حين سقط النظام البائد في سوريا في كانون الأول/ ديسمبر 2024، كان منسوب الأمل لدي أعلى من الجبال التي تربيت فيها في سوريا. لم أكن أريد أن أتحدث أو أسمع عن أية عوائق أو مطبات أو مخاوف. كنت، كما كثيرين وكثيرات، بحاجة إلى جرعة من الأمل التي سرعان ما تحوّلت إلى وجبة من الوهم.
منذ البداية، طالب الكثير منا بتطبيق كامل للعدالة الانتقالية ومحاسبة عملاء النظام الذين اقترفوا جرائم بحق السوريين. العدالة الانتقالية تملك السلطة لردّ حقوق الناس التي انتُهكت، والحماية أيضاً من الحملات الانتقامية والخلط بين أفراد المجتمع، المدنيين منهم والمذنبين.
لسوء الحظ، بدأنا نرى ونسمع عن أشخاص معروفين من النظام السابق يتجولون في قلب دمشق، أو رجال أعمال سابقين دعموا نظام الأسد يدخلون ويخرجون من البلاد بدون أدنى مستوى من المحاسبة. أين هي العدالة الانتقالية إذاً؟
حالات فرديّة
بعد “الانتصار” بوقت قصير، بدأت الحالات الانتقامية الطائفية تأخذ منحىً أوسع فأوسع. هجمات في المناطق العلوية على قرى متعددة في ريف حماة وريف حمص ومصياف، قتل ثلاثة قضاة من الطائفة العلوية في منطقة مصياف أثناء عودتهم إلى بيوتهم في كانون الأول/ ديسمبر 2024، والتعدي على أهالي قرية فاحل في كانون الثاني/ يناير 2025. وحتى هذه اللحظة، يعتبر مؤيدو السلطة أن مثل هذه الحالات “فردية”. وأكبر مبرر لمروّجي قصة “الحالات الفردية” هو أنه لو أرادت السلطة الجديدة الانتقام، لفعلت ذلك أثناء دخولها المدن الساحلية.
الغرباء
في السادس من آذار/ مارس 2025، قامت قوات مسلحة، قيل إنها تتبع لفصائل متعددة، من بينها “الأمن العام”، بعملية تطهير طائفي راح ضحيتها آلاف المدنيين، بمن فيهم أطفال ونساء، على أساس طائفي، وفقاً لشهادات ومقابلات أجريتها مع ناجين وناجيات في مدينة بانياس الساحلية، وذلك ردّاً على هجوم مساندي النظام البائد على قوى الأمن العام.
قوبلت الهجمات في البداية بالإنكار التام، ثم تحول الإنكار إلى تبرير بأن فلول النظام هي من قتلت المدنيين العلويين لأنهم “رفضوا الانضمام للقتال ضد السلطات الجديدة”، ثم عادت المزاعم إلى قصة “حالات فردية”، وكانت النسخة النهائية للرواية أن المهاجمين كانوا من “الفصائل الأجنبية المتطرفة” التي لا تملك السلطة الجديدة السيطرة عليها.
انقسام السوريين
منذ عام 2011، شهدت سورية تحولات سياسية واجتماعية عميقة، وانقسم السوريون بكل الاتجاهات. ومع بروز ما يسمى “النظام الجديد” في سوريا، ظهر تيار واسع من المدافعين عنه، سواء لأسباب سياسية، اقتصادية، أمنية، أو حتى اجتماعية. لكن لماذا يصر الكثيرون على الوقوف في صف النظام الجديد على رغم كل ما يحدث في البلاد؟
يعتقد كثيرون أن سقوط النظام الجديد أو تغييره بشكل جذري قد يؤدي إلى حالة من الفوضى وعدم الاستقرار، كما حدث في دول أخرى شهدت انتفاضات وثورات، مثل ليبيا واليمن. وبالنسبة الى هؤلاء، فإن بقاء النظام، على رغم كل عيوبه، يظل خياراً أكثر أماناً من المجهول، بخاصة في ظل غياب قوى معارضة منظمة وموحدة يمكن أن تقدم بديلاً واضحاً ومقنعاً.
نجح النظام الجديد في سوريا في فرض سرديته الخاصة من خلال مؤثرين على الساحة الإعلامية وعلى وسائل التواصل الاجتماعي. وبدأ كثيرون بتصديق رواية تغيير القادة الجدد نمط تفكيرهم وطريقة حكمهم، وأنهم بالفعل آتون “لبناء سوريا الموحدة”.
لاقت هذه السردية تجاوباً كبيراً من شريحة واسعة من المواطنين داخل سوريا وخارجها، وأصبح أي انتقاد لهذه السلطات “بمثابة هجوم شرس على جو الإيجابية” الذي يحتاجه الجميع. في سوريا، هناك حالة من العطش الشديد للأمل بعد 14 عاماً من القتل، والقمع، والتهجير، واليأس. لكن يبدو أن هذا العطش تحوّل إلى حالة من الوهم المسيطر، وإنكار كل ما يشوب هذا الوهم، بما فيها الجرائم الطائفية التي تحدث بوتيرة صادمة.
في بلد متعدد الطوائف مثل سوريا، لعبت الانتماءات الدينية والطائفية دوراً مهماً في تحديد مواقف الأفراد من النظام. بعض الفئات ترى في النظام الجديد حامياً لمصالحها في وجه قوى أخرى قد تهدد وجودها، ما يجعلها تقف إلى جانبه، حتى وإن لم تكن مقتنعة بكل سياساته.
إقرأوا أيضاً:
الأعذار المتكررة
بينما لم تُتخذ أي خطوات على الأرض لتحسين مستوى المعيشة للمواطنين، كرر “مطبلو” السلطة الجديدة خطى مطبّلي النظام السابق بأن “العقوبات الدولية هي التي تمنع أي تقدم على الأرض”.
ويرى الموالون للنظام أن الاعتراف بمسؤوليته عن المجازر يقوّض شرعيته المحلية والدولية، ويعطي مبرراً جديداً لمعارضيه لاتهامه بجرائم حرب. لذا يعتمد هؤلاء على رواية أن التنظيمات المتطرفة هي المسؤولة عن هذه المجازر، محاولين نفي أي تورط رسمي، حتى لو كانت الأدلة تشير إلى العكس.
وعود وأوهام
ازدادت عملية الترهيب والتنمر على وسائل التواصل الاجتماعي بنسبة مخيفة، وأصبح من الصعب السيطرة عليها. المستهدفون هم من “يعكرون صفو الأمل”. أي انتقاد لما يحصل على الأرض أصبح يوصف بأنه موقف تخريبي هدفه زعزعة التقدم والاستقرار وكسر صرح التفاؤل العالي.
أصدقاء مقرّبون تجرّؤوا على التهجم على أصدقائهم بلا رحمة أو مداراة بسبب انتقادهم للسلطات القائمة، سواء لما يحصل في المناطق الساحلية، أو بسبب، مثلاً، تعيين الرئيس الانتقالي أحمد الشرع أقاربه في مواقع قيادية، أو تعيين وزير للعدل متهم بإصدار حكم بالإعدام على امرأة بتهمة “الزنا”.
اللافت أن المدافعين عن هذا الأمل باتت لديهم غريزة المقارنة مع كل جريمة ترتكب، وكل انتهاك يحدث. “ألم تروا كيف كان الأسد يقتل؟”، “أين كنتم خلال 14 عاماً؟”، الى درجة أن هذه التهم وُجهت حتى الى معارضين شرسين لنظام الأسد.
“سقط النظام، فسوريا بخير”. كانت هذه الهتافات تملأ أركان البلد الممزق. ولا يزال كثيرون يروّجون لخطابات مفادها أن الحل بات قريباً، وأن البلاد ستشهد انفراجات كبرى، لكن الواقع المعيشي يزداد سوءاً، والبطالة تتفاقم مع فصل آلاف الموظفين من القطاع العام، وعدم الأمان ينتشر في كل مكان. وهكذا تبقى هذه الوعود مجرد كلمات في الهواء.
يحاول الكثيرون تزييف الواقع عبر تصوير الأوضاع وكأنها في تحسن مستمر، متجاهلين التقارير الواقعية والمعاناة اليومية التي يعيشها المواطن السوري، مما يعمّق الفجوة بين الحقيقة وما يُروّج له.
بعد مجزرة ارتكبها عناصر من وزارة الدفاع – بحسب اعترافها – وراح ضحيتها ستة مدنيين من الطائفة العلوية في قرية حب نمرة التابعة لمدينة بانياس في 31 آذار/ مارس 2025، أدان صحافي سوري العملية بعدما أنكرها في البداية، وكتب أنها “عملية بسيطة مقارنة بما قام به نظام الأسد”، وأنه ما زال مفعماً بالأمل، وأن البلد متجه الى الأمام لا محالة. وحين انتقده معلقون، انهال عليهم بقذائف اتهامية لـ”كسر التفاؤل والأمل”.
النهوض أشبه بالمعجزة
من أكثر ما يزيد الشعور بالهزيمة هو أن الظلم لا يزال قائماً، وجناة النظام القديم لا يزالون في أماكنهم، وجناة النظام الجديد يتمتعون بحماية المدافعين الجدد، بينما الضحايا هم من يدفعون الثمن. في كل مكان، هناك من نجح في الإفلات من العقاب، من أعاد بناء مصالحه فوق ركام البيوت المدمّرة، من استمر في الحكم على رغم كل الدمار الذي خلّفه. وفي مناطق الساحل السوري الآن، يستمر الجناة في ارتكاب الانتهاكات مع إفلات تام من العقاب. إنها هزيمة أخرى لسوريا.
الشعور بالهزيمة التامة أمر طبيعي في ظل هذا الواقع، لكن السؤال الأهم: هل يمكن الخروج من هذا الإحساس؟ ربما لا أحد يملك إجابة واضحة، لكن الأكيد أن الاستسلام لهذا الشعور لن يغيّر شيئاً. في النهاية، التاريخ مليء بشعوب مرّت بمآسٍ مماثلة، لكن ما ميّزها هو قدرتها على النهوض، ولو بعد سنوات طويلة. لكن، في ظل ما يحدث الآن في سوريا، يبدو أن النهوض صار أشبه بالمعجزة.
ورغم كل محاولات التضليل، وتطوّر قدرة السوريين على التمييز بين الحقيقة والخداع، ما زالت وسائل التواصل الاجتماعي تلعب دوراً كبيراً في نشر هذه الهزيمة. ويبدو أن التجربة القاسية التي مرّ بها الشعب السوري خلال السنوات الأربع عشرة الماضية لم تجعله أكثر وعياً بمن يبيع الأمل الكاذب.