تصدّع التحالف الحزبي المساند للرئيس بوتفليقة بفعل الضغط المتواصل في الشارع والمناهض للأجندة التي اقترحها، من أجل تسيير المرحلة الانتقالية التي أدخل البلد فيها. كما لم يتمكن وزيره الأول نور الدين بدوي من تشكيل حكومة جديدة منذ قرابة الأسبوعين، أي منذ تكليفه بالمهمّة.
لم تردع الأجواء الماطرة الجزائريين الذين خرجوا بقوة في خامس جمعة على التوالي في مسيرات شعبية، للمطالبة برحيل الرئيس بوتفليقة وعصابته. “تتنحاو ڤاع” أي ” ارحلوا جميعاً”، هو الشعار الذي خلف “لا للعهدة الخامسة” في هذه المسيرات المناهضة لمنظومة حكمه والتي لم تنقص حدتها بعد مرور خمسة أسابيع وإلغاء الانتخابات، التي كان من المقرر إجراؤها في 18 نيسان/ أبريل المقبل وتنحية الوزير الأول أحمد أويحيى، الذي أصبح مجرد ذكر اسمه يثير الاشمئزاز في الآونة الأخيرة. وكان نال قسطاً معتبراً من سخط المتظاهرين، كما لم يثبط التزام الوزير الأول الجديد نور الدين بدوي، الذي كان وزيراً للداخلية، بتوسيع المشاركة في الحكومة لتشمل فعاليات سياسية من المعارضة، من أجل تسيير الفترة الانتقالية التي دخل فيها البلد، من عزيمة الحراك الشعبي الذي لا يريد تخفيض سقف مطالبه.
فعلاً، لم يجرؤ أحد ممن اتصل بهم بدوي وهم يُعدّون بالعشرات على الانضمام إلى الفريق الحكومي قيد التكوين، فلم يعد العمل تحت لواء بوتفليقة يغوي السياسيين ولا حتى المتملقين الذين كانوا يتسابقون من أجل الظفر ولو بمقعد في الصفوف الخلفية لسفينته. فرض الشارع الجزائري الرافض منظومة حكمه، منطقاً جديداً حصره وعصبته في زاوية، مخارجها كلها ضيقة. وإذ يبحث مقربوه عن نافذة يحفظون بها ماء وجهه، يرفض المتظاهرون أجندته المقترحة كخارطة طريق للخروج من الأزمة جملة وتفصيلاً. أراد مقربوه من خلال الأجندة المقترحة أن يجعلوا منه عراباً للفترة الانتقالية، الهادفة إلى إنهاء مساره السياسي بشكل لائق. لكن قابلهم الشارع بإرادة رافضة تقوى يوماً بعد يوم من أجل تحييد كامل العصبة عن تسيير الانتقال الديموقراطي المنشود.
فكك هذا الضغط المستمر ما يعرف بالتحالف الرئاسي المكون من أربعة أحزاب هي: “حزب جبهة التحرير الوطني” (الافلان)، “التجمع الوطني الديموقراطي” (الارندي) الذي يرأسه أحمد أويحيى، “تجمع أمل الجزائر” (تاج)، “الحركة الشعبية الجزائرية” (الامبيا). وحاول بعض رموز هذه الأحزاب الالتحاق بالحراك بمغازلته، عبر بيانات وتصريحات صحافية قوبلت بالرفض وأثارت السخرية عبر وسائط التواصل الاجتماعي وفي مسيرات الجمعة: ” قلنا لكم روحوا ڤاع ماشي ارواحوا ڤاع” (قلنا لكم ارحلوا جميعاً ولم نقل لكم انضموا إلينا).
وشدد من هذا الموقف قيام نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية رمطان لعمامرة بزيارة عواصم أوروبية لشرح الوضع وطمأنة الشركاء الدوليين. زيارات استقبلها الشارع بعين الريبة، كلفته اتهامات بمحاولة الاستقواء بقوى خارجية ضد الشعب الجزائري. وكتب أحد المتظاهرين على لافتته: ” تتهمون أيادي خارجية بالوقوف وراء حراك الشارع وأنتم من يستقوي بالخارج ضد الشعب“. ” لا واشنطن، لا باريس، نحن من يصنع الرئيس“، وشعارات أخرى ضد التدخل الأجنبي كان لفرنسا فيها القسط الأكبر. شعارات تداولها رواد وسائط التواصل الاجتماعي قبل أن يعتمدها المتظاهرون في الشارع. ودوت ” ما كانش الخامسة يا ولاد فرنسا” (لن تكون هناك عهدة خامسة يا أولاد فرنسا) في تظاهرات الجمعة، على رغم التخلي عن مشروع العهدة الخامسة. إلا أن أغلبية الشعارات بقيت وفية لخط الحراك الساخر، داحضة العنف وداعية إلى الابتسامة. مثلاً: ” نداء إلى رئيس كوريا، ادي بدوي واعطينا في بلاصتو كيتمان دوريجين” (نداء إلى رئيس كوريا، خذ بدوي وقايضنا به سماعات أصلية)، و”سنقتلكم بالسلمية“.
الكل يجاري الشارع
تجلت هذه السلمية في مظاهر لم يعهدها الشارع الجزائري. وإذ استرجع الجزائريون الفضاء العمومي بعدما حرموا منه لسنوات طويلة بفعل قمع الحريات العامة، ناقش أساتذة جامعيون، على سبيل المثال، الوضع الحالي في حديث مفتوح في ساحة البريد المركزي بالجزائر العاصمة على هامش تظاهرة الطلبة الثلاثاء الماضي، وقبلها تبادل الفنانون أفكارهم على درج المسرح الوطني محي الدين باشتارزي. مبادرات كثيرة قام بها مواطنون باختلاف مشاربهم، فنظمت حملات تنظيف على مستوى الأحياء في مدن وقرى جزائرية كثيرة، ورسمت لوحات فنية على الجدران وتحت الجسور من أجل تزيين المحيط العام وتحسينه. لم يعد أحد يخشى الانزلاقات ولعل صورة إحدى الأمهات وهي تحضر حليباً لرضيعها وسط مسيرة في مدينة باتنة في الشرق الجزائري، هي أبلغ مثال عن سلمية التظاهرات.
تظاهر القضاة من أجل عدالة مستقلة وسار أعوان الحماية المدنية كما أدلت قوات حفظ النظام بدلوها وشاهدنا عناصرها تهتف: ” تحيا الجزائر” تعبيراً عن الولاء للوطن والدولة لا الأشخاص والزمر الحاكم، وهذا بعد نهاية إحدى المسيرات في الجزائر العاصمة، تخللتها صدامات مع بعض المتظاهرين الذين قاموا بأعمال تخريبية بسبب منعهم من المسير حتى قصر رئاسة الجمهورية بالمرادية في أعالي المدينة.
باختصار، لا يريد الشارع حكومة يكونها بوتفليقة كما لا يريدونه أن يشرف على المرحلة الانتقالية. قُرئت محاولات مغازلة الحراك من طرف أحزاب الموالاة على أنها مخطط لتمييعه والالتفاف عليه. ففُهم تنديد صديق شيهاب الناطق الرسمي باسم التجمع الوطني الديموقراطي بما سماه ” القوى غير الدستورية التي تحكم البلد”، على أنه “خيانة لبوتفليقة” أكثر من كونه شيئاً آخر، وقوبلت ” توبة” منسق جبهة التحرير الوطني معاذ بوشارب – الذي سخر من المتظاهرين بعد تظاهرات 22 شباط/ فبراير، أول جمعة للحراك، بقوله ” أحلام سعيدة“، لدعاة التغيير قبل أن يعلن مساندته مطالب الشعب-بالرفض والكثير من التهكم وتعالت نداءات “وضع الحزب في المتحف“: “الشعب يطلق الافلان، لا نفقة ولا إيواء والحضانة للمتحف“. ويقول أحد المتظاهرين “خرجنا لتنحيتهم كلهم، بما في ذلك الافلان والارندي، هم جزء من المشكلة”.
[article_gallery]
في هذه الظروف، يبقى موقف الجيش غامضاً، فرئيس أركانه أحمد فايد صالح الذي كان يشغل منصب نائب وزير الدفاع في حكومة أويحيى التي يُفترض أنها سقطت، ولم يعد أعضاؤها يخرجون إلى الميدان باستثنائه هو. وإذ ينتظر زملاؤه تسليم المهمات لمن سيخلفهم، يواصل فايد صالح زياراته التفتيشية إلى النواحي العسكرية، بتغطية من التلفزيون الرسمي ويبث مقتطفات من خطاباته أمام العسكر. إنما لم يعد فايد صالح ينوه في كلامه بـ” إنجازات بوتفليقة“، كما في السابق، إذ كان يؤكد أن ” الأشياء المحققة في سبيل عصرنة الجيش كانت بفضل فخامة الرئيس“، وبات يُلح على أن الجيش هو “جيش الشعب“.
أصبح الكل يجاري الشارع، سواء أكانوا من المعارضة أو ممن يتحكمون بالسلطة داخل الدولة. لا أحد يريد الإمساك بزمام المبادرة وعرض خارطة طريق أخرى. فلا أحزاب المعارضة تملك من السيطرة ما يقنع المتظاهرين ويُمكنها من مفاوضة السلطة باسمهم ولا من هم على رأس مؤسسات الدولة قادرون على فرض حل سياسي يُرجع النقاش إلى الأطر المؤسساتية، من أجل المضي في مسار من شأنه تحكيم صناديق الاقتراع بسرعة.