أحيت فلسطين مع الأسرة الدولية اليوم العالمي لمساندة ضحايا التعذيب، لعلّ تلك الذكرى الثانوية تزرع أملاً واحداً أو وردة في صحراء التعذيب، وتحقيقاً لفاعلية أداء اتفاقية مناهضته.
التعذيب مصطلح عام يُستعمل لوصف أي عمل يُنزل آلاماً جسدية أو نفسية بإنسان ما وبصورة متعمدة ومنظمة كوسيلة من وسائل استخراج المعلومات أو الحصول على اعتراف، أو لغرض التخويف والترهيب أو كشكل من أشكال العقوبة أو وسيلة للسيطرة على مجموعة معينة، تشكل خطراً على السلطة المركزية. ويستعمل التعذيب في بعض الحالات لأغراض أخرى كفرض مجموعة من القيم والمعتقدات التي تعتبرها الجهة المُعذِبة قيماً أخلاقية.
المفارقة أن دولة فلسطين انضمت إلى البروتوكول الاختياري الملحق باتفاقية مناهضة التعذيب، واعتمدت الوثيقة المرجعية لإنشاء الآلية الوطنية الوقائية لمنع التعذيب في البلاد. وشكلت فريقاً حكومياً لمتابعة إنشاء الآلية من عدد من الوزارات، والنيابة العامة، والهيئة المستقلة لحقوق الإنسان بصفتها مراقباً.
وعلى رغم ذلك، ما زالت المنظومة القانونية الفلسطينية تفتقد إلى إطار قانوني لمناهضة التعذيب وسوء المعاملة ينسجم مع المعايير الدولية، فالقوانين الحالية ذات العلاقة، وأهمها قوانين العقوبات سارية المفعول في الضفة الغربية وقطاع غزة. يذكر أن قانون العقوبات الأردني هو الساري في الضفة، وقانون العقوبات 74/ لسنة 1936 هو الساري في غزة، ولم يدرَج في متنه تعريف واضح للتعذيب وسوء المعاملة المعاقب عليهما جنائياً.
في تقريرها السنوي الـ24، تلقت الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان التي تتابع انتهاكات حقوق الإنسان 379 شكوى تتضمن ادّعاءات بانتهاك الحق في السلامة الجسدية، بواقع 223 شكوى في الضفة الغربية، و174 في قطاع غزة. واشتملت هذه الشكاوى على 676 انتهاكاً للحق في السلامة الجسدية، بواقع 326 ادّعاءً بانتهاك في الضفة الغربية، و350 ادّعاءً بانتهاك في قطاع غزة.
كما سجلت الهيئة 149 حالة اعتداء جسدي أو معنوي خارج مراكز الاحتجاز، بواقع 105 في الضفة الغربية و44 في قطاع غزة. فيما سجلت 417 حالة تعذيب وتهديد أثناء التوقيف داخل مراكز الاحتجاز، بواقع 181 في الضفة الغربية، و236 في قطاع غزة. كما سجلت 110 حالات معاملة قاسية ولا إنسانية وحاطّة بالكرامة، بواقع 40 في الضفة الغربية، و70 في قطاع غزة.
تلقت الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان التي تتابع انتهاكات حقوق الإنسان 379 شكوى تتضمن ادّعاءات بانتهاك الحق في السلامة الجسدية
لم تميز الأجهزة الأمنية والشرطة بين النساء والأطفال في انتهاك الحق في السلامة الجسدية. ووفقاً للهيئة فإنها تلقت شكاوى بحسب الفئات، تضمنت ادّعاءات بانتهاك الحق في السلامة الجسدية، لفئة البالغين من الذكور والإناث على حد سواء، وانتهاكات لفئة الأطفال. وسجلت الهيئة 40 ادّعاءً بانتهاك الحق في السلامة الجسدية على النساء من مجمل الانتهاكات المدعى بها، فيما بلغت ادّعاءات انتهاك الحق في السلامة الجسدية للأطفال 60 من مجمل الانتهاكات التي تضمنتها الشكاوى، تنوعت أنماط هذه الانتهاكات ما بين الاعتداء الجسدي أو المعنوي خارج مراكز الاحتجاز (3 حالات)، و49 حالة تهديد وتعذيب أثناء التوقيف، و9 حالات معاملة قاسية ولا إنسانية ومسيئة إلى الكرامة.
تشير المعطيات السابقة إلى خطورة وضع الحق في السلامة الجسدية للأطفال في فلسطين، حيث يفترض أن يحظوا بمعاملة فضلى من قبل الجهات الرسمية، وأن تتم حمايتهم في القانون والواقع من الإيذاء والمعاملة القاسية، كما نصت اتفاقية حقوق الطفل التي صادقت عليها دولة فلسطين عام 2015.
كما يمثل انتهاك الحق في السلامة الجسدية ضد النساء، مؤشراً على عدم الاحترام الكامل لاتفاقية الأمم المتحدة للقضاء على أشكال التمييز ضد المرأة، التي انضمت إليها دولة فلسطين عام 2014.
سجلت الهيئة 40 ادّعاءً بانتهاك الحق في السلامة الجسدية على النساء من مجمل الانتهاكات المدعى بها، فيما بلغت ادّعاءات انتهاك الحق في السلامة الجسدية للأطفال 60 من مجمل الانتهاكات
من خلال رصد وتوثيق منظمات حقوق الانسان بخاصة الهيئة المستقلة لحقوق الانسان، فإن جهاز الشرطة في الضفة الغربية وقطاع غزة يعتبر أكثر الجهات الأمنية للسنة الثالثة على التوالي التي وردت عليها شكاوى بشأن المساس بالحق في السلامة الجسدية. بلغ عدد ادّعاءات انتهاك الحق في السلامة الجسدية المنسوبة إليها في القطاع 328 ادّعاءً، فيما نسب إلى جهاز الشرطة العامة في الضفة الغربية 311 ادّعاءً في زيادة كبيرة على العام السابق، الذي سجل 192 ادّعاءً بانتهاك للحق في السلامة الجسدية ضد جهاز الشرطة العامة في الضفة الغربية.
وفي ظاهرة مستمرة منذ سنوات، سجلت الهيئة 28 ادعاء بانتهاك ضد وزارة الداخلية على اللجنة الأمنية المشتركة في أريحا التابعة لوزارة الداخلية، وعلى رغم إعلان حل هذه اللجنة بقرار من رئيس الوزراء بتاريخ 4/6/2018، فإنها ما زالت تمارس صلاحيات حتى الآن، من دون أي أساس قانوني، مع تسجيل عدد كبير من انتهاكات حقوق الإنسان ضدها.
إن استمرار ارتفاع أرقام انتهاكات الحق في السلامة الجسدية المسجلة بحق جهاز الشرطة على مدى سنوات عدة، يشير إلى مشكلات حقيقية في آليات المساءلة والمحاسبة داخل الجهاز، وإجراء مراجعة لإجراءات التوقيف والاحتجاز والتعامل مع المحتجزين.
في غياب المساءلة والمحاسبة الجنائية لأفراد الشرطة والأمن الذين ارتكبوا أفعالاً تشكل انتهاكاً للحق في السلامة الجسدية، أو التأديبية عن ارتكابهم التعذيب وسوء المعاملة، سوف تستمر الانتهاكات وجرائم التعذيب بحق المواطنين الفلسطينيين.
إن استمرار ارتفاع أرقام انتهاكات الحق في السلامة الجسدية المسجلة بحق جهاز الشرطة على مدى سنوات عدة، يشير إلى مشكلات حقيقية في آليات المساءلة والمحاسبة داخل الجهاز
إضافة إلى أن النيابة العامة المدنية والعسكرية، لا تحيل في الغالب أي شخص عسكري أو أمني إلى التحقيق الجنائي، على رغم ثبوت ارتكابه أفعالاً تشكل مساساً بالحق في السلامة الجسدية، بموجب حكم قضائي. كما أن غياب أي إطار تشريعي يجرم التعذيب والمعاملة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، واستحداث نصوص قانونية صريحة تلزم بالتعويض العادل لضحايا التعذيب، وتستحدث وسائل لإنصافهم.