ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

سوريا مسرح لتحوّلات “رجال الأسد” و”جهاديي الفصائل”!

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

انتقادات كثيرة طاولت “انتخابات” مجلس الشعب السوري، لكن لعل أبرزها، تسلل بعض المتهمين بارتكاب جرائم أو “المحسوبين على النظام البائد” بين المرشحين، خصوصاً بعض”رجال الأسد”، المُعاد تدويرهم، والذين، بعد سقوط النظام، استبدلوا لافتات “قائدنا للأبد” بملصقات “الحياة المشتركة”، خصوصاً في مناطق الساحل.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

منذ فرار بشار الأسد في كانون الأول/ ديسمبر 2024 وتولّي “هيئة تحرير الشام” سابقاً الحكم في المناطق التي كانت خاضعة لنظام الأسد، شهدت الساحة السورية تحوّلات سريعة وصاخبة. هرب قسم كبير من رموز النظام السابق خارج البلاد، وأُلقي القبض على بعضهم، بينما نجح آخرون (أقل شهرةً) في العودة إلى المشهد السوري إمّا علناً أو عبر قنوات غير مباشرة.

هذه العودة، مهدت لها العبارة الشهيرة التي روّجتها السلطة الجديدة في الأشهر الأولى من سقوط النظام: “اذهبوا فأنتم الطلقاء”، منذ تلك اللحظة، بدا واضحاً أن ثمة استخفافاً بدماء الضحايا ومعاناة ذويهم، تحت ذريعة “حقن الدماء” و”إغلاق باب الفتن”.

هذا “العفو” وما ترافق معه من إفلات من العقاب، وتجاهل لمفهوم العدالة الانتقاليّة، ينسحب أيضاً على الميليشيات المسلّحة التي كانت تشكل “المعارضة السوريّة”، والتي انضوت تحت وزارة الدفاع. وعلى أثر هذا “العفو المزدوج” إن صح التعبير، ظهرت على الساحة شخصيات وفاعلون ارتبطوا مباشرة بالعنف السابق بأدوار مدنية، تُسَوَّق تحت عناوين براقة مثل “المصالحة” و”بناء السلام”، وبعضهم تحوّل إلى عاملين بالشأن المدني والإغاثي. 

هل هي  انتخابات “إعادة التدوير”؟

انتقادات كثيرة طاولت “انتخابات” مجلس الشعب السوري، لكن لعل أبرزها، تسلل بعض المتهمين بارتكاب جرائم أو “المحسوبين على النظام البائد” بين المرشحين، خصوصاً بعض”رجال الأسد”، المُعاد تدويرهم، والذين، بعد سقوط النظام، استبدلوا لافتات “قائدنا للأبد” بملصقات “الحياة المشتركة”، خصوصاً في مناطق الساحل.

لم يغب فادي صقر عن الساحة في الساحل السوري، بل تكرر اسمه على صفحات الفيسبوك، بوصفه العرّاب الخفي لبعض ترشيحات المجلس الجديد. والمفارقة أيضاً، أن بين الفائزين وجوهاً يعرفها السوريون عن ظهر حرب، ممن كانوا إلى الأمس القريب يصفّقون لمدافع الأسد، ثم ظهروا فجأة بصفة مرشحين عن “المرحلة الانتقالية”. لم يفاجأ أحد، فالذاكرة السورية قصيرة بقدر ما هي منهكة.

ربما تسلّل إلى مجلس الشعب الكثيرين ممن اعتادوا الهتاف لا الحوار، ومن تمرّسوا على التصفيق أكثر مما تمرّنوا على التشريع،  بعض “شبيحة” الأمس من الطرفين صاروا “صنّاع قرار”، وبعض مطبلي السلطة الجديدة صاروا “صوت الثوار”، والنتيجة انسحابات متعددة ومقاطعة لـ”الانتخابات” في عدد من المناطق السورية، والسبب إما مرشحون محسوبون على الأسد، أو آخرون محسوبون على الهيئة!

وعلى رغم نفي نوار نجمة، المتحدث باسم الهيئة العليا لانتخابات مجلس الشعب، وجود أي موالين سابقين لنظام الأسد ضمن مجلس الشعب، إلا أن عدداً منهم فاز في الانتخابات، أما الشبيحة الجدد فلم يضع هتاف أحدهم للشرع سدى في الجلسات الحوارية (بايعناك)، فقد نال مقعداً في المجلس.

لا تنفي عملية “إعادة التدوير” والولاءات المتعددة وجود مرشحين ذوي ماضٍ وبرنامج انتخابي يثيران الإعجاب، لكن في الوقت ذاته، الترشيح لم يكن مفتوحاً للجميع، ولا التصويت، وجعلت سلطة “الشرع” في التعيين الانتخابات أقرب إلى “مسرحيّة”. لكن، هل نتجاوز “العدالة الانتقالية” في سبيل “مجلس تشريعي” حسب التسمية الجديدة التي يطالب البعض بها؟

كيف عاد “رجال الأسد” إلى الواجهة؟

أخذت إعادة تدوير رجال الأسد ومسلحّي الفصائل مسارين أساسيين: سياسياً و اقتصادياً. بالنسبة الى رجال الأسد، تم الأمر عبر صفقات وتسويات مالية مع رجال أعمال بارزين كانوا واجهات للنظام السابق، أو عبر العفو أو التسويات مع مقاتلين أو شخصيات متهمة بارتكاب انتهاكات جسيمة. بررت السلطة الجديدة هذه الترتيبات بضرورات “حقن الدماء” و”إغلاق باب الفتن”، لكن الجوهر يعكس تغليب الاستقرار السريع على حساب المساءلة والعدالة.

بدأت آليات إعادة تأهيل الأثرياء الذين كوّنوا ثرواتهم في حقبة الأسد، عبر صفقات مالية  مع أبو مريم الأسترالي، أو “تبرعات رمزية”، فسُمح لهؤلاء بالاحتفاظ بقسم من ثرواتهم والانخراط مجدداً في المشهد الجديد. 

وكمثال صارخ، شاهدنا جميعاً محمد حمشو في دمشق، ثم أبناءه يتبرعون بمبالغ مالية في حملة أقيمت داخل قلعة دمشق، ولم يقف الأمر عند حمشو وحده، بل انضم إليه المرسومي وآخرون ممن دعموا الميليشيات الإيرانية، ليعودوا اليوم بصفة “مستثمرين” و”داعمين لإعمار سوريا الحرة”. لكن السؤال المرير يطرح نفسه: من سيحاسب هؤلاء؟ وهل يُعفى الدعم المالي السابق لنظام الأسد من المساءلة؟

الطريق  المعبّد إلى المجتمع المدني

لم يكن الأمر محصوراً برجال الأعمال، فالكثير من المقاتلين في صفوف “المعارضة المتشددة” تركوا السلاح واتجهوا للعمل في المنظمات المدنية. وعلى رغم أن هذا الانتقال كان يستوجب معايير صارمة لإعادة التأهيل، إلا أنه تم بسهولة لافتة في مناطق “الشمال المحرر” سابقاً. وهكذا تحول مقاتلون مارسوا التهديد والقتل سابقاً، إلى دعاة “التسامح” و”التعايش السلمي”، وحُصرت العدالة الانتقالية بـ”جرائم الأسد”، ما رآه البعض “صفحاً” غير مستحق، يطبق بالانضمام إلى “وزارة الدفاع السوريّة”.

التقارير الحقوقية الكثيرة وثّقت انتهاكات جسيمة ارتكبتها فصائل مثل “الزنكي” و”الجيش الوطني” في مناطق مختلفة من سوريا. وعلى رغم ذلك، عاد أفراد من هذه الفصائل للظهور في منظمات المجتمع المدني بعد سقوط الأسد، وهم يرفعون خطاباً معاكساً تماماً لماضيهم. لكن هذا التحوّل لم يترافق مع اعتراف بالمسؤولية أو اعتذار علني للضحايا وذويهم، بل اكتفى أصحابه بتغيير القناع.

وهنا لم تكن المفارقة في مجرد التحوّل، بل في طريقة تسويقه إعلامياً، إذ تتحدث وسائل الإعلام الجديدة عن هؤلاء وكأنهم “قصص نجاح في التحوّل من العنف إلى السلم”، متجاهلة أن الضحايا أنفسهم يرون من ساهم في قتل أبنائهم سابقاً، يوزعون منشورات عن العدالة وحقوق الإنسان، أو يوزعون سللاً إغاثية لأناس ساهموا في تهجيرهم سابقاً. 

ولم يكن مقاتلو المعارضة وحدهم في هذا المسار، بل رأينا أيضاً عناصر من ميليشيات الأسد والدفاع الوطني يعملون في فرق تطوعية لمساعدة الساحل المنكوب بعد “آذار الأسود”، وبعضهم صار من “ناشطي السلم الأهلي”. وللمفارقة، ظهر أحدهم علناً شاكراً أحد رموز المجازر في سوريا الذي سوّت الإدارة الجديدة وضعه لـ”دوره في حقن الدماء”.

اللغة القديمة في قوالب جديدة

لم يعد المقاتلون القدامى في صفوف المعارضة يظهرون بلباسهم العسكري أو بشعارات جهادية، بل استُبدل ببذلات رسميّة، كذلك المحسوبون على نظام الأسد، تحولوا إلى ناشطين خفيفي الظلّ، يتحركون بثيابهم الرياضية بين المناطق المنكوبة، هذا بالذات ما سمح باستمرار المحسوبيات والوشايات و”تقارير الولاء” في مؤسسات الدولة الجديدة، التي قُسِّمت بين الولاءات والتزكيات، وكأننا أمام إعادة إنتاج كاملة للبنية الفكرية التي بررت العنف سابقاً.

ما سبق، نتج منه التساهل في تطبيق العدالة وملاحقة المتهمين في جرائم ارتكبت في عهد الأسد، وأخرى في الساحل والسويداء، والتقصير في ملاحقة حالات الخطف والقتل شبه اليومية التي تشهدها المناطق السورية المتوترة طائفياً، واستبدال العدالة الواضحة والعلنيّة، بسياسة “تبويس الشوارب” والضمانات الشفهية، في محاولة من السلطة التوفيق بين الماضي الجهادي/ الميليشياوي وبين الحاضر المدنيّ  المُفترض!

ظهرت التحولات بوضوح في مجازر الساحل والسويداء، حيث خلع الكثيرون القناع المعتدل الذي اضطروا لارتدائه مع “التحرير”، وشاركوا في “الفزعة”،  ثم عادوا الى “العمل”كـ”مؤثرين” على شبكات التواصل الاجتماعي، في دفاع مستميت عن السلطة الجديدة، وخطابات “الوحدة الوطنية” ما بعد المجزرة.

نحن  أمام عملية “إعادة تدوير” بامتياز، كما يُعاد تدوير البلاستيك ليُصبح زجاجة ماء جديدة، أُعيد تدوير مقاتلين ليُصبحوا ناشطين مدنيين. الفرق الوحيد أن البلاستيك معاد التدوير يُحافظ على البيئة، أما هؤلاء فيُحافظون على المنظومة نفسها.

العدالة ليست شعاراً يُرفع في ورشة، ولا عبارة تُخطّ على بوستر، ولا ريلات وتسجيلات قصيرة تُنشر على وسائل التواصل الاجتماعي، بل مسار طويل يتطلب مواجهة الماضي بشجاعة، الاعتراف بالمسؤولية، وتفكيك البنى التي غذّت العنف لعقود. قد تتغير الأقنعة، لكن الدماء لا تجف بالشعارات، ولا تُمحى المجازر بصفقات “تسوية” تُعقد في الغرف المغلقة أو أخبار عن محاكمات لم تُجرَ بعد، ولا نقصد “المحاكمات الاستعراضية” التي تبثها وزارة الداخلية، بل تلك التي تمس فئة كبيرة من المنتهكين سواء قبل سقوط النظام من رجالات الأسد، أو بعده من المتهمين بارتكاب مجازر الساحل والسويداء. 

جنى بركات - صحافية لبنانية | 14.11.2025

“ستارلينك” لبنان: ما علاقتها بوزير الاتّصالات وبالشبهات المرتبطة بمعاقَب أميركياً؟ 

مع دخول "ستارلينك" إلى لبنان، برزت إشكالية حول مساعي الشركة الأميركية للتعاقد مع "Connect Services Liberia" كموزّع لخدمات "ستارلينك" في لبنان، من دون فتح باب المنافسة بين الشركات الأخرى، وهي الشركة التي سبق أن ترأّسها وزير الاتّصالات الحالي شارل الحاج. 
07.10.2025
زمن القراءة: 5 minutes

انتقادات كثيرة طاولت “انتخابات” مجلس الشعب السوري، لكن لعل أبرزها، تسلل بعض المتهمين بارتكاب جرائم أو “المحسوبين على النظام البائد” بين المرشحين، خصوصاً بعض”رجال الأسد”، المُعاد تدويرهم، والذين، بعد سقوط النظام، استبدلوا لافتات “قائدنا للأبد” بملصقات “الحياة المشتركة”، خصوصاً في مناطق الساحل.

منذ فرار بشار الأسد في كانون الأول/ ديسمبر 2024 وتولّي “هيئة تحرير الشام” سابقاً الحكم في المناطق التي كانت خاضعة لنظام الأسد، شهدت الساحة السورية تحوّلات سريعة وصاخبة. هرب قسم كبير من رموز النظام السابق خارج البلاد، وأُلقي القبض على بعضهم، بينما نجح آخرون (أقل شهرةً) في العودة إلى المشهد السوري إمّا علناً أو عبر قنوات غير مباشرة.

هذه العودة، مهدت لها العبارة الشهيرة التي روّجتها السلطة الجديدة في الأشهر الأولى من سقوط النظام: “اذهبوا فأنتم الطلقاء”، منذ تلك اللحظة، بدا واضحاً أن ثمة استخفافاً بدماء الضحايا ومعاناة ذويهم، تحت ذريعة “حقن الدماء” و”إغلاق باب الفتن”.

هذا “العفو” وما ترافق معه من إفلات من العقاب، وتجاهل لمفهوم العدالة الانتقاليّة، ينسحب أيضاً على الميليشيات المسلّحة التي كانت تشكل “المعارضة السوريّة”، والتي انضوت تحت وزارة الدفاع. وعلى أثر هذا “العفو المزدوج” إن صح التعبير، ظهرت على الساحة شخصيات وفاعلون ارتبطوا مباشرة بالعنف السابق بأدوار مدنية، تُسَوَّق تحت عناوين براقة مثل “المصالحة” و”بناء السلام”، وبعضهم تحوّل إلى عاملين بالشأن المدني والإغاثي. 

هل هي  انتخابات “إعادة التدوير”؟

انتقادات كثيرة طاولت “انتخابات” مجلس الشعب السوري، لكن لعل أبرزها، تسلل بعض المتهمين بارتكاب جرائم أو “المحسوبين على النظام البائد” بين المرشحين، خصوصاً بعض”رجال الأسد”، المُعاد تدويرهم، والذين، بعد سقوط النظام، استبدلوا لافتات “قائدنا للأبد” بملصقات “الحياة المشتركة”، خصوصاً في مناطق الساحل.

لم يغب فادي صقر عن الساحة في الساحل السوري، بل تكرر اسمه على صفحات الفيسبوك، بوصفه العرّاب الخفي لبعض ترشيحات المجلس الجديد. والمفارقة أيضاً، أن بين الفائزين وجوهاً يعرفها السوريون عن ظهر حرب، ممن كانوا إلى الأمس القريب يصفّقون لمدافع الأسد، ثم ظهروا فجأة بصفة مرشحين عن “المرحلة الانتقالية”. لم يفاجأ أحد، فالذاكرة السورية قصيرة بقدر ما هي منهكة.

ربما تسلّل إلى مجلس الشعب الكثيرين ممن اعتادوا الهتاف لا الحوار، ومن تمرّسوا على التصفيق أكثر مما تمرّنوا على التشريع،  بعض “شبيحة” الأمس من الطرفين صاروا “صنّاع قرار”، وبعض مطبلي السلطة الجديدة صاروا “صوت الثوار”، والنتيجة انسحابات متعددة ومقاطعة لـ”الانتخابات” في عدد من المناطق السورية، والسبب إما مرشحون محسوبون على الأسد، أو آخرون محسوبون على الهيئة!

وعلى رغم نفي نوار نجمة، المتحدث باسم الهيئة العليا لانتخابات مجلس الشعب، وجود أي موالين سابقين لنظام الأسد ضمن مجلس الشعب، إلا أن عدداً منهم فاز في الانتخابات، أما الشبيحة الجدد فلم يضع هتاف أحدهم للشرع سدى في الجلسات الحوارية (بايعناك)، فقد نال مقعداً في المجلس.

لا تنفي عملية “إعادة التدوير” والولاءات المتعددة وجود مرشحين ذوي ماضٍ وبرنامج انتخابي يثيران الإعجاب، لكن في الوقت ذاته، الترشيح لم يكن مفتوحاً للجميع، ولا التصويت، وجعلت سلطة “الشرع” في التعيين الانتخابات أقرب إلى “مسرحيّة”. لكن، هل نتجاوز “العدالة الانتقالية” في سبيل “مجلس تشريعي” حسب التسمية الجديدة التي يطالب البعض بها؟

كيف عاد “رجال الأسد” إلى الواجهة؟

أخذت إعادة تدوير رجال الأسد ومسلحّي الفصائل مسارين أساسيين: سياسياً و اقتصادياً. بالنسبة الى رجال الأسد، تم الأمر عبر صفقات وتسويات مالية مع رجال أعمال بارزين كانوا واجهات للنظام السابق، أو عبر العفو أو التسويات مع مقاتلين أو شخصيات متهمة بارتكاب انتهاكات جسيمة. بررت السلطة الجديدة هذه الترتيبات بضرورات “حقن الدماء” و”إغلاق باب الفتن”، لكن الجوهر يعكس تغليب الاستقرار السريع على حساب المساءلة والعدالة.

بدأت آليات إعادة تأهيل الأثرياء الذين كوّنوا ثرواتهم في حقبة الأسد، عبر صفقات مالية  مع أبو مريم الأسترالي، أو “تبرعات رمزية”، فسُمح لهؤلاء بالاحتفاظ بقسم من ثرواتهم والانخراط مجدداً في المشهد الجديد. 

وكمثال صارخ، شاهدنا جميعاً محمد حمشو في دمشق، ثم أبناءه يتبرعون بمبالغ مالية في حملة أقيمت داخل قلعة دمشق، ولم يقف الأمر عند حمشو وحده، بل انضم إليه المرسومي وآخرون ممن دعموا الميليشيات الإيرانية، ليعودوا اليوم بصفة “مستثمرين” و”داعمين لإعمار سوريا الحرة”. لكن السؤال المرير يطرح نفسه: من سيحاسب هؤلاء؟ وهل يُعفى الدعم المالي السابق لنظام الأسد من المساءلة؟

الطريق  المعبّد إلى المجتمع المدني

لم يكن الأمر محصوراً برجال الأعمال، فالكثير من المقاتلين في صفوف “المعارضة المتشددة” تركوا السلاح واتجهوا للعمل في المنظمات المدنية. وعلى رغم أن هذا الانتقال كان يستوجب معايير صارمة لإعادة التأهيل، إلا أنه تم بسهولة لافتة في مناطق “الشمال المحرر” سابقاً. وهكذا تحول مقاتلون مارسوا التهديد والقتل سابقاً، إلى دعاة “التسامح” و”التعايش السلمي”، وحُصرت العدالة الانتقالية بـ”جرائم الأسد”، ما رآه البعض “صفحاً” غير مستحق، يطبق بالانضمام إلى “وزارة الدفاع السوريّة”.

التقارير الحقوقية الكثيرة وثّقت انتهاكات جسيمة ارتكبتها فصائل مثل “الزنكي” و”الجيش الوطني” في مناطق مختلفة من سوريا. وعلى رغم ذلك، عاد أفراد من هذه الفصائل للظهور في منظمات المجتمع المدني بعد سقوط الأسد، وهم يرفعون خطاباً معاكساً تماماً لماضيهم. لكن هذا التحوّل لم يترافق مع اعتراف بالمسؤولية أو اعتذار علني للضحايا وذويهم، بل اكتفى أصحابه بتغيير القناع.

وهنا لم تكن المفارقة في مجرد التحوّل، بل في طريقة تسويقه إعلامياً، إذ تتحدث وسائل الإعلام الجديدة عن هؤلاء وكأنهم “قصص نجاح في التحوّل من العنف إلى السلم”، متجاهلة أن الضحايا أنفسهم يرون من ساهم في قتل أبنائهم سابقاً، يوزعون منشورات عن العدالة وحقوق الإنسان، أو يوزعون سللاً إغاثية لأناس ساهموا في تهجيرهم سابقاً. 

ولم يكن مقاتلو المعارضة وحدهم في هذا المسار، بل رأينا أيضاً عناصر من ميليشيات الأسد والدفاع الوطني يعملون في فرق تطوعية لمساعدة الساحل المنكوب بعد “آذار الأسود”، وبعضهم صار من “ناشطي السلم الأهلي”. وللمفارقة، ظهر أحدهم علناً شاكراً أحد رموز المجازر في سوريا الذي سوّت الإدارة الجديدة وضعه لـ”دوره في حقن الدماء”.

اللغة القديمة في قوالب جديدة

لم يعد المقاتلون القدامى في صفوف المعارضة يظهرون بلباسهم العسكري أو بشعارات جهادية، بل استُبدل ببذلات رسميّة، كذلك المحسوبون على نظام الأسد، تحولوا إلى ناشطين خفيفي الظلّ، يتحركون بثيابهم الرياضية بين المناطق المنكوبة، هذا بالذات ما سمح باستمرار المحسوبيات والوشايات و”تقارير الولاء” في مؤسسات الدولة الجديدة، التي قُسِّمت بين الولاءات والتزكيات، وكأننا أمام إعادة إنتاج كاملة للبنية الفكرية التي بررت العنف سابقاً.

ما سبق، نتج منه التساهل في تطبيق العدالة وملاحقة المتهمين في جرائم ارتكبت في عهد الأسد، وأخرى في الساحل والسويداء، والتقصير في ملاحقة حالات الخطف والقتل شبه اليومية التي تشهدها المناطق السورية المتوترة طائفياً، واستبدال العدالة الواضحة والعلنيّة، بسياسة “تبويس الشوارب” والضمانات الشفهية، في محاولة من السلطة التوفيق بين الماضي الجهادي/ الميليشياوي وبين الحاضر المدنيّ  المُفترض!

ظهرت التحولات بوضوح في مجازر الساحل والسويداء، حيث خلع الكثيرون القناع المعتدل الذي اضطروا لارتدائه مع “التحرير”، وشاركوا في “الفزعة”،  ثم عادوا الى “العمل”كـ”مؤثرين” على شبكات التواصل الاجتماعي، في دفاع مستميت عن السلطة الجديدة، وخطابات “الوحدة الوطنية” ما بعد المجزرة.

نحن  أمام عملية “إعادة تدوير” بامتياز، كما يُعاد تدوير البلاستيك ليُصبح زجاجة ماء جديدة، أُعيد تدوير مقاتلين ليُصبحوا ناشطين مدنيين. الفرق الوحيد أن البلاستيك معاد التدوير يُحافظ على البيئة، أما هؤلاء فيُحافظون على المنظومة نفسها.

العدالة ليست شعاراً يُرفع في ورشة، ولا عبارة تُخطّ على بوستر، ولا ريلات وتسجيلات قصيرة تُنشر على وسائل التواصل الاجتماعي، بل مسار طويل يتطلب مواجهة الماضي بشجاعة، الاعتراف بالمسؤولية، وتفكيك البنى التي غذّت العنف لعقود. قد تتغير الأقنعة، لكن الدماء لا تجف بالشعارات، ولا تُمحى المجازر بصفقات “تسوية” تُعقد في الغرف المغلقة أو أخبار عن محاكمات لم تُجرَ بعد، ولا نقصد “المحاكمات الاستعراضية” التي تبثها وزارة الداخلية، بل تلك التي تمس فئة كبيرة من المنتهكين سواء قبل سقوط النظام من رجالات الأسد، أو بعده من المتهمين بارتكاب مجازر الساحل والسويداء. 

07.10.2025
زمن القراءة: 5 minutes
|

اشترك بنشرتنا البريدية