وإذا ما وضعنا جانباً دعوة المستشارة الإعلامية في القصر الجمهوري، بثينة شعبان، السوريين، في 5 حزيران، إلى الصمود كخيارٍ وحيد للتصدي لقيصر، فإن كلام المعلم الذي أتى بعد 6 أيام من دخول حزمات العقوبات الأولى، التي سيفرضها القانون حيز التنفيذ، لم يجد فيه السوريون سوى ما قرروه بأنفسهم من توجههم إلى الاعتماد على الذات. محاولات جادة، ثم دعوات أطلقها البعض بعد كلام شعبان، للاعتماد على الزراعات المنزلية لمواجهة قيصر، وهي دعوات تُظهر وكأن تعافي الاقتصاد والتغلب على المصاعب المعيشية يمكن أن يتحققا عبر تأمين بعض متطلبات العيش من خضروات، يمكنهم قطفها من على شرفات منازلهم وحسب.
وكان لافتاً أن السخرية التي قوبلت بها دعوة شعبان إلى الصمود، من الموالين قبل المعارضين، قد استبدلت بعد أيام بتبني الموالين خطابها، فتغيرت نبرة السخرية لدى كثيرين منهم إلى نبرةٍ جديةٍ تشدِّد على أهمية الصمود وتأمين أشكاله عبر زراعة المساحات الخالية، وحتى شرفات المنازل، بالخضروات من أجل مجابهة القانون. وربما يعود سبب تغير اللهجة الساخرة إلى خروج التظاهرات في السويداء، وربما إلى إيحاءٍ ما وصل لهؤلاء المؤيدين لتغيير خطابهم، وهم الذين يرزح 85 في المئة منهم تحت خط الفقر، بعدما خسرت ليرتهم قيمتها جراء ارتفاع سعر صرف العملات الأجنبية أضعافاً مضاعفة مقابلها، وبالتالي زيادة أسعار المواد الغذائية إلى درجةٍ غير مسبوقةٍ، أصبحوا بسببها عاجزين ليس عن الصمود، بل عن تأمين قوت أبنائهم.
أما الدعوة إلى الاتجاه نحو الزراعة، فربما يعود سببها إلى جاذبية الدعوة إلى العودة إلى الطبيعة الأم وتلبية النداء الأول، النداء الأزلي للتوحد مع الأرض. ولكن أي طبيعة وأي أرض تتوفّران لدى كثيرين لزراعتها والتعويض بها عن السلع التي تزداد أسعارها؟ وهل تتوقف حياة المواطن على تأمين بعض الخضروات التي لا تكفي لإعداد وجبة لشخصين إلا من خلال تجميعها ليومين أو ثلاثة، بسبب تقلص المساحات القابلة للزراعة بين الأبنية، أو حتى تقلص الأراضي الزراعية التي أهملها كثيرون؟ وذلك بسبب تغير شروط الزراعة فيها بعد غلاء أسعار البذور والأسمدة والأدوية الزراعية، علاوة على تغير أنماط العيش.
كان من الأجدر، والحالة هذه، الدعوة إلى دعم المزارع الذي غالباً ما يكون خاسراً في نهاية موسمه الزراعي بسبب ازدياد تكاليف الإنتاج. لكن الدعوة إلى دعم المزارع غير واردةٍ في بلادٍ لم يدخل في أبجديات اقتصادها، قبل الحرب، مبدأ الحمائية، أو بندُ دعم المنتجين، لضمان استمرار الإنتاج الوطني وتدفق السلع وتأمين حاجيات المواطنين، فكيف سيدخل الآن والمواطن يرى كل ما يحصل من حوله يهدف إلى تحطيمه وتهديم البنيان الذي شيده بعرقه، على رأسه ورؤوس الجميع؟
أثناء الحصار تشكِّل الدول الواقعة تحته خلايا أزمة وتعلن خطط طوارئ اقتصادية، شبيهة بخطط إعلان الحرب والتصدي لهجوم عسكري. وفي حالة سوريا، لم نرَ خططاً من هذا القبيل ولم نسمع عن تشكيل خلايا أزمة ما يدل على أن المواطن تُرك لمواجهة مصيره بيديه العاريتين. أما ما تحدث عنه وزير الخارجية، وليد المعلم، في مؤتمره الصحافي عن إجراءات لمواجهة العقوبات التي فرضها وسيفرضها قانون قيصر، فلم يأتِ على ذكر أيٍّ منها لكي يدخل الطمأنينة إلى قلب المواطنين، وهو ما يترك هذا المواطن فريسة التخمينات حول مصيره. أما المواطن الذي بدا واعياً لسبل التغلب على قيصر عبر إجراء تغييرات داخلية وإصلاحات، وبدء تطبيق بنود الحل السلمي وإدخال البلاد في عملية سياسية، يعرف أن كل ما يراه أو يسمعه لا يعدو أن يكون تأخيراً لهذا الحل.
وفي إشارة إلى عدم وجود نية لدى النظام لإجراء أي تغييرٍ داخليٍّ يوقف سريان هذا القانون، قال وليد المعلم: “معتادون على التعامل مع العقوبات الأحادية التي فُرضت علينا منذ 1978 تحت مسميات عدة، وصولاً إلى ما يسمى قانون قيصر”. قال “معتادون” ولم يقل “مستعدين”. وكلامه هذا لا يختلف سوى بالصياغة عن كلام شعبان ومطالبتها الشعب بالصمود. وليس هذا الأمر بجديدٍ على الشعب السوري، فالمواطنون الذين تركتهم حكومة بلادهم لوحدهم يواجهون المصاعب الحياتية غير المسبوقة، جعلتهم يفكرون، لوحدهم أيضاً، بسبل مواجهة تبعات هذا القانون، قبل أن تقوم هي بواجبها الذي تخلت عنه منذ بدء الحراك الشعبي عام 2011.
وفي هذا السياق، لم يأتِ المعلم على ذكر أي خطةٍ سيتبعها النظام من أجل التغلب على تبعات قيصر، سوى كلامه عن الاعتماد على الذات، الرنانة والفضفاضة. كما لم يقل إن كان النظام سيبدأ بتنفيذ بعض البنود المطلوبة، والمندرجة ضمن خطة الحل السياسي وفق القرار 2254، الصادر عن مجلس الأمن عام 2015، والذي يعد البدء بتنفيذها كفيلاً بدرء أخطار قيصر عن الشعب، ولا سيما منها الإفراج عن المعتقلين السياسيين، وعودة اللاجئين، بل قال “في ما يتعلق بالمسار السياسي نحن ملتزمون بهذا المسار”. لكنه لم يوضح كيف ولا أي البنود يتم تنفيذها. ويعرف الجميع أن بدء العملية السياسية التي ينص عليها القرار المذكور تتم بمشاركة الجميع، من نظام ومعارضة، في الداخل والخارج، لكنه قطع الطريق على هذه المشاركة بعدم اعترافه بمعارضة الخارج، بل واتهامها بالارتهان للسفارات ولحكومات الدول التي تتواجد فيها.
أشار المعلم إلى أن قانون قيصر سيكون فرصة للنهوض الاقتصادي عبر الاعتماد على الذات. ولكن، أين شروط الاعتماد على الذات، وأين البنية التحتية والاقتصاد البديل؟ أولم تكن سنوات الحرب التسع كافية للحكومات المتعاقبة للاعتماد على الذات، عبر تطبيق مبدأ الشفافية ومشاركة الجميع في القرار للبحث في بدائل في مجال الطاقة وإعادة عجلة الإنتاج إلى معامل القطاعين العام والخاص، التي توقفت بسبب عدم قدرتها على منافسة المنتج الأجنبي الذي أغرق الأسواق قبل الحرب وبعدها؟ وفَّرت الحرب “فرصة” للحكومة، للاعتماد على مصادر الطاقة البديلة، التي تبناها الأفراد وسبقوا الحكومة في تشييد تجهيزاتها، ودفعوا من مدخراتهم لتأمين الكهرباء لمنازلهم أو عياداتهم أو ورشهم الصغيرة، لكن الحكومة لم تقتدِ بمواطنيها. كانت تلك فرصتها، لكنها الآن تدعو المواطنين إلى اقتناص هذه الفرصة لقلع الورود وزراعة شتول البطاطا والبندورة والكوسا على شرفات منازلهم، لعلها تزهر لهم بعض الفرح، الذي لن يغني عن جوع.