لم تعد الشهادة الجامعية والخبرة العملية ولا حتى الكفاءة، كافية للحصول على فرصة للعمل في الدوائر الحكومية في سوريا، بعدما أصدر مجلس الوزراء السوري قراراً يُعطي أولوية التوظيف لمن قاتل في صفوف قوات النظام، في ما يبدو أنها قرارات تمهيدية لمرحلة “ما بعد الحرب” في سوريا، والتي سيكون النصيب الأكبر في المشاركة فيها لمن قاتل إلى جانب النظام خلال السنوات الماضية.
هذا القرار الجديد يُضاف إلى قرارات صدرت خلال السنوات الماضية، أعطت امتيازات كثيرة في مجالات مختلفة لذوي القتلى والجرحى من مقاتلي قوات النظام، استهدف فيها النظام ثلاثة قطاعات رئيسية.
المراسيم والقرارات التي صدرت لمنح الامتيازات لذوي القتلى في قطاع العمل والتوظيف في الدوائر الحكومية كانت الأبرز، فقد أصدر بشار الأسد المرسوم 22 لعام 2017 الذي خصص نسبة 50 في المئة من الشواغر المراد ملؤها في الدوائر الحكومية لذوي القتلى، كما أصدر مجلس الوزراء القرار رقم 7 لعام 2017 الذي منح زوجة القتيل من قوات النظام أو أحد أولاده فرصة عمل في الدوائر الحكومية بموجب عقود سنوية تلقائية التجديد، وبحسب بيان صادر عن مجلس الوزراء في أيار/ مايو 2018، فقد حصل 2800 شخص من زوجات قتلى قوات النظام وأبنائهم على عمل بموجب هذا القرار.
وكالة سانا الرسمية قالت، أواخر تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، إن الرقم الإجمالي لـ “ذوي الشهداء العسكريين” الذين تم تعيينهم لدى الجهات العامة منذ قرابة العامين وصل إلى 3363 مواطناً.
امتيازات داخل قطاعَي التعليم والإسكان
التشريعات منحت كذلك امتيازات كثيرة لذوي القتلى داخل قطاع التعليم، فالمرسوم 293 لعام 2016، خصّص 15 مقعداً دراسياً في الكليات الجامعية وأقسامها الفرعية، و2 في المئة من مقاعد درجة الماجستير والتأهيل والتخصص، و5 في المئة من مقاعد المدارس والجامعات الخاصة لذوي القتلى، إضافة إلى تخفيض رسوم الخدمات الجامعية إلى نسب تصل إلى 75 في المئة، وخصص المرسوم 44 لعام 2013 نسبة تصل إلى 10 في المئة من البعثات الدراسية ومنح الجامعات الخاصة لأبناء قتلى قوات النظام.
القرارات طاولت أيضاً قطاع الإسكان ومشاريع الإسكان الشبابي، لتُحدد نسبة 50 في المئة من اكتتاب المشاريع السكنية لذوي القتلى.
رئاسة الوزراء أوضحت في قرارها الجديد أن على المتقدمين للحصول على الوظائف في الدوائر الحكومية الحصول على “بيان وضع” من شعب التجنيد التابعة للنظام، وذلك بهدف التمييز بين من أدى الخدمة الإلزامية أو من تهرب منها واستفاد من قرارات العفو التي صدرت أخيراً، بهذا تحولت شعبة التجنيد إلى ما يشبه “العقدة المركزية” التي أصبح الشاب السوري مضطراً للدخول إليها في جميع معاملاته تقريباً، الحصول على جواز السفر، المرور من المنافذ الحدودية إلى خارج سوريا، الزواج، العمل، وغيرها الكثير من شؤون الحياة اليومية باتت بحاجة إلى موافقات شعب التجنيد، التي بطبيعة الحال لا تخلو من الفساد والرشاوى المالية.
تداعيات التشريعات الحديثة
نحن أمام مثال واضح كيف يمكن أن تكون الدولة الجهة الراعية للفساد في مؤسساتها، فالمساواة بين المواطنين في فرص الحصول على العمل والتعليم والمسكن والخدمات من دون النظر إلى أي اعتبارات سياسية أو دينية، هي أساس استمرار الدول والمجتمعات الحديثة وتطوّرها، لكننا أمام نظام يرعى بنفسه التمييز بين المواطنين.
التداعيات السلبية لهذا النوع من التشريعات على المجتمع المحلي بدأت بالظهور مع استمرار هجرة الشباب وأصحاب الشهادات العلمية والكفاءات العملية من سوريا، فمن لم تُهجره الحرب الدامية خلال السنوات الماضية، هجّرته قرارات حكومية خيّرتهم بين القتال أو البطالة.
إقرأ أيضاً: درعا: خطابات وبرامج دينيّة للترويج للنظام وسياسته
كذلك فإن الخدمة والقتال لسنوات طويلة في صفوف قوات النظام، وصل بعضها إلى 7 سنوات متواصلة عند بعض المجندين، أدى إلى خسارتهم المعلومات الجامعية لدى حملة الشهادات منهم، كما أن كثراً لا يملكون الخبرة العملية في الشهادات التي حصلوا عليها نتيجة لتجنيدهم الإلزامي بعد تخرجهم من الجامعات مباشرة. منح هؤلاء أولوية التوظيف على حساب أصحاب الخبرة يُنذر بتراجع كفاءة قطاعات العمل الحكومية، وما يترتب عليها من نتائج قد تكون كارثية في بعض القطاعات الحساسة، كالصحة والتعليم والمالية والإنشاءات الهندسية.
بات واضحاً أن سياسة النظام في الدعوة إلى التجنيد في قواته تتماوج بين الترغيب والترهيب، لا سيما في المناطق التي استعاد السيطرة عليها أخيراً، والتي لم يكسب النظام السيطرة عليها جغرافياً واقتصادياً فقط، بل نجح في إعادة سيطرته إلى مناطق تضم مئات آلاف المواطنين، سواء من المدنيين والمقاتلين السابقين، وما يوفره ذلك من مخزون بشري يستفيد النظام منه عسكرياً ومدنياً.
الحال الذي تعيشه محافظة درعا، على سبيل المثال، أن عشرات الآلاف من الشباب ممن انضموا إلى اتفاقية “التسوية” التي وقعتها فصائل المعارضة مع النظام بالضمان الروسي، وجدوا أنفسهم بين التهجير القسري إلى شمال سوريا أو البقاء ضمن مدنهم وبلداتهم، إنما في مواجهة مع التجنيد الإلزامي في صفوف “الجيش السوري”، الجيش نفسه الذي حاربوه لسنوات، للمفارقة فإن الغالبية الساحقة اختارت البقاء في درعا والتأقلم مع النظام واستعادة سيطرته عليها.
“نحن أمام مثال واضح كيف يمكن أن تكون الدولة الجهة الراعية للفساد في مؤسساتها”
ربما هذه المفارقة هي التي دفعت النظام إلى خيار الترغيب في محاولة لكسب هذا المخزون البشري من الشباب في صفوف قواته وحرمان فصائل المعارضة المعتدلة أو المتطرفة في شمال سوريا منه، فحافظت الشرطة العسكري الروسية على استقرار المنطقة في المرحلة الأولى مما يمكن وصفه بـ”المرحلة الانتقالية”، ثم بدأت تشكيلات النظام العسكرية وحتى أفرعه الأمنية تُظهر مرونة كبيرة في التعامل مع المقاتلين السابقين وضمت مئات المتطوعين الذين كان بعضهم، حتى الأمس القريب، من قادة فصائل المعارضة.
كذلك دفعت روسيا بمئات المقاتلين للالتحاق بـ”الفيلق الخامس” في محافظة درعا الذي تُشرف عليه، وكذا الأمر في الفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد، والتي وسعت انتشارها من دمشق إلى مدينة درعا وريفها الغربي وباتت تتكون بشكل رئيسي من أبناء درعا ومقاتلي فصائل المعارضة سابقاً، ما لبثت أن توسعت دائرة التحاق الشباب في صفوف قوات النظام المختلفة، حتى أصبحت “ظاهرة عادية”.
الحوافز المالية وإسقاط الملاحقات الأمنية والكثير من التسهيلات التي بات النظام يوفرها لمقاتليه، تُضاف إلى أولويات العمل في الوظائف الحكومية وتعويضات ذوي القتلى والجرحى، شكّلت جميعها حلقات متتابعة ضمن سياسة ممنهجة هدفها إعادة بناء “الجيش السوري” على مستويات عدة؛ البناء على المستوى البشري بعد أن عصفت الانشقاقات والعزوف عن الالتحاق بهيكلية الجيش بشكل شبه كامل، ودفعت بالنظام للاستعانة بالميليشيات الأجنبية والمحلية، والبناء على المستوى الشعبي بإعادة الخليط المكّون للجيش بعد سنوات كانت الغالبية الساحقة من المقاتلين من منطقة جغرافية محددة، وكذلك إعادة البناء على المستوى الإعلامي وربما محاولة محو ما شهدته السنوات الماضية، إن لم يكن على المستوى الدولي على الأقل على المستوى المحلي.
بات النظام يسعى أكثر من أي وقت سابق إلى ترسيخ مفهوم “سوريا الأسد”، سوريا التي يُصنّف فيها المواطنون إلى فئتين؛ الأولى تؤيد النظام وتُقتل وتُضحي في سبيله، ولهؤلاء الامتيازات والأولوية في الدولة، والثانية هي ما تبقى من الشعب السوري، سواء كان معارضاً أو محايداً أو حتى مؤيداً، لكن هذه الفئة ترفض الانضمام إلى قواته والقتال في صفوف جيشه، ولهؤلاء ما تبقى من فتات سوريا، إن تبقى شيء.
إقرأ أيضاً:
درعا: النظام خارج الخدمة وجهود أهلية لبدء إعادة الإعمار
مقاتل سابق في المعارضة: ذاهبون إلى إدلب لنكون الضامن بين النظام والفصائل