لا! لم يُسقط بن لادن البرجين، ولا أرسل طائرةً لضرب البنتاغون. ادعاؤه “غزوتي واشنطن ونيويورك” لا وزن له، ولا “فتواه” بوجوبِ قتل الأميركين حيثما كانوا. من فعلها؟: “اليهود”. لِمَ إذاً لم يذهبوا إلى أعمالهم في البرجين ذلك اليوم؟ قائمة الضحايا المنشورة التي تضم مئات الأسماء اليهودية، في مدينة فيها أكبر تجمع لليهود خارج إسرائيل، كما ادعاء بن لادن “الغزوتين”، لا محل لها من الإعراب. صدام حسين غزا الكويت، صحيح، لكن فقط بعد أن غررت به السفيرة الأميركية، جزار بغداد لم يكن سوى ضحيةٍ ساذجة. سقوط خلافة آل عثمان كان هو الآخر مؤامرة. غير مهم أن السلطنة العثمانية كانت رجل أوروبا المريض لما زاد عن قرنين قبل نهايتها، الغرب “الشرير” هو من أجهز على المؤسسة العتيدة (تلك التي لم يجمع المسلمون على شاغلها منذ الخليفة الثاني). الربيع العربي كله لم يكن سوى مؤامرةٍ خبيثة تسعى إلى إسقاط بلادنا. واقعنا قبل 2011، الفساد الفاجر، الجمود السياسي، القمع، حكم القذافي الكارثي، بشاعات الأجهزة الأمنية في سوريا وغيرها، كل هذا وغيره لا يعني شيئاً، بل ذِكرك له قد يعني أنك إما شريكٌ في التآمر أو ساذج مُغرر به.
المؤامراتية (conspiracism) لا هي جديدة ولا هي قصر على منطقتنا. لم يثبت يوماً، مثلاً، أن الامبراطور الروماني نيرون هو من أحرق عاصمته روما، لكن غرابة أطواره جعلته متهماً. اليهود في أوروبا المسيحية في العصور الوسطى اتُهموا جماعياً بجرائم لم يثبت أبداً تورطهم فيها. في القرن الثامن عشر، ولدت جماعة “المُتنورين” (Illuminati) السرية في بافاريا (جنوب ألمانيا المعاصرة)، سرعان ما انطفأ “المتنورون” كجماعة، لكن أسطورة مؤامراتهم الشيطانية بقيت، بل كانت التفسير البديهي لكثير ٍمن الأحداث في نظر البعض لقرونٍ بعد اختفائها، بما في ذلك الثورة الفرنسية والحربين العالميتين وظهور الأمم المتحدة. في ستينات القرن التاسع عشر، نشر المحامي والناشط السياسي الفرنسي موريس جولي نصاً عنونه “حوارات في الجحيم”، تخيل فيه نقاشات في العالم الآخر بين الفيلسوف الفرنسي مونتيسكيو والمفكر السياسي الإيطالي ماكيافيللي، الأخير مثّل (تلميحاً) نابليون الثالث دكتاتور فرنسا آنذاك، بصوت ماكيافيللي بيّن المؤلف كيف توضع خططٌ لتدمير الحريات والديموقراطية في أوروبا، تنتصر في النهاية، لتترك مونتيسكيو حسيراً بائساً.
بعد نشر نص جولي (الذي أدى إلى سجنه) بعامين تلقفه روائي ألمانيٌ مغمور: هيرمان جوايديش (الذي كان يكتب تحت اسم إنكليزي مستعار: سير جون ريتكليف) ونقل منه صفحات كاملة في رواية له يجتمع في أحد فصولها “شيوخ” قبائل بني إسرائيل الإثنا عشر في مقبرة كل مئة عام، ليتابعوا خططهم لدمار العالم، الخطط التي نسبها جولي لنابليون الثالث على لسان ماكيافيللي. ثم قبل نهاية القرن انتحل نص جوايديش (المنحول أصلاً) عملاء للمخابرات الروسية القيصرية لينتجوا بروتوكلات حكماء صهيون الشهيرة (المقدسة عند كثيرين بيننا): المعنى الضمني أن كل معادٍ للحكم القيصري الروسي، إن لم يكن يهودياً، هو إما تابع أو عميل لليهود “الأشرار”. تاريخ الاختراع والنقل هذا يسهل الوصول إليه لمن أراد، لكن لِمَ تريدُ معرفةً تحرمك راحة اليقين بما تظن أنك تعرف؟
الحقائق الظاهرة، لا تقدم أساساً للـ “مؤامراتية”، بل على العكس. في قلب المؤامرة عادة قوة شيطانية، جوهرٌ من الشر المطلق لا تفسير لأفعاله سوى الرغبة في التدمير والخراب. لا منطق ظاهر، لا مصالح متبدلة ضرراً ونفعاً، عداءً وتحالفاً كما هي طبيعة السياسة، فقط سوادٌ شيطاني خالص، فإن ظهر دليلٌ كان في ذلك الإثبات، وإن عجزت عن رؤيته فذلك لأنك قد عميت عن شيطانية هذا العدو الخفي؛ إخفاء الدليلٌ أكبر دليل. فقط في ظل هذا المنطق يمكن لثلاثة مليون يهودي يسكنون نيويورك، رجالاً ونساءً، شيوخاً وأطفالاً أن يشتركوا جميعاً في مؤامرة واحدة (تتسرب لاحقاً ليخبرنا بها المؤامراتي الألمعي).
المؤامراتية إذ ليست جديدةً ولا غريبة، لكن لنا أن ندّعي أنها أكثر انتشاراً في بلادنا السعيدة وأضرابها من الشعوب التي تسود العالم، حيث تكاد تكون أحياناً خطاباً رسمياً. مثلاً: صربٌ كثر، بعد مآسي البوسنة والهرسك وكوسوفو، لم يروا في محاكمة سلوبودان ميلوسوفيش وجماعته إلا مؤامرة على الشعب الصربي، لا مكان هنا للجانب الآخر مما حدث، ناهيك بالحقيقة.
الحكومة الإسلامية في إيران لا تملّ الحديثَ عن المؤامرات التي يحيكها ضدها “الاستكبار العالمي” الذي يضم عادةً “الشيطان الأكبر”: الولايات المتحدة وتلك الدولة التي مهما غاب مجدها السالف تبقى قلب كل مؤامرة: بريطانيا. صديقة أميريكية، إيرانية الأصل كانت تصف أباها الراحل، المهندس والمعارض لدولة ولاية الفقيه، الذي مات مواطناً أميركياً، “أبا دسيسة”، كان الرجل يرى مؤامرةً وراء كل شيء، بما في ذلك سقوط حكم الشاه وصعود الخميني. المؤامراتية توحدنا!
لكن لِمَ المؤامراتية؟ التفسيرات المعيارية السائدة تتحدث عن نزعةٍ لا واعية عندنا للبحث عن التسلسل المنطقي في ما يفتقد الترابط، ينزعُ المخ البشري لاستكمال المعلومات، مثلاً إن رأيت مثلثاً أو دائرة غير مكتملين فمن المتوقع أن تراهما كأنهما كاملين، كذلك إن سمعت جُملاً أو كلماتٍ غير كاملة، ستستكمل ما تظنه ناقصاً. في أدنى درجاتها هكذا تعمل المؤامراتية. وكلما ازدادت بساطة التفكير ازدادت الحاجة إلى حلٍ بسيط واضح للفوضى أو اللامنطق الظاهرين، لـ “خطةٍ” كبرى تحملُ كل الإجابات. على أن الاستعدادَ الطبيعي لاستكمال الأشكال الهندسية أمر وانتشار المؤامراتية الواسع في ثقافات تكره أشد ما تكره مساءلة النفس والاعتراف بالخطأ، مع نزعةٍ لرؤية حدية، لا ترى إلا الأبيض والأسود، أمرٌ آخر. المؤامراتية تُذكرنا، وإن في صيغةٍ جمعية، بما يعرّفه علماء النفس بـ”اضطراب الشخصية النرجسي”، إذ يرفض النرجسي العاشق ذاته المتضخمة المسؤولية عن أخطائه ويزعجه بشدة تحمل اللوم، الذي يجد طريقة دوماً لتحميله للآخرين، واصلاً إلى عجزٍ عن التعلم (أنى لذلك بالحدوث لمن لا يعترف بأخطائه؟)، و من ثم يميل لما عرّف به أينشتاين “الغباء”: تكرار التجربة ذاتها بالعناصر ذاتها وتوقُّع نتيجة مختلفة.
أن ترى، مثلاً، بديلاً عن فشله الكامل، في كل الكوارث التي جرّها الإسلام السياسي السني علينا وعلى نفسه في السنوات السبع الماضية “مؤامرة على الإسلام”، يريحك من هم البحث في ألف دليل ودليل عن سطحية هذا التيار وقصر نظره، ناهيك بيقينه الساذج المستعدٌ للعنف. بالمنطق ذاته، نرى أن كل ما شهدته المنطقة في العقود الماضية (مثلاً لا حصراً: غرو الكويت، غزو العراق، اضطرابات واغتيالات لبنان وصولاً للربيع العربي) مؤامرة واحدة متواصلة على رغم اختلاف السياقات، بما يعني أن كل فشل كارثي عرفه حكامنا لا محل له من الإعراب، أو على الأكثر ذو دور ثانوي. هكذا لا يرى المؤامراتي داعياً لبحث كيف قاد حكم البعث في سوريا والعراق، مثلاً، البلدين إلى ما هم فيه اليوم، بما في ذلك الإصرار على الإبقاء على وحدة هذه الكيانات الهشة، وليدة الحرب العالمية الأولى، بالحديد والنار بدلاً عن بناء عقدٍ اجتماعي ومشروعٍ وطني جامعين. دعك من تهافت الصيغة التي خلقتها عقودٌ من السلطوية الدموية وابحث عمن أسقطها، تماماً كمن يلوم الجرثومة على قتل هزيلٍ ضعيف جائع. ترى من جوّع الفقيد وأضعفه؟ من نُسائِل؟ مضحك- مبكٍ في خطاب المؤامراتية هذا الاستغراب الضمني لتدخل الدول في شؤون بعضها بعضاً، عملها لأجل مصلحتها بكلٍ وسيلة كانت، كأن السياسة ساحة أخلاق وأدب واستئذان قبل التدخل أو الغزو، أو براح للضعيف كي يستريح. مرة أخرى: أنلوم الجرثومة أم من أضعف الميت وأنهكه؟
لكن بدلاً عن الحديث عن العجز أمام الغير، ومن ثم أسبابه والمسؤولين عنه، يحال الجرمُ إلى جوهرٍ شريرٍ لا يخطئ ولا يناقض نفسه، وحش تكادُ تستحيل هزيمته. لكن، مثلاً، إن كان الشيطان الأكبر، الولايات المتحدة، هي من أرادت شاه إيران إلى الأبد فلِمَ سقط؟ وإن كانت هي من رغب في سقوطه لِمَ استبدلته بعدوٍ كالجمهورية الإسلامية؟ وإن كان غزو العراق جزءاً من خطة جهنمية كبرى، لماذا انتهى هذه البلد لقمةً سائغة لإيران؟ لكن العمى هنا يتخطى أخطاء التقدير إلى العجز عن رؤية تناقضات المؤسسات. مثلاً لا حصراً وزارة الدفاع الأميركية كانت ضد ضرب إيران عسكرياً على طول الخط مهما تباينت مواقف الرؤساء من هذا الأمر. مؤخراً كان وضحاً البون الشاسع بين موقف الرئيس الأميركي تجاه ملف قطر وموقف وزارتي الدفاع والخارجية. في الربيع العربي رأينا تضارب السياسة الأميركية تجاه مبارك (تصريحات هيلاري كلينتون عن “قوة” حكمه قبل سقوطه بأيام)، كذلك مواقفهم المتباينة تجاه حكم جماعة “الإخوان المسلمين” في مصر: وقت الإطاحة بهم، وفق مقالات منشورة في صحف أميركية، كان وزير الدفاع الأميركي آنذاك، تشاك هيغل، على اتصالٍ هاتفي بنظيره المصري بصفة دورية. أما البيت الأبيض والخارجية وأعضاء من الكونغرس، فنظروا بريبة إلى ما فعله الجيش المصري، إلى حد المطالبة بوقف كل الدعم العسكري لمصر عقاباً على الإطاحة بحكم الإخوان، مرة أخرى وفق ما هو منشور.
في سوريا، أياً كانت أهداف السياسة الأميركية فمن المستحيل أنها رمت لفتح البلاد لتقاسم النفوذ بين روسيا وإيران. ولا أن إسرائيل استهدفت خلق فوضى على حدودها تستبدل بها نظاماً (ممانعا أبياً طبعاً) لم يطلق عليها رصاصة منذ السبعينات. لكن هذه الحقائق البسيطة الواضحة، من جهة، تنزل “الشرير” إلى منزلة بشرٍ يصيبون ويخطئون، خطط أم لم يخطط، ومن ثم تنقل اللوم والمسؤولية إلى الضحية المزعومة، في الحد الأدنى على قصر نظره وفي الحد الأقصى على غبائه، ومن جهة أخرى تُسائل مكانة من يدعي البطولة بالوقوف في وجه هذه المؤامرات المزعومة التي تبدو غير قابلةٍ للهزيمة.
يمكننا التماس العذر لمن نشأ تحت حكم الصوت الواحد إن عجز عن فهم تعددية الآخر، وسائل إعلامٍ ومؤسساتٍ، وأن هذه التعددية هي ما يحمي استقرار الدول، لا العكس. أحد الردود المعتادة على أخبار تبثها وسائل إعلام غربية هو دورها، أي وسائل الإعلام هذه، في “المؤامرة”. لكن سواء نشرت “بي بي سي” أو غيرها، أو لم تنشر، أنباءً عن مذابح وبيوت تدك في سوريا، أو عن بشاعات “داعش”، أو عن الاتهامات والتقارير المتكررة عن الإخفاء القسري والتعذيب في مصر، هذه الأخبار وأشباهها متداولة معروفة على صفحات الإنترنت بشكل يصعب التحكم فيه، متواترة متطابقة أحياناً من مصادر متباينة. لكن بمنطق المؤامرة، الحرفية والاستقلالية التي تعرفها الصحافة الغربية، وإن بدرجات متفاوتة، تلك التي أسقطت حكومات ورؤساء، ليست سوى غطاء المؤامرة، ولأن الإعلام الشرير هذا متآمر تنتقل المسألة من الواقع الذي نعرف ونعيش إلى الصورة التي يقدمها المتآمر، دعك من الحقيقة واعمل على الصورة! بهذا الغوص في إنكار الواقع تسلب أنظمة ما بعد الربيع العربي التي تروج للمؤامراتية وسائل إعلامها صدقيتها المحدودة أصلاً، دافعة محكوميها في النهاية إلى مصادر معلوماتٍ أخرى، نتاج طبيعي لعقليةٍ عاجزة، سياسياً يحكمها إلى جانب المؤامراتية، صدقاً أو ادعاءً، إصرارٌ على تجاهل الحاجة إلى حد أدنى من الشرعية: عن قبول المحكومين واقتناعهم مما لا تستغني عنه حتى أشد الأنظمة سلطويةً، ناهيك بأننا، تكنولوجياً وإعلامياً خصوصاً، في عام 2018 لا عام 1958، إذ يبدو أن عقلياتٍ حاكمة ما زالت تعيش. واصل الكذب على نفسك وعلى غيرك، تجاهل حاجتك للشرعية، عش في زمن آخر، تُسلم جمهورك لغيرك؛ الوصفة هذه تستخدم اليوم للتغطية على عنصر أساس في ولادة الربيع العربي: الإفراط في القمع. دعك من الديموقراطية والحريات، حتى بمعايير قرون مضت، المؤامرة تغطي على عجز ٍ حتى عن فهم شعرة معاوية ناهيك بالحفاظ عليها، أو أن سيف المعز لا يحكم دون ذهبه. سنحيا بالمؤامرات حتى تلقينا إلى مجهول جديد، وساعتها سنعرف، ربما، من أين يأتي الشرُ حقاً، تآمراً أو غباءً. [video_player link=””][/video_player]
سنحيا بالمؤامرات
الوصفة هذه تستخدم اليوم للتغطية على عنصر أساس في ولادة الربيع العربي: الإفراط في القمع. دعك من الديموقراطية والحريات، حتى بمعايير قرون مضت، المؤامرة تغطي على عجز ٍ حتى عن فهم شعرة معاوية ناهيك بالحفاظ عليها، أو أن سيف المعز لا يحكم دون ذهبه. سنحيا بالمؤامرات حتى تلقينا إلى مجهول جديد، وساعتها سنعرف، ربما، من أين يأتي الشرُ حقاً، تآمراً أو غباءً.
أبو ظبي وقطر: متنافسان في خدمة الإمبراطوريّة الأمريكيّة
هل يمكن استعادة الأموال السوريّة التي نهبها رجال الأسد؟
فرح أهل غزة المؤقّت والبحث عما تبقّى من ذاتهم
الوصفة هذه تستخدم اليوم للتغطية على عنصر أساس في ولادة الربيع العربي: الإفراط في القمع. دعك من الديموقراطية والحريات، حتى بمعايير قرون مضت، المؤامرة تغطي على عجز ٍ حتى عن فهم شعرة معاوية ناهيك بالحفاظ عليها، أو أن سيف المعز لا يحكم دون ذهبه. سنحيا بالمؤامرات حتى تلقينا إلى مجهول جديد، وساعتها سنعرف، ربما، من أين يأتي الشرُ حقاً، تآمراً أو غباءً.
لا! لم يُسقط بن لادن البرجين، ولا أرسل طائرةً لضرب البنتاغون. ادعاؤه “غزوتي واشنطن ونيويورك” لا وزن له، ولا “فتواه” بوجوبِ قتل الأميركين حيثما كانوا. من فعلها؟: “اليهود”. لِمَ إذاً لم يذهبوا إلى أعمالهم في البرجين ذلك اليوم؟ قائمة الضحايا المنشورة التي تضم مئات الأسماء اليهودية، في مدينة فيها أكبر تجمع لليهود خارج إسرائيل، كما ادعاء بن لادن “الغزوتين”، لا محل لها من الإعراب. صدام حسين غزا الكويت، صحيح، لكن فقط بعد أن غررت به السفيرة الأميركية، جزار بغداد لم يكن سوى ضحيةٍ ساذجة. سقوط خلافة آل عثمان كان هو الآخر مؤامرة. غير مهم أن السلطنة العثمانية كانت رجل أوروبا المريض لما زاد عن قرنين قبل نهايتها، الغرب “الشرير” هو من أجهز على المؤسسة العتيدة (تلك التي لم يجمع المسلمون على شاغلها منذ الخليفة الثاني). الربيع العربي كله لم يكن سوى مؤامرةٍ خبيثة تسعى إلى إسقاط بلادنا. واقعنا قبل 2011، الفساد الفاجر، الجمود السياسي، القمع، حكم القذافي الكارثي، بشاعات الأجهزة الأمنية في سوريا وغيرها، كل هذا وغيره لا يعني شيئاً، بل ذِكرك له قد يعني أنك إما شريكٌ في التآمر أو ساذج مُغرر به.
المؤامراتية (conspiracism) لا هي جديدة ولا هي قصر على منطقتنا. لم يثبت يوماً، مثلاً، أن الامبراطور الروماني نيرون هو من أحرق عاصمته روما، لكن غرابة أطواره جعلته متهماً. اليهود في أوروبا المسيحية في العصور الوسطى اتُهموا جماعياً بجرائم لم يثبت أبداً تورطهم فيها. في القرن الثامن عشر، ولدت جماعة “المُتنورين” (Illuminati) السرية في بافاريا (جنوب ألمانيا المعاصرة)، سرعان ما انطفأ “المتنورون” كجماعة، لكن أسطورة مؤامراتهم الشيطانية بقيت، بل كانت التفسير البديهي لكثير ٍمن الأحداث في نظر البعض لقرونٍ بعد اختفائها، بما في ذلك الثورة الفرنسية والحربين العالميتين وظهور الأمم المتحدة. في ستينات القرن التاسع عشر، نشر المحامي والناشط السياسي الفرنسي موريس جولي نصاً عنونه “حوارات في الجحيم”، تخيل فيه نقاشات في العالم الآخر بين الفيلسوف الفرنسي مونتيسكيو والمفكر السياسي الإيطالي ماكيافيللي، الأخير مثّل (تلميحاً) نابليون الثالث دكتاتور فرنسا آنذاك، بصوت ماكيافيللي بيّن المؤلف كيف توضع خططٌ لتدمير الحريات والديموقراطية في أوروبا، تنتصر في النهاية، لتترك مونتيسكيو حسيراً بائساً.
بعد نشر نص جولي (الذي أدى إلى سجنه) بعامين تلقفه روائي ألمانيٌ مغمور: هيرمان جوايديش (الذي كان يكتب تحت اسم إنكليزي مستعار: سير جون ريتكليف) ونقل منه صفحات كاملة في رواية له يجتمع في أحد فصولها “شيوخ” قبائل بني إسرائيل الإثنا عشر في مقبرة كل مئة عام، ليتابعوا خططهم لدمار العالم، الخطط التي نسبها جولي لنابليون الثالث على لسان ماكيافيللي. ثم قبل نهاية القرن انتحل نص جوايديش (المنحول أصلاً) عملاء للمخابرات الروسية القيصرية لينتجوا بروتوكلات حكماء صهيون الشهيرة (المقدسة عند كثيرين بيننا): المعنى الضمني أن كل معادٍ للحكم القيصري الروسي، إن لم يكن يهودياً، هو إما تابع أو عميل لليهود “الأشرار”. تاريخ الاختراع والنقل هذا يسهل الوصول إليه لمن أراد، لكن لِمَ تريدُ معرفةً تحرمك راحة اليقين بما تظن أنك تعرف؟
الحقائق الظاهرة، لا تقدم أساساً للـ “مؤامراتية”، بل على العكس. في قلب المؤامرة عادة قوة شيطانية، جوهرٌ من الشر المطلق لا تفسير لأفعاله سوى الرغبة في التدمير والخراب. لا منطق ظاهر، لا مصالح متبدلة ضرراً ونفعاً، عداءً وتحالفاً كما هي طبيعة السياسة، فقط سوادٌ شيطاني خالص، فإن ظهر دليلٌ كان في ذلك الإثبات، وإن عجزت عن رؤيته فذلك لأنك قد عميت عن شيطانية هذا العدو الخفي؛ إخفاء الدليلٌ أكبر دليل. فقط في ظل هذا المنطق يمكن لثلاثة مليون يهودي يسكنون نيويورك، رجالاً ونساءً، شيوخاً وأطفالاً أن يشتركوا جميعاً في مؤامرة واحدة (تتسرب لاحقاً ليخبرنا بها المؤامراتي الألمعي).
المؤامراتية إذ ليست جديدةً ولا غريبة، لكن لنا أن ندّعي أنها أكثر انتشاراً في بلادنا السعيدة وأضرابها من الشعوب التي تسود العالم، حيث تكاد تكون أحياناً خطاباً رسمياً. مثلاً: صربٌ كثر، بعد مآسي البوسنة والهرسك وكوسوفو، لم يروا في محاكمة سلوبودان ميلوسوفيش وجماعته إلا مؤامرة على الشعب الصربي، لا مكان هنا للجانب الآخر مما حدث، ناهيك بالحقيقة.
الحكومة الإسلامية في إيران لا تملّ الحديثَ عن المؤامرات التي يحيكها ضدها “الاستكبار العالمي” الذي يضم عادةً “الشيطان الأكبر”: الولايات المتحدة وتلك الدولة التي مهما غاب مجدها السالف تبقى قلب كل مؤامرة: بريطانيا. صديقة أميريكية، إيرانية الأصل كانت تصف أباها الراحل، المهندس والمعارض لدولة ولاية الفقيه، الذي مات مواطناً أميركياً، “أبا دسيسة”، كان الرجل يرى مؤامرةً وراء كل شيء، بما في ذلك سقوط حكم الشاه وصعود الخميني. المؤامراتية توحدنا!
لكن لِمَ المؤامراتية؟ التفسيرات المعيارية السائدة تتحدث عن نزعةٍ لا واعية عندنا للبحث عن التسلسل المنطقي في ما يفتقد الترابط، ينزعُ المخ البشري لاستكمال المعلومات، مثلاً إن رأيت مثلثاً أو دائرة غير مكتملين فمن المتوقع أن تراهما كأنهما كاملين، كذلك إن سمعت جُملاً أو كلماتٍ غير كاملة، ستستكمل ما تظنه ناقصاً. في أدنى درجاتها هكذا تعمل المؤامراتية. وكلما ازدادت بساطة التفكير ازدادت الحاجة إلى حلٍ بسيط واضح للفوضى أو اللامنطق الظاهرين، لـ “خطةٍ” كبرى تحملُ كل الإجابات. على أن الاستعدادَ الطبيعي لاستكمال الأشكال الهندسية أمر وانتشار المؤامراتية الواسع في ثقافات تكره أشد ما تكره مساءلة النفس والاعتراف بالخطأ، مع نزعةٍ لرؤية حدية، لا ترى إلا الأبيض والأسود، أمرٌ آخر. المؤامراتية تُذكرنا، وإن في صيغةٍ جمعية، بما يعرّفه علماء النفس بـ”اضطراب الشخصية النرجسي”، إذ يرفض النرجسي العاشق ذاته المتضخمة المسؤولية عن أخطائه ويزعجه بشدة تحمل اللوم، الذي يجد طريقة دوماً لتحميله للآخرين، واصلاً إلى عجزٍ عن التعلم (أنى لذلك بالحدوث لمن لا يعترف بأخطائه؟)، و من ثم يميل لما عرّف به أينشتاين “الغباء”: تكرار التجربة ذاتها بالعناصر ذاتها وتوقُّع نتيجة مختلفة.
أن ترى، مثلاً، بديلاً عن فشله الكامل، في كل الكوارث التي جرّها الإسلام السياسي السني علينا وعلى نفسه في السنوات السبع الماضية “مؤامرة على الإسلام”، يريحك من هم البحث في ألف دليل ودليل عن سطحية هذا التيار وقصر نظره، ناهيك بيقينه الساذج المستعدٌ للعنف. بالمنطق ذاته، نرى أن كل ما شهدته المنطقة في العقود الماضية (مثلاً لا حصراً: غرو الكويت، غزو العراق، اضطرابات واغتيالات لبنان وصولاً للربيع العربي) مؤامرة واحدة متواصلة على رغم اختلاف السياقات، بما يعني أن كل فشل كارثي عرفه حكامنا لا محل له من الإعراب، أو على الأكثر ذو دور ثانوي. هكذا لا يرى المؤامراتي داعياً لبحث كيف قاد حكم البعث في سوريا والعراق، مثلاً، البلدين إلى ما هم فيه اليوم، بما في ذلك الإصرار على الإبقاء على وحدة هذه الكيانات الهشة، وليدة الحرب العالمية الأولى، بالحديد والنار بدلاً عن بناء عقدٍ اجتماعي ومشروعٍ وطني جامعين. دعك من تهافت الصيغة التي خلقتها عقودٌ من السلطوية الدموية وابحث عمن أسقطها، تماماً كمن يلوم الجرثومة على قتل هزيلٍ ضعيف جائع. ترى من جوّع الفقيد وأضعفه؟ من نُسائِل؟ مضحك- مبكٍ في خطاب المؤامراتية هذا الاستغراب الضمني لتدخل الدول في شؤون بعضها بعضاً، عملها لأجل مصلحتها بكلٍ وسيلة كانت، كأن السياسة ساحة أخلاق وأدب واستئذان قبل التدخل أو الغزو، أو براح للضعيف كي يستريح. مرة أخرى: أنلوم الجرثومة أم من أضعف الميت وأنهكه؟
لكن بدلاً عن الحديث عن العجز أمام الغير، ومن ثم أسبابه والمسؤولين عنه، يحال الجرمُ إلى جوهرٍ شريرٍ لا يخطئ ولا يناقض نفسه، وحش تكادُ تستحيل هزيمته. لكن، مثلاً، إن كان الشيطان الأكبر، الولايات المتحدة، هي من أرادت شاه إيران إلى الأبد فلِمَ سقط؟ وإن كانت هي من رغب في سقوطه لِمَ استبدلته بعدوٍ كالجمهورية الإسلامية؟ وإن كان غزو العراق جزءاً من خطة جهنمية كبرى، لماذا انتهى هذه البلد لقمةً سائغة لإيران؟ لكن العمى هنا يتخطى أخطاء التقدير إلى العجز عن رؤية تناقضات المؤسسات. مثلاً لا حصراً وزارة الدفاع الأميركية كانت ضد ضرب إيران عسكرياً على طول الخط مهما تباينت مواقف الرؤساء من هذا الأمر. مؤخراً كان وضحاً البون الشاسع بين موقف الرئيس الأميركي تجاه ملف قطر وموقف وزارتي الدفاع والخارجية. في الربيع العربي رأينا تضارب السياسة الأميركية تجاه مبارك (تصريحات هيلاري كلينتون عن “قوة” حكمه قبل سقوطه بأيام)، كذلك مواقفهم المتباينة تجاه حكم جماعة “الإخوان المسلمين” في مصر: وقت الإطاحة بهم، وفق مقالات منشورة في صحف أميركية، كان وزير الدفاع الأميركي آنذاك، تشاك هيغل، على اتصالٍ هاتفي بنظيره المصري بصفة دورية. أما البيت الأبيض والخارجية وأعضاء من الكونغرس، فنظروا بريبة إلى ما فعله الجيش المصري، إلى حد المطالبة بوقف كل الدعم العسكري لمصر عقاباً على الإطاحة بحكم الإخوان، مرة أخرى وفق ما هو منشور.
في سوريا، أياً كانت أهداف السياسة الأميركية فمن المستحيل أنها رمت لفتح البلاد لتقاسم النفوذ بين روسيا وإيران. ولا أن إسرائيل استهدفت خلق فوضى على حدودها تستبدل بها نظاماً (ممانعا أبياً طبعاً) لم يطلق عليها رصاصة منذ السبعينات. لكن هذه الحقائق البسيطة الواضحة، من جهة، تنزل “الشرير” إلى منزلة بشرٍ يصيبون ويخطئون، خطط أم لم يخطط، ومن ثم تنقل اللوم والمسؤولية إلى الضحية المزعومة، في الحد الأدنى على قصر نظره وفي الحد الأقصى على غبائه، ومن جهة أخرى تُسائل مكانة من يدعي البطولة بالوقوف في وجه هذه المؤامرات المزعومة التي تبدو غير قابلةٍ للهزيمة.
يمكننا التماس العذر لمن نشأ تحت حكم الصوت الواحد إن عجز عن فهم تعددية الآخر، وسائل إعلامٍ ومؤسساتٍ، وأن هذه التعددية هي ما يحمي استقرار الدول، لا العكس. أحد الردود المعتادة على أخبار تبثها وسائل إعلام غربية هو دورها، أي وسائل الإعلام هذه، في “المؤامرة”. لكن سواء نشرت “بي بي سي” أو غيرها، أو لم تنشر، أنباءً عن مذابح وبيوت تدك في سوريا، أو عن بشاعات “داعش”، أو عن الاتهامات والتقارير المتكررة عن الإخفاء القسري والتعذيب في مصر، هذه الأخبار وأشباهها متداولة معروفة على صفحات الإنترنت بشكل يصعب التحكم فيه، متواترة متطابقة أحياناً من مصادر متباينة. لكن بمنطق المؤامرة، الحرفية والاستقلالية التي تعرفها الصحافة الغربية، وإن بدرجات متفاوتة، تلك التي أسقطت حكومات ورؤساء، ليست سوى غطاء المؤامرة، ولأن الإعلام الشرير هذا متآمر تنتقل المسألة من الواقع الذي نعرف ونعيش إلى الصورة التي يقدمها المتآمر، دعك من الحقيقة واعمل على الصورة! بهذا الغوص في إنكار الواقع تسلب أنظمة ما بعد الربيع العربي التي تروج للمؤامراتية وسائل إعلامها صدقيتها المحدودة أصلاً، دافعة محكوميها في النهاية إلى مصادر معلوماتٍ أخرى، نتاج طبيعي لعقليةٍ عاجزة، سياسياً يحكمها إلى جانب المؤامراتية، صدقاً أو ادعاءً، إصرارٌ على تجاهل الحاجة إلى حد أدنى من الشرعية: عن قبول المحكومين واقتناعهم مما لا تستغني عنه حتى أشد الأنظمة سلطويةً، ناهيك بأننا، تكنولوجياً وإعلامياً خصوصاً، في عام 2018 لا عام 1958، إذ يبدو أن عقلياتٍ حاكمة ما زالت تعيش. واصل الكذب على نفسك وعلى غيرك، تجاهل حاجتك للشرعية، عش في زمن آخر، تُسلم جمهورك لغيرك؛ الوصفة هذه تستخدم اليوم للتغطية على عنصر أساس في ولادة الربيع العربي: الإفراط في القمع. دعك من الديموقراطية والحريات، حتى بمعايير قرون مضت، المؤامرة تغطي على عجز ٍ حتى عن فهم شعرة معاوية ناهيك بالحفاظ عليها، أو أن سيف المعز لا يحكم دون ذهبه. سنحيا بالمؤامرات حتى تلقينا إلى مجهول جديد، وساعتها سنعرف، ربما، من أين يأتي الشرُ حقاً، تآمراً أو غباءً. [video_player link=””][/video_player]