تحقيق لمنصة أوزون أُنجز بدعم من شبكة أريچ للصحافة الاستقصائية
أصوات آلات ثقيلة لا تتوقف، ذات ضجيج لا يُحتمل، سحب كثيفة من الأتربة تغطي النوافذ والأسطح بطبقة رمادية خانقة. أجواء يعيشها سكان منطقة “الحضرة الجديدة” في محافظة الإسكندرية؛ بسبب الانبعاثات المُلوِّثة للهواء، الصادرة عن مصنع الإسكندرية لإنتاج الحراريات، ما يمثل خطورة بيئية تهدد صحة السكان في المناطق المحيطة بالمصنع، الذي يتوسط كتلة سكانية كبيرة.
داخل أحد محال البقالة المقابلة لسور المصنع مباشرة، يحاول الثلاثيني محمد جمال، إزاحة الأتربة المتراكمة على بضاعته، في مشهد يتكرر طوال اليوم، وفق روايته.
ضيق الحال وغلاء أسعار الوحدات السكنية، دفعا جمال الى العيش والعمل في الحضرة الجديدة منذ أعوام عدة؛ حيث تزوّج وأنجب طفلين. يصف حاله بالقول: “الظروف حكمت علينا بكده، مكنش معايا فلوس أقدر أشتري بيها شقة في مكان تاني أحسن”.
مصنع الإسكندرية لإنتاج الحراريات، هو أحد مصانع شركة الإسكندرية للحراريات، التابعة للشركة القابضة للصناعات المعدنية بمحافظة الإسكندرية. أُنشئت شركة الإسكندرية عام 1938، ويقع مقرها الرئيسي في “النزهة، البر القبلي، الإسكندرية”، وتعود ملكيتها الى الشركة القابضة بنسبة 99.80 في المئة.
أمراض صدريّة بين سكان المنطقة
أمراض صدرية كثيرة تعاني منها غالبية سكان المنطقة المحيطة بالمصنع، من بينهم ماجدة إبراهيم الدمراني(47 عاماً)، التي تعيش هناك منذ أن تزوجت في سن الـ 17.
تُعالَج ماجدة من حساسية الصدر منذ أكثر من ستة أعوام؛ أخبرها الأطباء أن السبب الرئيسي لمرضها هو كثرة تعرضها للأتربة. لم يقتصر المرض عليها وحدها؛ بل تعاني ابنتها أيضاً من حساسية الصدر، بالإضافة إلى شقيقة زوجها وأبناء شقيق زوجها.
تقول ماجدة إنها تضطر إلى ارتداء كمامة طبية أثناء تنظيف المنزل، حتى لا تتعرض لمضاعفات بسبب مرضها؛ فالأتربة الناتجة من المصنع تتسلّل إلى كل ركن من أركان البيت، على رغم إغلاق نوافذه طيلة الوقت.
تجاوز الحدود المسموحة
في أحدث تقرير صادر عن وزارة البيئة لعام 2022، يوضح نسبة تلوّث الهواء المرصودة من خلال الشبكة القومية لرصد ملوثات الهواء المحيط؛ تبيّن أن أكثر من محطة رصد في عدد من المحافظات، سجّلت مستويات مرتفعة من التلوث، تجاوزت الحدود المسموحة؛ من بينها محطتا رصد في محافظة الإسكندرية، إحداهما في مدينة برج العرب، والأخرى في منطقة بشائر الخير، وهي الأقرب الى مصنع الإسكندرية للحراريات، إذ تبعد عنه بنحو سبعة كيلومترات فقط.
في تقرير هذه المحطة، تبين أن تركيزات الجسيمات الصلبة، ذات القطر أقل من 10 ميكرومترات (PM10)، تجاوزت الحدود القانونية المسموح بها في المناطق المحيطة بمحطة الرصد.
أما عن نسبة الجسيمات الصلبة ذات القطر أقل من 2.5 ميكرومتر، فاقتربت من الحد الأعلى المسموح به قانوناً في هذه المحطة (50 ميكروغراماً/متر مكعب)، فبلغت 41 ميكروغراماً/متر مكعب، كما رصدتها محطة بشائر الخير.
حياة ضائعة
في الطابق السادس، داخل بناية مقابلة للمصنع، يجلس محمد رمضان، وحوله أبناؤه الأربعة، يشكو حجم الضرر الواقع عليه بسبب المصنع؛ فأطفاله يتناوبون على الأطباء يوماً بعد آخر، ما يزيد أعباء مالية لا يستطيع تحمّلها. وفي الوقت نفسه، يظل غير قادر على تغيير محل سكنه، فالأمر أيضاً يحتاج إلى مزيد من المال.
صراع نفسي كبير يعيشه محمد، منذ بضع سنوات؛ حين توفيت والدته متأثرة بأمراض صدرية أصابتها بسبب الأتربة، وفق روايته. لفظت أنفاسها الأخيرة بين يديه؛ مشهد محفور في ذاكرته، يخشى تكراره مع أيّ من أطفاله.
وفاة والدة محمد لم تكن الأولى أو الأخيرة بين سكان المنطقة، بحسب ماجدة الدمراني، التي تتذكر جيداً أزمة صدرية أودت بحياة ابنة جارتها قبل بضع سنوات؛ تلك الحادثة دفعت الأهالي الى تقديم شكاوى عدة لنقل المصنع، ولكن من دون جدوى.
باب شرق وارتفاع نسبة وفيات الأطفال
وفقاً للتقسيم الإداري لمحافظة الإسكندرية، تقع منطقتا الحضرة والإبراهيمية (المنطقتان الأكثر تضرراً من المصنع والأقرب إليه) في نطاق قسم باب شرق، التابع لحي وسط؛ ويبلغ عدد سكان باب شرق وحده نصف تعداد الحي بالكامل تقريباً.
وبحسب بيانات صادرة عن المجلس القومي للسكان، فإن حي وسط، هو الأعلى نسبة بين أحياء المحافظة بالكامل، في وفيات الأطفال دون الخامسة، وأتى ثانياً في معدلات وفيات الرضع، بعد حي الجمرك. كما سجّل حي وسط أعلى معدلات وفيات بشكل عام، على مستوى المحافظة.
وبحسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، فإن قسم باب شرق وحده، الأعلى معدلاً في الوفيات بحي وسط، وأتى ثانياً بعد قسم سيدي جابر، في معدل الوفيات على مستوى أقسام المحافظة بالكامل.
أما عن أسباب الوفاة، وفق الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، فقد شكلت أمراض الجهاز التنفسي ثاني أكثر أسباب الوفاة بمحافظة الإسكندرية، التي جاءت ثانية بعد القاهرة وقبل الجيزة، كأعلى معدل للوفيات بسبب أمراض الجهاز التنفسي على مستوى الجمهورية.
أضرار داخليّة وإجراءات قانونيّة
لا تقتصر الأضرار الصحية الناجمة عن مصنع الإسكندرية للحراريات على سكان المنطقة المحيطة فحسب؛ فهي تطاول أيضاً -بطبيعة الحال- العاملين به، بحسب شهادة مسؤول في المصنع، فضلنا عدم ذكر اسمه.
وأشار المسؤول إلى أن التعرض للأتربة الناعمة واستنشاقها أحد أكبر المخاطر التي تواجه العاملين بالمصنع، وتؤدي إلى إصابة عدد كبير منهم بمرض التحجر الرئوي، ثمّ يُحالون إلى المعاش بسبب مرضهم؛ مؤكداً أن الإصابة بهذا المرض تطاول جميع العاملين، حتى أصحاب الأعمال المكتبية.
على مدار السنوات الماضية، أخفقت محاولات جهاز شؤون البيئة بمحافظة الإسكندرية في إيجاد حل لهذه الأزمة، وفق أحد مسؤولي الجهاز، الذي أشار إلى قيام الجهاز بجولات تفتيشية عدة على المصنع، واتخاذ إجراءات قانونية ضده بسبب وجود مخالفات بيئية عدة؛ لكن من دون جدوى.
وأوضح المسؤول -الذي فضلنا عدم ذكر اسمه- أن هيئة التنمية الصناعية هي الجهة الوحيدة التي لديها صلاحية قانونية لاتخاذ إجراءات ضد المنشآت الصناعية، سواء بالإغلاق أو بغير ذلك من القرارات، وفقاً لقانون التنمية الصناعية الصادر عام 2018.
حاولنا التواصل مع وزارة البيئة لمعرفة موقفها من المصنع، وما إذا كانت اتخذت إجراءات ضده أو بصدد ذلك؛ إلا أن أحداً لم يرد علينا، حتى تاريخ نشر التحقيق.
أزمة مستمرة
بين التعنّت والإجراءات القانونية غير المُجدية؛ تستمر محاولات سكان المناطق المحيطة بمصنع الإسكندرية لإنتاج الحراريات، لحماية أنفسهم من انبعاثات المصنع؛ فيلجأون إلى إغلاق نوافذ منازلهم وأبوابها طوال اليوم، لكن على رغم ذلك تتسلّل جزيئات الغبار إلى كل زاوية من بيوتهم؛ حتى أصبح مجرد يوم هادئ بلا ضجيج أو أتربة حلماً بعيد المنال.