يراقب المجتمع الدولي، مرةً أخرى وبقلقٍ بالغ، تصاعدَ حدة الصراع في سوريا. فمئات الآلاف من اللاجئين يفرون نحو الحدود التركية، وبلداتٌ بأكملها أُخلِيت بينما تمطر مئاتُ الغارات الجوية إدلب بالقصف منذ أيام متواصلة؛ وصِدام مباشر بين تركيا (عضو حلف الناتو) ونظام بشار الأسد قد يجرُّ إلى صِدام مع روسيا، أكبر حلفاء الأسد.
قصفت قوات موالية للأسد، يومَ الاثنين، موقعَ مراقبة تديره قوات تركية، كان قد أُنشِئ كجزء من اتفاق وقف إطلاق النار الذي بموجبه يتواجدون لمراقبة أي تقدم لقوات الحكومة أو المتمردين، والذي خُرِق مراراً خلال العام الماضي. ردت أنقرة بقوة، فشنّت غاراتٍ ضد أهداف للنظام السوري، قالت تركيا إنها قتلت فيها عشرات الجنود، ولكن الأعداد على الأرجح أقل من ذلك.
في البداية، منعت نيرانُ المدفعية التركية التي تدعم دفاعات الثوّار في بلدة سراقب سقوطَ البلدة في يد النظام؛ ولكن تقدمَ قوات النظام نحو المنطقة الاستراتيجية، عند مفترق طرق رئيسة تصل غرب سوريا بباقي البلاد، نجحَ في النهاية في الاستيلاء على البلدة.
ليس من الإنصاف أن نُطلِق على تفجّر الأوضاع في الآونة الأخيرة “تصعيداً”؛ لأن ما يقرب من نصف مليون شخص قد فرّوا من منازلهم نحو الحدود التركية في الشهرين الماضيين جرّاء قصف قوات النظام والقوات الروسية. منذ أبريل/نيسان الماضي، استهدفت الهجمات أكثرَ من 70 موقعاً يقدّمون خدمات طبية، وأخليت بلداتٌ بكاملها من سكانها، وقُتِل مئات الأشخاص.
يضيف التدخل التركي مزيداً من عدم الاستقرار إلى موقف شديد الصعوبة في الأساس. فمن غير المرجح أن تصطدم أنقرة مع موسكو مباشرة؛ فبينهما الكثير من المصالح المشتركة، بما في ذلك خطوط نقل الطاقة، ومفاعل نووي تُنشِئه روسيا حالياً، إضافةً إلى غياب الحلفاء الغربيين بعد أشهر من التوتر في العلاقات بين تركيا وحلف شمال الأطلسيّ (ناتو)، مما أدى في نهاية المطاف إلى نشر نظام دفاع صاروخي روسي (S-400) في تركيا. إلّا أنّ التدخل التركي قد يؤدي، على المدى القصير، إلى تعطيل مؤقت للمذبحة القائمة في إدلب.
في ظل غياب ولو قدر ضئيل من العدالة، ومع استمرار بقاء الطاغية في سدة الحكم، لن يكون من الممكن تحقيق أي سلام طويل الأمد، بصرف النظر عن عدد الصواريخ الروسية أو البراميل المتفجرة التي تتساقط من السماء.
وقد يوفر تأخير التقدم السوري هدنة مؤقتة من الكارثة الإنسانية. فمنذ الربيع الماضي، نزح نحو 800 ألف شخص من مواطنهم؛ وتستضيف تركيا 4 ملايين لاجئ سوري بالفعل، وهي حقيقة كانت لها كلفتها السياسية على الرئيس رجب طيب أردوغان في الانتخابات البرلمانية والبلدية. فلن تستقبل تركيا مزيداً من اللاجئين.
تَزيد برودةُ الشتاء والازدحام عند الحدود، بينما يحزم مئاتٌ من المدنيين متعلقاتهم ويفرون من الموت المحقَّق ومن تردي الأوضاع. وتزداد أحوالهم بؤساً، فمعظمهم نازحين من مناطق أخرى من سوريا، اضطروا للتخلي عن منازلهم في صفقات استسلام، بدلاً من مواجهة عقاب النظام في حلب والغوطة الشرقية ودرعا ومناطق أخرى. إضافةً إلى هذا، فإنّ نحو نصف سكان إدلب من المدنيين (وعددهم 3 ملايين) هم من الأطفال.
إدلب من أواخر المناطق التي ما تزال خارج سيطرة النظام، بالإضافة إلى أجزاء من غرب حلب، وحزام متاخم للحدود الشمالية خاضع لسيطرة قوات تحارِب بالوكالة عن تركيا، بالإضافة إلى مناطق كردية بها وجود حكومي رمزي. فإدلب تحت سيطرة “هيئة تحرير الشام”، وهي هيئة كانت تتبع تنظيمَ “القاعدة” سابقاً.
لطالما كانت احتمالية إبرام صفقة سلام مع إدلب مستبعَدة، وهكذا كان الاستيلاء عليها من قِبَل وكلاء تركيا في سوريا، المنشغلين بتحقيق المصالح الاستراتيجية لأولياء نعمتهم بدلاً من أهداف الثورة، كقتال الميليشيات الكردية أو السفر للانضمام للمعارك في ليبيا. ولذا سيؤدّي التدخل التركي إلى تقوية موقفها من الناحية الجيوسياسية وتأخير تقدم الأسد.
غير أنّ التدخل التركي يُخفي حقيقة أخرى أكثر عمقاً: الأزمة السورية لم تنتهِ، والحرب لم تُحسَم بعد.
أفضى البؤس والمعاناة اللذان خيما على إدلب إلى تشتيت الانتباه عن الانهيار الاقتصادي الذي تشهده المناطق التي تسيطر عليها الحكومة، الأمر الذي خلف في أعقابه الكثير من مظاهر الفقر المدقع. فقد تراجع سعر صرف الليرة السورية من نحو 47 ليرة مقابل الدولار مع بداية الانتفاضة عام 2011 إلى 1200 ليرة للدولار في الوقت الراهن. فضلاً عن أن الاحتجاجات، والانهيار الاقتصادي، ونقص الدولار الذي شهده لبنان المجاور، هي أمور ساهمت في تفاقم الأزمة، حيث احتفظ العديد من السوريين الأثرياء بمدّخراتهم هناك. في حين لم تستطع الأسر العادية شراء الوقود اللازم لتدفئة منازلهم في فصل الشتاء القاسي.
لقد تمكن الأسد بدعم روسي من إعادة فرض سيطرته على معظم أنحاء البلاد في حملات تتسم بالوحشية الشديدة، مستخدماً عمليات الحصار والتجويع، والقصف المدفعي والجوي دون هوادة، بل وحتى الهجمات الكيميائية، ثم أعقب ذلك اتفاقيات استسلام. بيد أن هذه الانتصارات العسكرية لم تؤد إلى تخفيف حدة الأزمات الاقتصادية أو تعافي النظام من وضعه المنبوذ.
لا تزال العقوبات التي تفرضها الحكومة الأميركية والاتحاد الأوروبي قائمة، ومؤخراً أقرّ الكونجرس مجموعة أخرى من العقوبات المشددة رداً على جرائم الحرب التي ارتكبها النظام في إطار الموازنة الدفاعية الأميركية التي تضمنت ما يُعرف باسم “قانون قيصر لحماية المدنيين السوريين”، وقد سُمي هذا القانون نسبة إلى مصور عسكري سوري سرب صوراً توثق مقتل المواطنين بعد تعرضهم للتعذيب.
ولذا من المُستبعد أن تبدأ مئات المليارات من الدولارات من المساعدات الرامية إلى إعادة الإعمار في التدفق إلى سوريا دون الحاجة إلى إحراز أي تقدم على الأقل فيما يتصل بقضايا الإصلاح السياسي. ففي الوقت الذي لم تسفر فيه بعد اللجنة الدستورية التي استغرق تشكيلها سنوات من المفاوضات لاتخاذ قرارات تتعلق بالإصلاح، عن نتائج ملموسة، حلت عنوةً التطورات الجارية على أرض الواقع محل هذا التباطؤ والثقل. ورغم أنها تُعد الفرصة الوحيدة المتاحة حالياً في المدينة كوسيلة لإحداث تغيير حقيقي، فإن التقدم المحرز بطيء للغاية، لدرجة أنه لا يُشكل أهمية كبيرة على المدى القريب.
وجه غياب أموال إعادة الإعمار والعقوبات المشددة وعدم الاستقرار الاقتصادي في الإجمال ضربة قاسمة في صميم قدرة نظام الأسد على العمل كدولة، فضلاً عن أن ذلك يُعد خيانة للجماهير التي وقفت إلى جانب النظام في مواجهة أعدائه.
وفي الوقت نفسه، عانى الثوار من فشل تام في تحقيق أي من النتائج المرجوة للانتفاضة. ولا يزال عشرات الآلاف من الأشخاص في عداد المفقودين لا يُعرف مصيرهم، واختفوا في غياهب سجون الأسد. لا تزال الدولة الأمنية مسيطرة، ولا يزال الفساد والتربح واستغلال الحرب متفشياً. ولا يزال الوضع الأمني هشاً: فقد وقعت عمليات اغتيال في محافظة درعا الجنوبية، واندلعت احتجاجات صغيرة في السويداء ذات الأغلبية الدرزية، بالإضافة إلى التفجيرات الإسرائيلية بالقرب من دمشق، وغارات المتمردين بالقرب من حلب. وكل ما تغير هو أن المواطنين السوريين العاديين صاروا أكثر فقراً وأكثر معاناة، يرتجفون في بيوتهم من دون تدفئة بينما تُحلق الصواريخ الإسرائيلية فوق رؤوسهم، وكثيرون منهم يشعرون على نحو متزايد بخيبة الأمل واليأس تجاه مستقبلهم ومستقبل بلادهم.
لطالما كان اليأس وفقدان الأمل هو محور الحرب في سوريا – فقد كشفت تلك الحرب الفساد الأخلاقي الكامن في قلب النظام الدولي. إذ تعرض ما يكفي من المستشفيات للقصف، وجرد ما يكفي من المخابز والمدارس من الأساسيات، وانتكست حياة ما يكفي من الناس، وارتكبت الكثير من الأفعال الآثمة الشريرة التي مرت دون عقاب، لدرجة يبدو معها أن القواعد لم تعد تُشكل أي أهمية على الإطلاق.
لقد أظهر الدمار البطيء الذي شهدته سوريا للعالم أن ما يروى عن الخير المتأصل في الإنسانية والمجتمع الدولي المعني بالدفاع عن حقوق الإنسان، هو مجرد أساطير وخرافات. فلا يزال الضعفاء يقاسون بقدر ما يفرض عليهم من معاناة. وليس بالإمكان فعل شيء لمواجهة ذلك.
الواقع أن الجولة الأخيرة من العنف، والاقتصاد المنهار، والفقر المدقع الذي سلب العديد من السوريين الأمل في غد أفضل، أوضح جلياً تكلفة اضمحلال الفضيلة في العالم. ففي ظل غياب ولو قدر ضئيل من العدالة، ومع استمرار بقاء الطاغية في سدة الحكم، لن يكون من الممكن تحقيق أي سلام طويل الأمد، بصرف النظر عن عدد الصواريخ الروسية أو البراميل المتفجرة التي تتساقط من السماء.
هذا المقال مترجم عن foreignpolicy.com ولقراءة الموضوع الاصلي زوروا الرابط التالي