لم تحظَ أوضاع السلطة القضائية في سوريا ما بعد الأسد، بالقدر نفسه من الاهتمام الإعلامي الذي حظيت به قطاعات أخرى كالاقتصاد وتكوين الجيش ومفاصل السلطة السياسية، وبينما صدرت تقارير وتحقيقات صحافية متعدّدة تتحدّث بإسهاب عن سعي العهد الجديد لإعادة هيكلة هذه القطاعات الأخيرة، فإن هذا التقرير يسعى لرصد بعض أبرز الإجراءات والقرارات الصادرة بعد الثامن من كانون الأوّل/ ديسمبر ٢٠٢٤، التي أطاحت بمبدأ استقلال القضاء وأفرغت نصوصاً دستورية من مضمونها، فيما يجري بناء سلطة قضائية قائمة على معيار الولاء لا الكفاءة، معيدة إلى الأذهان ممارسات نظام الأسدين في عالم السلطة الثالثة.
ما قبل الإعلان الدستوري: قرارات عزل وتعيين خارج القانون
في الثامن من كانون الثاني/ يناير 2025، أصدر وزير العدل في الحكومة الانتقالية القرار رقم 40 بإنهاء تكليف أربعة عشر قاضياً في مختلف المحافظات. القرار استند إلى “مقتضيات المصلحة العامّة”، لكنّه خالف قانون السلطة القضائية الذي يحصر صلاحية العزل والتعيين بمجلس القضاء الأعلى وحده.
بعد ثلاثة أسابيع، صدر القرار رقم 89 بتاريخ 29 كانون الثاني/ يناير، ليُعيَّن بموجبه أربعة عشر شخصاً من خرّيجي كليّات الشريعة الإسلامية في مناصب “رؤساء عدلية” في المحافظات، وهي وظائف لا وجود لها في أيّ نصّ قانوني، كما أُحيل ثمانية قضاة إلى التقاعد بموجب القرار رقم 43 (15 كانون الثاني)، وثلاثة وأربعون قاضياً آخرون في القرار رقم 194 (12 شباط/ فبراير)، وجميعها صيغت بالعبارة نفسها: “استناداً إلى مقتضيات المصلحة العامّة”، من دون أي مبرّر قانوني.

لاحقاً، جرى تعيين أشخاص من خريجي الشريعة في مواقع قضائية حسّاسة، من بينهم أنس منصور السليمان الذي تولّى رئاسة محكمة النقض من دون أن يحمل إجازة في الحقوق، في مخالفة واضحة للمادّة 70 من قانون السلطة القضائية التي تشترط المؤهّل القانوني والأقدمية، وإبراهيم شاشو في وظيفة رئيس إدارة التفتيش القضائي رغم عدم تحصيله المؤهّل العلمي المحدّد قانوناً، أي إجازة في الحقوق، والاكتفاء بمؤهّله العلمي في الشريعة الإسلامية.
بهذه القرارات، قُوّض هرم القضاء لصالح التعيين السياسي المباشر من قِبل السلطة التنفيذية.
الإعلان الدستوري وإلغاء المحكمة الدستورية العليا: سابقة لا مثيل لها
في الثالث عشر من آذار/ مارس 2025، ألغى الإعلان الدستوري الصادر عن الحكومة الانتقالية المحكمة الدستورية العليا، وهي الهيئة القضائية التي تمثّل قمّة الهرم القضائي والمسؤولة عن الرقابة على دستورية القوانين والمراسيم.
ومثّل إلغاء المحكمة ضربة قاسية لمبدأ الفصل بين السلطات، إذ لم تُعيّن أيّ هيئة بديلة للبتّ في دستورية التشريعات أو الطعون الانتخابية، ما يجعل السلطة التنفيذية بلا رقيب فعلي.
وفي الوقت نفسه، عُيِّن عبد الرزاق الكعدي رئيساً لمجلس الدولة ومُنح صفة “قاضٍ”، رغم أن قانون مجلس الدولة يشترط أن يكون الرئيس من بين أعضاء المجلس، أو المستشارين القضائيين من نوّاب رئيس محكمة النقض. كما عُيّن إبراهيم الحسون عميداً للمعهد العالي للقضاء رغم عدم امتلاكه المؤهّلات القانونية المطلوبة، إذ لا يحمل إجازة في الحقوق ولا يتمتّع بالدرجة القضائية التي تخوّله الحصول على هذا المنصب.
وبالتالي رسّخت هذه التعيينات مبدأ الولاء السياسي والديني على حساب الكفاءة القانونية.
عزل جماعي لقضاة
مع حلول منتصف العام 2025، شهدت البلاد حملة عزل جماعي طالت أكثر من 60% من القضاة العاملين.
ففي 18 آب/ أغسطس، صدر قرار بفصل أربعين قاضياً من مناصبهم، أُبلغ معظمهم شفهياً من دون أي قرار مكتوب أو إجراءات محاكمة، ومن بين المعزولين قضاة من اللاذقية وحمص ودمشق، أُبلغ بعضهم أن سبب العزل هو “عدم التحاقهم بالثورة”، و”عدم انشقاقهم” عن نظام الأسد، كما تحدّث بعض القضاة عن تهديدات مباشرة من مجلس القضاء الأعلى بإحالة من يرفض الاستقالة إلى التحقيق والملاحقة الجزائية.
في بعض الحالات، تحوّل العزل إلى اعتقال فعلي، إذ جرى توقيف قضاة أثناء جلسات المحاكمة من دون إذن مسبق، في مخالفة للمادّة 115 من قانون السلطة القضائية، التي تشترط موافقة الهيئة العامّة لمحكمة النقض قبل ملاحقة أي قاضٍ جزائياً.
وبذلك فقدت المؤسّسة القضائية أيّ ضمانات للاستقلال، وأصبح القاضي مهدّداً بالعقوبة لمجرّد رفضه الانصياع للتوجيهات الحكومية.
شروط إقصائية في التعيينات الجديدة
في 19 آب/ أغسطس 2025، أصدرت الحكومة المؤقّتة القرار رقم 1455 لتنظيم مسابقة ملء الشواغر القضائية، وتضمّن القرار شروطاً اعتُبرت تمييزية، إذ نصّ على عدم قبول من أدّى الخدمة العسكرية، أو من خدم في مؤسّسات النظام السابق بعد العام 2011.

ورغم أن الخطوة قُدّمت كإجراء لتطهير السلك القضائي من رموز النظام السابق، خالفت المادّة 10 من الإعلان الدستوري التي تنصّ على المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات، كما خالفت قانون السلطة القضائية الذي ينيط بوزارة العدل ومجلس القضاء الأعلى الإشراف على التعيينات، بعد أن منحت القرار الجديد نقابة المحامين سلطة تحديد أسماء المقبولين.
وكانت النتيجة إقصاء شريحة واسعة من خرّيجي الحقوق عن التقدّم للمناصب القضائية، وتحويل التعيين إلى عمليّة سياسية أكثر منها مهنية، تُحدَّد فيها الكفاءة بمعيار الولاء للسلطة الجديدة.
العبث بقرارات مجلس القضاء الأعلى
من أبرز الانتهاكات القانونية المسجلّة خلال العام الحالي، القرار رقم 924 الصادر في 19 حزيران/ يونيو، الذي قضى بإنهاء دراسة طلّاب الدورة الرابعة في المعهد العالي للقضاء.
هؤلاء الطلاب كانوا قد عُيّنوا بقرارات مبرمة من مجلس القضاء الأعلى في أواخر العام 2023 ومطلع 2024، ما منحهم مركزاً قانونياً ثابتاً، إلا أن وزارة العدل شكّلت لجنة تفتيشية لمراجعة تلك القرارات، وأجرت مقابلات فردية مع الطلاب دون حضور قانوني أو محاضر استجواب رسمية.
وعندما حاول المتضرّرون رفع دعوى تظلّم إلى محكمة القضاء الإداري في دمشق في أواخر حزيران/ يونيو الفائت، رفضت المحكمة تسجيل الدعوى بتوجيه من رئيس مجلس الدولة، في انتهاك صريح لحقّ التقاضي المكفول في الدستور.
هكذا، جرى تعطيل القضاء الإداري نفسه، وتحويله إلى أداة بيد السلطة التنفيذية بدل أن يكون ملاذاً للمتضرّرين منها.
لجان تحقيق خارج الاختصاص وتحقيقات تخالف القانون
في 31 تمّوز/ يوليو الماضي، شكّلت وزارة العدل لجنة للتحقيق في أحداث محافظة السويداء، ضمّت قضاة مدنيين ومحامين غير مختصّين، في حين أن الجرائم محلّ التحقيق تدخل ضمن اختصاص القضاء العسكري.
هذه الخطوة خالفت بوضوح قواعد الاختصاص الشخصي والمكاني المنصوص عليها في قانون أصول المحاكمات الجزائية، وجعلت جميع أعمال اللجنة “باطلة” من الناحية القانونية.
وبُعيد إلقاء القبض على بعض رموز نظام الأسد، كالمسؤولين الأمنيين عاطف نجيب ومحمّد إبراهيم الشعار وإبراهيم حويجة والمفتي أحمد بدر الدين حسّون، خالفت إجراءات التحقيق قانون أصول المحاكمات الجزائية، حيث توجب المادّة 70 “لزوم الحفاظ على سرّية إجراءات المحاكمة أمام قاضي التحقيق بالنسبة إلى العامّة”، كما حُجب حقّ الدفاع الذي توجبه المادّة 69 من القانون نفسه.















