بعد شهر على سقوط نظام الأسد، نجد أنفسنا أمام أسئلة اليوم التالي الملحة. وللإجابة عنها لا بد لنا من التفكير بهدوء وعمق، وهو ما لم يسمح به الشهر الأول المضطرب بالمشاعر والتقلبات والتفاؤلات والتشاؤمات والإشاعات والاحتفالات. قد نكون اليوم أقدر على التفكير، ولكن السؤال الأهم كيف نغير آلية تفكيرنا، وقد اعتدنا على تحديدها برقيب داخلي لا ينام ولا يكف عن العمل؟
عندما وصلت إلى فرنسا لاجئة، بدأت أفكر بطريقة لابتداع مشاريع فنية يمكنني تصويرها، بعد أن خسرت موقع تصويري الأثير: سوريا، وطورنا بالتعاون مع “راديو سوريالي” حينها، مشروعاً أسميناه “أبو فاكر فوياج”، يروي فيه الحكواتي أبو فاكر (الممثل بسام داوود) حكاية الثورة الفرنسية لاستخلاص العبر من التجربة، وتطبيق ما يمكن تطبيقه على ثورتنا المستمرة في حينه.
في يوم التصوير الأول، كنا بحاجة أن نصوّر في قصر فرساي الملكي، وكنت قد سألت عن آلية الحصول على موافقة للتصوير، واتضح أن الأمر مكلف للغاية، ويتطلب شركة إنتاج مسجلة فرنسياً، ويأخذ وقتاً طويلاً. وبما أننا مجموعة من الفنانين الذين يعملون بشكل مستقل، وسنعرض نتاج عملنا على “يوتيوب”، قررنا أن نغامر وننطلق للتصوير من دون موافقة.
في يوم التصوير الأول، أثناء عملنا، مرت سيارة شرطة، تجول عادة في القصر للتأكد من عدم تجاوز الزوار القانون، وبمجرد أن اقتربت منا، ركضت هاربة، تاركة بقية الفريق الذين لا يتحدثون الفرنسية، وبالطبع لم تتوقف السيارة، ولم تسألنا لِمَ نصور.
يومها اكتشفت، أن عدم وجودي تحت سلطة نظام الأسد، لم ينزع من قلبي الرعب الذي رباه فينا النظام المخلوع على مر حياتنا، وأن تجاوز كل ذلك لن يكون إلا بعمل دؤوب ومستمر لمكافحة هذا الخوف، وقتل الرقيب القابع في داخلي.
مرت سنوات عشرة، وما زلت حتى اليوم أشعر بذلك الرقيب يقفز من داخلي في لحظات مفاجئة، ويدفعني إلى التردد، خاصة في ما أكتب، لكنني عودت نفسي على أن أحاربه، بأن أكتب عكس إرادته، بأن أعتبر خفقان قلبي المفاجئ دليلاً على أن فكرتي جيدة ولا بد من المضي بها قدماً.
اليوم، يجد السوريات والسوريون أنفسهم أمام التحدي نفسه داخل بلدهم الأم، تحدي التغلب على الرقيب الداخلي، تحدي الإقدام على مشاريع كانت تبدو ممنوعة، تحتاج إلى موافقة، تتطلب أن نحصل لها على إذن، وأمام تحد أكبر، هو أن نترك لأفكارنا العنان لتنطلق بحرية في كل الاتجاهات.
لدي أمل بأن نستطيع كسوريين أن نرسي نموذجاً يحتذى في تاريخ الثورات، بأن نستطيع أن نبتكر نموذجاً خاصاً بنا، يستمد إلهامه وعلمه من دراسة كل التجارب التي سبقتنا بأخطائها ونجاحاتها.
أتخيل العاملين والعاملات في الثقافة والفن اليوم، وهم يحاربون رقباءهم الداخليين، ويسمحون لأنفسهم بالخيال. ويفاجئني أن أراهم يملأون جدران المدن الجامعية باللوحات، يلونون مدنهم، يعرضون على كل المسارح، يغنون، ويرقصون، ويتحدثون، ويقدمون فن “الستاند آب كوميدي”، وأحسدهم على سرعتهم في تجاوز الخوف، فيما كانت رحلتي بطيئة ومضنية.
ورغم كل الجوانب المضيئة، إلا أنني ما زلت أحلم بالمزيد، أحلم بأن تصبح الأماكن العامة كلها أماكن عروض فنية، أحلم بأن يستطيع كل فنان أن يعبّر بطريقته ورؤيته، وأحلم بالضرورة بشباب سوري لا يعرف الخوف، أحلم بجيل لا يعرف رعبنا أصلاً، لا يتربى في داخله رقيب، ويكبر وهو حر بالمعنى المطلق، لكي يفكر ويبدع ويتعلم.
يبدو اليوم الجيل الشاب في سوريا أقدر على تجاوز خوفه، فيما يكبر الرقيب داخله كلما كبر سنه، إذ تطول سنوات مكوثه في القلوب، وقد تطول لتشمل كل سنوات حكم الأسد، لكنني أتمنى أن يستطيع الجيل الأكبر أيضاً أن يتجاوز رقيبه، لأن الجيل الصاعد بحاجة إلى المساندة، بحاجة إلى خبرة الأجيال التي سبقته وإلى معرفتها وعمقها، وقد تكون لتجربة اللجوء الأوروبي فضيلة، أن الكثيرين من المقيمين في أوروبا استطاعوا تدريجياً تجاوز هذا الخوف ومواجهته.
التحديات التي تواجه سوريا اليوم، لا يمكن حصرها، ومواضيعها تتشعب، من العدالة الانتقالية إلى بناء الدولة بمعناها العام والتفصيلي، من كتابة الدستور إلى تأمين الخدمات، فمواجهة هذه التحديات تتطلب الكثير من الإبداع، إذ لا ينحصر الإبداع الفكري في الثقافة والفن، بل يتسع ليشمل الحلول المبتكرة، والأفكار التي تولد من رحم المجتمع وطبيعته وفهم سياقاته المعقدة.
لدي أمل بأن نستطيع كسوريين أن نرسي نموذجاً يحتذى في تاريخ الثورات، بأن نستطيع أن نبتكر نموذجاً خاصاً بنا، يستمد إلهامه وعلمه من دراسة كل التجارب التي سبقتنا بأخطائها ونجاحاتها.
يجب ألا يمنعنا الاضطراب الذي لحق لحظة سقوط النظام المدوية والمفاجئة، والتحديات الهائلة اليوم، من تقديم أولوية التفكير. التفكير بهدوء وروية، التفكير كل في اختصاصه ومجاله، وكل على حدة، وكمجموعات لا بد أن تتشكل وتتضافر، لكي نستطيع إيجاد الحلول للمعضلات التي تواجهنا واحدة تلو الأخرى، من دون استعجال، من دون حلول مؤقتة، فالفرصة التي أتيحت لنا اليوم، قد لا تتكرر سوى مرة في دورة تاريخ واحدة.
نحن نبني دولة من تحت الصفر، نقوم بإعادة تشكيلها، وأحب أن أتخيل الأمر، بأن كلاً منا، سيشارك بتجربته الشخصية في البناء بقطعة من هذا المبنى، يضعها في مكانها الصحيح والمناسب فيتشكل ذلك البناء ليصبح شبهنا، ويتلون بألواننا، على شكل تراثنا وتاريخنا وحضارتنا، يمثلنا جميعاً، ويتحول شيئاً فشيئاً إلى عمل فني مرموق يزوره العالم كله، كي يعجب ببنّائيه المبتكرين.
إقرأوا أيضاً: