ها قد مرَّت أيام عدة على تاريخ 20 نيسان، وهو الموعد المضروب لبعض السوريين المقيمين داخل البلاد ممن آمنوا بنظرية المؤامرة التي تحدَّثت عن أن فايروس كورونا ليس سوى غازٍ سيصل إلى ذروته في هذا التاريخ ثم يأخذ في التراجع بعد أن ينتهي مفعوله، لتعود الحياة إلى طبيعتها بعد انقشاعه، وهو ما لم يلاحظه أحد. ولا يزيد العجب لديك سوى عندما يخبروك أن مصدر المعلومة هو القضاء الأميركي “المستقل”، بحسب ما نقلت صفحات بعض السوريين على مواقع التواصل الاجتماعي، من دون أن يبيِّنوا ما علاقة القضاء بموضوعٍ لم يستطع العلم حتى الآن البتَّ فيه. وليس هذا سوى عيِّنةٍ مما سِيقَ من أخبارٍ ومعلوماتٍ مغلوطةٍ عن الفايروس وطريقة انتشاره وطبيعته ومطلقيه، ونظرية آمن بها بعض السوريين، على الرغم من خطورة الأخذ بها في جعلهم مستهترين، ما يتيح للفايروس القدرة على الانتشار.
وعلى الرغم من أن نشر هذه المعلومات ربما كان دافعه التعمية على عدم قدرة المؤسسات المختصّة على مواجهة انتشار الفايروس بسبب الأضرار التي لحقت بالقطاع الصحي بفعل الحرب، إلا أنه يندرج ضمن باب مصادرة الرأي النقدي لدى المتلقين، هذا العمل الذي لا يفعل في النهاية سوى المساهمة في ضرب منظومة التفكير لدى السوريين، في وقت هم أحوج ما يكونون فيه إلى تحصين ملكاتهم الذهنية التي تضررت بفعل الحرب وتبعاتها. لكن ومع حجم الضخ الإعلامي في القنوات التلفزيونية، والمقالات المدبَّجة التي تتحدث عن مؤامرة، والتي انتشرت وتكاثرت على المواقع الإخبارية وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، فأحاطت بالسوريين من كل اتجاه، تكمن الخطورة الفعلية المهددة للحياة، والتي ربما لم يلتفت إليها المسؤولون عن هذا الضخ، أو لم يولونها اهتماماً.
الفايروس عندما ينتشر لن يهتم لمن يوصِّفه أو بمن اكتشف أنه ظهر بفعل مؤامرة دولية، أو نتج عن عادات الأكل لدى بعض الأقوام، كل ما همه هو أن يعيش وينتشر ليحصد أرواح من لا يتَّقيه.
ومع أولى الأنباء التي تحدّثت عن ظهور حالاتٍ في سورية، توسَّل الشعب من حكومته شفافيةً في التعامل مع كورونا، لا لكي يطلب منها الاضطلاع بمسؤوليتها لمواجهته، بل لكي يقوم كل فردٍ في البلاد بدوره في منع تفشي المرض عبر اتباع إجراءات السلامة، وعبر تخزين المؤن، إن فُرِضَ الإغلاق وحظر التجوال الشامل. إذ يعرف الشعب الحال التي وصلت إليها المؤسسات بسبب الحرب، فلا يتوقع الكثير. ومع ذلك، لم تنتظر فئات كثيرة الضوء الأخضر من الحكومة لكي تتبع تلك الإجراءات، وبكَّروا بالتباعد الاجتماعي طوعيّاً، كما خزَّن المقتدرون المؤن تحسُّباً لعملية إغلاقٍ شامل، إن سُجِّلت إصابات في البلاد.
ومن بين السِّيَر التي تحدثت عن انتشار كورونا؛ يُعاد تكرار تلك التي تقول بأنه صُنع في أحد المختبرات الأميركية في أفغانستان على شكل غاز السارين، ثم تسرَّب إلى الجنود الأميركيين هناك، والذين نقلوه معهم إلى الصين خلال مشاركتهم في إحدى الفعاليات الرياضية في ووهان، أواخر العام الماضي. أما لدى مناقشة معتنقي هذه النظرية، فلا يمكنك مجادلتهم في صحتها، على الرغم من قولك إن الغاز يبقى على الأرض وفي الجو يومين على الأكثر، لا أشهر، علاوة على استحالة تولُّد كائنٍ حي، مثل الفايروس، من غاز. وعندما تقول إنه قد اتُّهِم بالإلحاد كل من اعتقد بفرضية تشكُّل الأحماض الأمينية التي بذرت الحياة على الأرض، حين ساهمت ظروف جوية محددة، وتفاعلات معقدة وطويلة في تشكُّل تلك الأحماض من الغازات التي عبق فيها جو الأرض، تجد لديهم الصمت الذي يعكس التناقض الداخلي، وربما الورطة.
إنها ورطة التصديق أو عدمه، مقترنةً بواقع خطورة المرض الذي بدأت السلطات الصحية في سورية بالكلام عنه وباتخاذ الإجراءات التي تحدُّ من انتشاره، فعلى أي جنب سينام هذا المواطن الخاضع للضخ الإعلامي، إن صدق ما يقال؟ وهل من السهل على من تماهى مع سرديات المؤامرة والإنكار أن يعود إلى تصديق جدية حكومته بالتوجيه لاتباع إجراءات السلامة، أو تنفيذ ما تطالبه به لتوخِّي الحيطة؟ لا بد إن هذه من اللحظات التي تتعدى لحظة الفايروس، وهي من الخطورة التي تتعدى خطورة كورونا، إنه فايروس التحجر الذي يمكن أن يتحكَّم بعقلية الناس ويجعل كل تغييرٍ بالنسبة لهم مهدداً للقناعات بسبب استمراء السائد ورفض الجديد. كما تتعدى هذا الملف لتزيد القناعة بأن الأمل بغدٍ مختلف أصبح مجرد حلمٍ، حلمٌ يصعب إيجاد من يتشاطرونه في وقتٍ يسهل فيه إيجاد كثرة رافضيه. ومع توقف العقل عن العمل والمحاكمة يصبح نقاش أي فكرة لمجرد إقناع شخص بضرورة اتباع ما يضمن سلامته شيء من العبث، فكيف بالعمل من أجل غدٍ مختلف.
لقد استسهل من أوصل السوريين إلى هذا الوضع، ضربَ الحس النقدي لديهم من أجل تمرير ما يريد من آراء وأفكار من دون أي نقاش فتصبح، على الرغم من المغالطات العلمية واللامعقولية، من المسلمات. وهنا يكمن تهديد منظومة التفكير العقلاني التي اكتسبها الفرد، والتي تبقت له من تعليمه بمراحله كافة، والتي تتعزز وتتطور من خلال تنمية ثقافته ومعارفه. فكل ما حصَّله الفرد من تعليمه وثقافته يمكن لمسه في منهج تفكيره الذي يتسلح به لملاقاة حياته العملية. ويكون ضربُ التفكير عبر ضرب العلاقة بين المعطيات والنتائج. وفي ظرف السوريين، لم يعد الفرد ينطلق مما بين يديه من معطياتٍ وجزئياتٍ لتكوين مفاهيم عامة. كما تنازل عن أبسط العمليات العقلية، عن الفرز والتحليل والتركيب التي يستخدمها العقل الغض من فوره لدى استقباله أي معلومة، للوصول إلى الفهم المراد. وبذلك يكون قد استسلم لما يتلقاه من تحليلات نجوم التحليل السياسي في قنوات تلفزيونه الوطني، أو القنوات الرديفة.
الصدمة الأولى التي تلقتها منظومة التفكير لدى السوريين، وخصوصاً بداية سنة 2011، مع أولى شرارات الحرب، كانت الخوف الذي أدى إلى فقدان الثقة بالنفس. ما حجَّم الطاقات الفكرية وأفقد الفرد القدرة على ممارسة التفكير النقدي للإفلات من حالة الاستقطاب التي سادت المجتمع السوري طيلة السنوات التسع الماضية. من حينها حُرِم كثيرون من التفكير الحر غير المُتحيِّز. وأُخلِيَت الساحة للمحللين يتحدثون عن المؤامرة التي اكتشفوها حتى قبل بدء الحرب، لكنهم لم يتحدثوا عما فعلوه لمواجهتها على أرضها قبل أن تصلهم. وتكرر هذا الأمر، مع كشفهم مؤامرة كورونا التي بدا أنهم آثروا الصمت عنها إلى أن ابتلى بها من ابتلى.
عادة، في موضوع التحليل السياسي، لا يلتزم بعض المحللين بالصوابية السياسية (Political correctness) في تحليلهم بغية حصد المؤيدين والسيطرة على تفكيرهم، لكن هذا الالتزام مطلوبٌ عندما يتعلق الأمر بحياة البشر، بفعل المسؤولية الأخلاقية. والفايروس عندما ينتشر لن يهتم لمن يوصِّفه أو بمن اكتشف أنه ظهر بفعل مؤامرة دولية، أو نتج عن عادات الأكل لدى بعض الأقوام، كل ما همه هو أن يعيش وينتشر ليحصد أرواح من لا يتَّقيه.