يرحل المبدعون، ويبقى إبداعهم. يرحلون، وتظهر تباعاً هفواتهم وسقطاتهم وأسرارهم هنا وهناك، بالرغم من غضب وهيجان الأتباع والأشياع والمريدين والعَبَدَة. من الجُرمِ أن تموتَ الأسرارُ مع أصحابها. بعد رحيلهم، على أسرارهم أن تخرج من سجونها إلى النور وتتنفّس أوكسجين الحياة. لكن، كيف ستخرج الأسرار من قمم الكتمان والحرمان إلى التنفّس، إن لم يبح بها أحد مُطلع عليها؟!
لكن، هل كشف السرّ و الإفشاء به، بعد رحيل صاحبهِ، غدرٌ وخيانةٌ بالصديق، صاحب السرّ؟ هل هي رغبة في الشهرة ومحاولةُ تدمير الصديقِ صديقهُ الذي ائتمنه على السرّ؟
مناسبة هذه الأسئلة؛ نَشرُ ملحق “القدس العربي الأسبوعي” الذي يديره الناقد صبحي الحديدي (الصديق المشترك لدرويش وبركات) في 6/6/2020 مقالاً للشاعر والروائي السوري سليم بركات تحت عنوان “محمود درويش وأنا”. بحسب ما هو منشور في “القدس العربي” المقال مكتوب سنة 2012. يعني بعد وفاة درويش بنحو أربعة أعوام. ولو أرسل بركات مقاله ذاك إلى صديقه وناقده صبحي الحديدي، فالزمن (مرور ثلاثة عقود على البوح بالسرّ؛ 1990-نيقوسيا)، يسنح له بذلك. حتّى في أعراف بعض الدول، مرور ثلاثة عقود على سرّ من أسرار الدولة، كافٍ ليكون مباحاً.
أعتقد أن الناقد صبحي الحديدي لو رأى في المقال أيّة إساءة أو تشويه سمعة يطاول صديقه درويش، لم اسمح بنشره أصلاً، على مسؤوليّته. المقال منشورٌ ضمن كتاب عن تجربة بركات، على شاكلة حوار مطوّل أجراه الشاعر والروائي العراقي وليد هرمز، صدر في 182 صفحة من القطع المتوسط عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، تحت عنوان “سليم بركات: لوعة كالرياضيات وحنين كالهندسة”. قدّم للكتاب الصديق الناقد سامي داوود. ونشرت “القدس العربي” ذلك المقال الذي أثار جدلاً، وغضباً وحنقاً وشتماً طاول بركات، وصل حدّ التنكيل به وبأخلاقه وطريقته في الكتابة. سبب ذلك، أن بركات أفش سرّاً أودعه صديقه محمود درويش لديه، على أنه أبٌ لطفلة من امرأة متزوجة. ما اعتبره الكثير من الشعراء والنقّاد العرب، تشويهاً لصورة وسمعة وتجربة درويش. وجنحت حالة الغضب تلك بالبعض إلى أن يشطح خيالهم الثائر والحانق على اعتبار ما كشفه بركات، ليس تطاولاً على درويش وحسب، بل على فلسطين والشعب والقضيّة الفلسطينيّة أيضاً! البعض قال: من الجائز أن يكون درويش اقترف تلك الفعلة. ومن غير الجائز أن يفشي بها صديقه بركات!
والحال أنه حتّى لو قال بركات ما قاله، على حياة درويش، لاندلعت الحرب بين الصديقين، ولانقسم المتفرّجون إلى فسطاطين؛ كل فسطاط يدافع عن “وثنه”! ولكانت المشانق والمقاصل ومنصّات الإعدام تُنصبُ له، ويُقال في حقّه، “ما لم يقله مالكٌ في الخمر”، كما جرى ويجري لآن، من شتم وسبّ ولعن وطعن.
وإذا قال بركات ما قاله في حقّ درويش، بعد مماتهِ، (كما جرت العادة في كشف أسرار المبدعين) أيضاً لن يسلم من سلاطة الألسن ومباردها. إذن، كان عليه أن “يخرس خالص” ويكفَّ عن نفسه كل هذا البلاء وشرّ الألسن!
لا اعتبرُ ما كشفه سليم بركات عن محمود درويش، من محاسن وفضائل الخلق، ولا أميل إلى اعتبار ذلك خيانة الصديق لصديقه، ولا هي جرأة الصحافي أو الشاعر،أو رغبة لحوحة من بركات في تحطيم “وثن” صديقه، ليحلَّ محّله، أو الوقوف على ركامه. فمن يحطّم صديقهُ، يحطّم نفسه. ما قاله بركات، أُدرجهُ دون تحفّظ أو تردد في خانة مديح الابن لأبيه. وأسطرُ المقال تنضح بذلك. الابن الذي اجتهد الأب حتّى لا يتأثّر بابنه. هل يجوز أن يتجنّب الأبُ التأثّر بابنه؟ نعم، يجوز ذلك. فكما حاول بركات جاهداً عدم التأثّر بالأب؛ درويش، كذلك الأخير فعل ذلك. وقالها بنفسه، قبل أن يقلها بركات.
كتب َدرويش قصيدة ًوأهداها إلى بركات “ليس للكردي إلاّ الريح”، والأخير لم يكتب. ربما كان ذلك غروراً. ثقةُ الشاعر بنفسه، واغتراره بأناه، ليستا عيباً، يمكن تسجيلهما على بركات أو غيره. الشاعر بدون “أنا”؛ صدى يتبع أصوات الآخرين، وسرعان ما يتبدد.
الحقّ أنه ليس بركات من وضع صديقه في خانة الاتهام، بل الذين نصّبوا أنفسهم محامي دفاع، وترافعوا عنه، عبر النفي والتنكيل ببركات، بتلك الطريقة الأقرب إلى الشعبويّة الغاضبة الحانقة والناقمة، منها إلى التأنّي والنقد وتفنيد ما جاء على لسان بركات في مقاله ذاك بالحجج الدامغة. وعليه، العيب ليس فيما اقترفه درويش (هكذا هم البشر. والنفس أمّارة بالخير والحبّ والمتعة والتعلّق بالحياة، كما هي أمّارة ٌبالسوء أيضاً)، والعيب ليس في ما كشفه بركات. العيب في تلك الطريقة الهستيريّة الهزليّة التي جعلت درويش وثناً لدى البعض، وفرضهم العصمة عليه، أو التماس الأعذار له، والدفاع عنه بشكل أقرب إلى الهزل منه إلى النقد.
بتلك الطريقة، يريدون أن تتحوّل الثقافة العربيّة والأدب العربي إلى معبد، يشغل فيه النقّاد وظيفة الكهنة والسدنة الذين يجعلون من التجارب والقامات الإبداعيّة أوثاناً وأصناماً، يدافعون بشراسة عنها، ظالمة كانت أو مظلومة!
هكذا يحوّلون التجارب الأدبيّة الهامّة إلى رموز وطنيّة وقوميّة، فوق الشكّ والشبهات، ممنوع الاقتراب منها. من ثم يبدي النقّاد والكتّاب والأدباء امتعاضهم وتذمّرهم من الخلل الحاصل في حركة الثقافة والأدب والنقد في العالم العربي!
لا أعرفُ؛ ما الذي دفع ناقداً مرموقاً وحصيفاً ورصيناً ومحترماً مشهوداً له، من وزن فخري صالح، إلى فتح مشتمة على صفحته الفيسبوكيّة بحقّ بركات، وفي ظنّهِ أنه يردُّ عليه، ويدافع عن درويش ويردُّ عنه “الشبهات والأقاويل”؟! حيث وصف مقال بركات بأنه “رغبة في إلحاق الأذى بالشاعر الراحل، وغيرة مستحكمة وضغينة مضمرة، وادعاء بأهمية شعرية توازي أهمية درويش، في مقالة فيها الكثير من البلاغة الممجوجة والتقعر والإغراب اللغوي، مما يثقل على النفس ويشعر القارئ بالملل والرغبة في الترك وعدم المتابعة. وما يدعيه بشأن السر، الذي استودعه إياه درويش قبل اثنين وعشرين عاماً، بأن له ابنة غير شرعية من علاقة عابرة مع امرأة متزوجة، سقطة أخلاقية غير مغتفرة وإثارة تافهة لا تليق بشاعر يدعي أنه كبير، والأفظع من ذلك أنه يعترف أن درويش عامله كابنٍ، بل ندٍّ، له. فأن يذيع الصديق سر صديقه، الذي رحل عن عالمنا، وليس في مقدوره أن يرد أو يصحح أو ينكر، يدل على انحدار القائل إلى حضيض أخلاقي تأباه الصداقة الرفيعة والمناقبية الأخلاقية. لا ندري صحة ما رواه سليم بركات عن درويش لأن الرجل لم يعد بيننا ليعترف أو ينكر صحة ما رواه لـ”صديقه سليم بركات!”. لكن ما ندريه أن هذه المقالة، التي يدعي بركات أنه كتبها عام 2012، ثم نشرها عام 2020، متأخرا ًكل هذه السنوات (!)، سقطةٌ كنا نربأ بكاتب وشاعر نحبه ونقدره أن ينجرَّ إليها”.
ألحق صالح منشوره الأوّل، بمنشور آخر، عنونه بـ”توضيح بخصوص سليم بركات ومحمود درويش” قال فيه: “لم أقصد مما كتبت في البوست السابق المسَّ بمكانة سليم بركات الشعرية أوالروائية. لم أطلق عليه حكماً نقدياً، فهذا يحتاج عملاً آخر، كما أساء فهمي بعض الأصدقاء والكتاب. ما آلمني هو بوحه بسر صديقه ورفيقه القديم في مجلة الكرمل، وقوله كلاماً يضر بسمعة محمود درويش ويتهمه في مناقبيته الأخلاقية. على من استشاطوا غضباً في الدفاع عن سليم أن يعيدوا قراءة مقاله بعين موضوعية. نحن لا نقدس درويش فهو بشر، ولكن الأخلاق تعلمنا أنه ليس من الأخلاق أن نشوه صورة أصدقائنا الموتى لأنهم لايستطيعون الرد.”
والحقّ أن التوضيح أتى أقل ّحدّة في حقّ بركات، وكان موجّها ًإلى من انتقد أسلوب صالح في بوسته الأوّل. والسؤال: كل الأوصاف الواردة في المنشور الأوّل، لم تكن إساءة موجّهة إلى بركات. ووضع علامة الإعجاب على الشتائم الواردة في التعليقات، لم يكن بهدف الإساءة. والحال هذه، ما تعريف الإساءة إذن؟!
جدير بالذكر أنه من التعليقات الهامّة والمختلفة الواردة على بوست فخري صالح، أعجبني تعليق الأستاذ الناقد الفلسطيني الهام والكبير عادل الأسطة، بقوله: (المشكلة ان هناك آخرين سمعوا القصة من محمود درويش الذي كتب قائلاً: “سألت مها أمها عن أبيها/ فقالت أمها: أبوك انتهى”. ولكن لدرويش قصيدة عنوانها “رأيت الوداع الأخير” منها: ستروى أساطير عني/ ستزعم أكثر من فتاة أني تزوجتها”.أنا أعرف القصة من طرف آخر غير سليم بركات، ومنذ أربع خمس سنوات). وقال الأُسطة أيضاً: (المشكلة هي أن محمود درويش أخبر آخرين غير سليم بركات. هناك من سمع القصة من محمود درويش وقد يكون قالها فشخرة).
بالعودة إلى المقال موضوع الجدل، نجده من العنوان “محمود درويش وأنا”، أن بركات قدَّم اسم صديقه على نفسه. وكان بإمكانه القول: “أنا ومحمود درويش”. لا أقول أن بركات في منتهى التواضع. هو كغيره من الشعراء، لديه أناه التي يعتدُّ بها ويشتغل عليها، ولا يسمح لأحد الاقتراب منها. لو تناوله رسّام كاريكاتور في صورة ناقدة ساخرة، ربما حمل بركات سكّيناً وهاجمه وأراد قتله. أقول: ربما، ولا أجزم. من لغتهِ وطبائعه، ورغبته في الاختلاف نصّاً وطباعاً، وهذاحقّه، يظهر مدى النزق والغرور الذي يعتمل كينونته. ومع الغرور الموجود لدى بركات الذي يتجاوز غرور محمود درويش، حسب اعتقادي، المقالُ ينضح بالرثاء واحترام الصديق للصديق، والشعور بالامتنان والعرفان له، والحزن على فراقه. إذ يتحدّث عن أوّل لقاء جمعهما سنة 1973 في منزل أدونيس، والصورة (بالأبيض والأسود) التي جمعتهما، ويد درويش (الأطول) على كتف (الأقصر) بركات، وكيف نشأت الصداقة، واستمرّت في بيروت، وقبرص، والسويد، حتى قبل سفره إلى أمريكا للعلاج، وكانت الصداقة بينهما “نَحْتاً نافراً من قلبٍ على قلبٍ” على حد وصف بركات. سرد الأخير شذرات طفيفة من تلك العلاقة التي دامت وانتعشت طيلة عقود في ذلك المقال.
يخامرني ظنّ، (وليس بعد الظنّ إثم) إن بعض الذين هاجموا بركات ونكّلوا به، والذين دافعوا عنه أيضاً، لهم سقطاتهم التي ربما تشبه أو لا تشبه سقطة محمود درويش، أو سقطة بركات (الإفشاء). كذلك المدافعون عن بركات، ينسحب عليهم الأمر. الكل ّدافع عن وثنه الذي يحرص على ألاّ تصاب صورته بخدش في مخيّلته. هذه الأسطر ليست دفاعاً عن بركات. لأنه فيه ما فيه من السقطات أيضاً. هذه الأسطر في نقد الدفاع عن درويش بتلك الطريقة المثيرة للأسف، أكثر من إثارتها الذعر والرعب، إذا حاول أحدهم الاقتراب من وثن الآخرين.
لا أعتقد أن تلك المقالة كان الهدف منها التسويق للكتاب الصادر عن المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر، كما فسّرها كُثُر. وأظنّ أنه بعد مقالة بركات، لن يشي شاعر أو شاعرة بسرّ، كسرّ محمود درويش، لصديقٍ شاعر أو شاعرة. لأن أغلب الشعراء ثرثارون. ستموت الأسرار مع أصحابها.
لم يشفع لسليم بركات حفظه السرّ، ثلاثة عقود (1990-2020). لم تشفع له صداقته العميقة مع درويش. لم يشفع له رفده المكتبة العربية بما يزيد عن 50 كتاباً في الرواية والشعر. طبعاً، دائماً هناك فقهاء يفتون بالتماس الأعذار لمحمود درويش “فعلته” تلك، ويفتون بتقبيح وتشنيع وتكذيب وتخوين من يبوح بأسرارهم.
أسرارُ الشعراء الكبار في العالم العربي، من أسرار الشعوب والأوطان، وربما أعظم وأكبرُ شأناً! لبركات أيضاً سقطاته ونكباته وهفواته وأسراره التي تكتّم عليها، وسيفشيها أصدقاؤه، بعد موته. ولحين حدوث ذلك، هيا تعالوا ننصب لبركات منصّة إعدام، ونشنقه من لسانه وخصيتيه، شنقاً مبيناً. تعالو انضع “حنظلة” أيضا ًعلى منصّة الإعدام، لأنه قال ذات يوم: “محمود خيبتنا الأخيرة”.
ختام القول: ربما يكون ما جرى من أخذ وردّ على خلفيّة مقال سليم بركات، رفع العصمة والحصانة ليست عن تجربة محمود درويش، بل عن تجربة بركات نفسه، والكثير من القامات والعلامات الهامة والفارقة في الثقافة العربيّة، ومراجعتها بالنقد الموضوعي الحيادي. آن للنقّاد التوقّف عن لعب دور الكهنة وحرّاس هياكل المبدعين. آن لهذه الوثنية والسلفيّة النقديّة والثقافيّة أن تنتهي.