قبل أن يسحبها إلى أعلى سطح المنزل ويلقيها من هناك، لتموت فاتن فيما كان من المفترض أن تستقبل المرحلة الثانوية في الدراسة.
الظلم الذي تعرضت له الطفلة فاتن لم يتوقف حتى بعد وفاتها، إذ كانت على موعد مع ظالم آخر، هذه المرة لم يكن القاتل أو المجتمع، وإنما الجهة الوحيدة التى كان من المنتظر أن تنصفها، وهي هيئة المحكمة، إذ قررت أن تسمح له بالإفلات من عقوبة القتل. فبعدما قضت محكمة جنايات طنطا بعقوبة الإعدام، أصدرت محكمة مستأنف جنايات طنطا حكمها بتخفيف الحكم السابق إلى السجن 7 سنوات فقط. وعلى رغم عدم الاطلاع على حيثيات الحكم حتى الآن، إلا أن محامين توقعوا استخدام المحكمة سلطتها في تعديل الوصف والقيد للقضية وتحويلها من قتل عمد إلى ضرب أفضى إلى موت.
على رغم فجاجة قضية فاتن المعروفة إعلاميًا بـ “طفلة طبق المعكرونة” وفظاعتها، إلا أنها ليست حالة فريدة في عالم قضايا قتل النساء في مصر، فهي حالة متكررة ضمن مئات الحالات التي تستغل فيها المحكمة السلطات الممنوحة لها قانونًا في مساعدة الجناة في قضايا قتل النساء للفرار من العدالة بأحكام مخفّفة.
سلطات القاضي
منحت القوانين المختلفة سلطات عدة للقاضي، فمثلاً تنص المادة 308 من قانون الإجراءات الجنائيّة على أن “للمحكمة الحق في أن تغير في حكمها الوصف القانوني للفعل المسند إلى المتهم، ولها تعديل التهمة بإضافة الظروف المشددة التي تثبت من التحقيق أو من المرافعة في الجلسة، ولو كانت لم تذكر بأمر الإحالة أو التكليف بالحضور، وللمحكمة أيضاً إصلاح كل خطأ مادي وتدارك كل سهو في عبارة الاتهام مما يكون في أمر الإحالة، أو في طلب التكليف بالحضور وعلى المحكمة أن تنبه المتهم إلى هذا التغيير، وأن تمنحه أجلاً لتحضير دفاعه بناء على الوصف أو التعديل الجديد إذا طلب ذلك”.
إقرأوا أيضاً:
بموجب هذه المادة من القانون، يصبح من حق القاضي تعديل وصف القضية من القتل العمد، وعقوبته الإعدام، إلى القتل الخطأ الذي تبدأ العقوبة فيه من 6 أشهر وحتى 7 سنوات إذا ترافق معه الأهمال الجسيم، أو الضرب المفضي الى الموت، وتتراوح عقوبته من 3 سنوات حتى 7 سنوات.
هذه المادة أيضاً تتيح للقاضي تشديد وصف القضية، فيمكن تعديلها من الضرب المفضي الى الموت إلى القتل العمد، إلا أن هذا الاستخدام نادر حتى مع مطالبة دفاع المجني عليها، وهو ما حصل في حالة مرام أسامه، التي قتلها زوجها رجل الأعمال بعدما اعتدى عليها بالضرب، ما تسبب في قطع البلعوم، واحتجزها 5 أيام تصارع الموت في كانون الأول/ ديسمبر 2024، وهو ما تسبب في موتها، إلا أن النيابة قررت إحالة القضية الى محكمة الجنايات باعتبارها جريمة ضرب أفضى إلى موت. وعلى رغم مطالبة دفاع المجني عليها بتعديل التهمة الى القتل مع سبق الإصرار بمنع المجني عليها من الوصول الى العناية الطبية، رفضت المحكمة ليحصل المتهم على حكم بالسجن سبع سنوات فقط.
وعلى رغم أن السلاح الأبيض قاتل بطبيعته، إلا أن محكمة استئناف المحلة رأت أن استخدامه لا يعني بالضرورة القتل، كما في حالة قاتل زوجته الحامل بالمحلة، الذي انهال عليها بالطعن بسلاح أبيض حتى 44 طعنة، ما أسفر عن قتلها هي وجنينها. وحكمت محكمة جنايات المحلة عليه بالسجن المؤبد، إلا أن محكمة الاستئناف رأت تعديل وصف وقيد القضية إلى ضرب أفضى إلى موت، وحكمت عليه بالسجن 5 سنوات فقط، طبقًا للمادة 236 من قانون العقوبات التي تنص على أن “كل من جرح أو ضرب عمدًا من دون نية القتل، وأفضى ذلك إلى الوفاة، يُعاقب بالسجن من ثلاث إلى سبع سنوات”.
من المواد التي تمنح للقاضي سلطة واسعة تستخدم في إفلات الجناة في قضايا قتل النساء، المادة 17 من قانون العقوبات التي تنص على أن “يجوز إذا اقتضت أحوال الجريمة رأفة القضاة، تبديل العقوبة من الإعدام إلى السجن المؤبد أو المشدد، أو من السجن المؤبد إلى السجن المشدد أو السجن” وتتيح المادة 55 من القانون ذاته للمحكمة إيقاف العقوبة إذا رأت أن ظروف الجاني تستدعي الرأفة”.
واستناداً الى الشريعة الإسلامية، تأتي المادة 60 من قانون العقوبات كوسيلة حماية قانونية لأعمال العنف التي ترتكب داخل الأسرة بنية التأديب، إذ تنص على أن “لا تسري أحكام هذا القانون على كل فعل ارتُكب بنية سليمة عملًا بحق مقرر بمقتضى الشريعة”.
تمييز في العقوبة
يقول المحامي الحقوقي في مركز “تدوين” لدراسات النوع الاجتماعي عمرو محمّد لـ”درج”: “لدينا إشكاليّة في القانون، هي منح المحكمة سلطات لتخفيف العقوبات استناداً إلى موادّ الرأفة، مثل المادّة 17 والمادّة 60 من قانون العقوبات، رغم أنه من المفترض أن يطبّق القانون على الجميع دون تمييز. على سبيل المثال، في السنوات العشرة الأخيرة خلال عملي كباحث قانوني، لم يمرّ عليّ حالة واحدة لزوجة قتلت زوجها ولم تحصل على حكم بالإعدام، لا أتحدّث هنا عن أحكام مخفّفة مثل 5 سنوات و10 سنوات، إنما حتى حكم بالسجن 15 سنة لا تحصل عليه الزوجة مهما كانت الظروف، فدائماً الحكم بالإعدام. في حين أنه في الفترة نفسها نادراً ما حصل زوج في قضيّة قتل زوجته على الإعدام، إلا إذا حين تكون القضية قضيّة رأي عامّ، حينها يحصل على حكم بالإعدام، لكن لا يُنفّذ لأنه يُخفّف في الاستئناف”.
وبحسب محمّد فإن المحكمة لديها سلطات واسعة في التعامل مع القضايا سواء بالرأفة، أو بتعديل القيد والوصف للقضيّة. فحين تقوم النيابة بعملها وتُحيل القضيّة إلى المحكمة بقيد ووصف القتل العمد، يأتي دور المحكمة؛ لا سيّما الاستئناف، لتعديل القيد والوصف إلى القتل الخطأ أو ضرب أفضى إلى موت، مما يهبط بالعقوبة من الإعدام، أو على الأقلّ السجن المؤبّد، إلى السجن لمدّة لا تزيد عن 7 سنوات في أقصى عقوبة ممكنة.
“الإشكاليّة هي في عدم وجود قانون موحّد للعنف ضدّ المرأة أو الأسرة، ورغم أن هذا القانون ضرورة ملحّة، ما زال في الأدراج رغم تقديمه مرّتين إلى البرلمان مشمولاً بتوقيعات 60 عضواً. الأولى النسخة التي قدّمتها النائبة نشوى الديب، والثانية النسخة التي قدّمتها النائبة مها عبد الناصر، وفي النسخة التي عمل عليها مركز “تدوين” بالتعاون مع عدد من المؤسّسات الحقوقية المعنيّة، طالبنا بصورة واضحة بتقييد استخدام الموادّ 17 و60 من قانون العقوبات، للحيلولة دون إفلات المزيد من الجناة”، يقول عمرو محمّد.
ويشير إلى أن “المحكمة لها الحقّ في استخدام كافّة الموادّ في القضيّة نفسها، وهو ما حدث في جريمة قتل زوج زوجته باستخدام طفّاية حريق في نجع حمّادي في تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023، حيث حُكم على المتّهم بالسجن سنة واحدة مع وقف التنفيذ”.
وكانت المحكمة قد عدّلت الوصف من القتل إلى القتل الخطأ، استناد إلى دفاع المتّهم بأنه لم يكن يقصد قتلها، بل كان في حالة غضب ممّا دفعه إلى إلقاء “طفّاية” عليها، أصابتها في رأسها، واعتبرت الواقعة حصلت بحسن نيّة ضمن مقاصد التأديب بموجب المادّة 60، وقرّرت الحكم بحبس المتّهم سنة واحدة مع وقف التنفيذ، رأفة بأبنائه الذين لم يعد لهم أحد بعد وفاة والدتهم التي قتلها الزوج.
المشهد الكامل
من جانبها، قالت مؤسّسة مبادرة “سوبر وومن” آية منير: “إن المحكمة غاب عنها المشهد الكامل في قضيّة فاتن زكريا، التي كانت ضحيّة لعدّة جرائم متقاطعة ومتداخلة، منها جريمة زواج قاصر، بينما يحاسَب على مشهد واحد وهو قتل فاتن”، سائلة: “كيف يمكن أن يكون إلقاء إنسان من على سطح منزل جريمة ضرب أفضت إلى موت؟ هل يمكن أن يكون المتّهم وهو يلقي فاتن لا يعلم أنها ستموت؟ هل يمكن أن تكون نيّته هنا عدم قتلها؟ لصالح من يُفلت مجرم من العدالة ليخرج من السجن بعد فترة قصيرة، ويعيش حياته بينما دُفنت حياة طفلة سواء بزواجها المبكر أو بقتلها؟”.
وأسفت منير”لأنه دائماً يتمّ التعامل مع قضايا العنف ضدّ النساء وقتلهن بصورة مختزلة دون سياق عامّ، باعتبارها حالات فردية، وليس سياقاً كاملاً متعدّد الجرائم والمشاهد التي تصل إلى الجريمة النهائية، وطالما يتمّ التعامل بهذا الأسلوب سوف يستمرّ إفلات المجرمين من العقاب، وبدلاً من أن يُستخدم القانون في إنصاف الضحيّة، يتمّ البحث عن مخرج للجاني”.
“هناك أزمة في التعامل مع قضايا العنف داخل إطار الأسرة، على أن الطرفين متساويان في القوّة، وليس لطرف منهما سلطة على الآخر كما هو في المشاجرة العادية، بينما الوضع مختلف داخل الأسرة بسبب الظروف المجتمعية وموازين القوّة، فلا تستطيع فتاة ضرب والدها ولا تستطيع المرأة ضرب زوجها، وسط الفتاوى الدينية اليومية حول حقّ الأب والزوج في التأديب، وكذلك بناء على مادّة في القانون. لذلك فالموازين ليست متساوية ليتمّ التعامل معها كما يتمّ التعامل مع المشاجرات العادية، لذلك نحن نحتاج إلى قانون موحّد للعنف حتى يتمّ تسميته عنفاً وليس مجرّد ضرب، ويتمّ التعامل مع الجرائم في سياقها دون اختزال”، تابعت منير.
في ساحة المحكمة عقب صدور قرار تخفيف حكم الإعدام بحقّ قاتل فاتن، هتف ذووه “يحيا العدل”، لكنّ العدل نفسه كان غائباً عن ساحة المحكمة، لأن الضحيّة لم تحصل على حقّها. وطالما أن هناك قوانين تمنح القضاة سلطة واسعة لتعديل الأحكام بناء على رؤية متأثّرة بتفسيرات دينية ومجتمعية، قد ترى في مقتل النساء أمراً عادياً يجوز فيه استخدام الرأفة بالقاتل، سيظلّ العدل غائباً عن قضايا قتل النساء.
إقرأوا أيضاً:











