قد يبدو هذا السؤال سريالياً، وربما أثار سخرية البعض، ليس هذا المقال دعوة إلى التفاؤل، ولكن السوريين؛ وليست هذه بنبوءة، سيفيقون ذات صباح فلا يجدون بشار الأسد بينهم.
في عام 2012، أطلقنا في برلين مشروع “اليوم التالي” بهدف تعزيز الانتقال السلمي في سوريا، من خلال جمع شخصيات من المعارضة السورية، ونشطاء المجتمع المدني، وخبراء قانونيين واقتصاديين ومختصين في الحوكمة، للتخطيط لمستقبل ما بعد الأسد ومناقشته.
سعى هذا المشروع؛ الذي قاده سوريون، بمساندة خبراء دوليين من “المعهد الأميركي للسلام” و”المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية”، إلى وضع خطط للانتقال الديمقراطي في سوريا بعد الأسد، وركز على عدة مجالات رئيسية: الحوكمة الانتقالية والمؤسسات، إصلاح القطاع الأمني، العدالة والمساءلة، إعادة الإعمار الاقتصادي والتنمية، والمشاركة والدعم الدولي.
بين كانون الثاني/ يناير وحزيران/ يونيو 2012، قام المشاركون السوريون مع الخبراء الدوليين بتطوير وثيقة، خططت لمرحلة انتقالية شاملة، وتناولت ستة مجالات حاسمة: سيادة القانون، إصلاح القطاع الأمني، العدالة الانتقالية، إصلاح السياسات الاقتصادية والاجتماعية، صياغة الدستور، وتصميم النظام الانتخابي، وهدفت هذه الوثيقة إلى تقديم إرشادات عملية للسلطة الانتقالية ما بعد الأسد، موضحةً التحديات الأساسية والاستراتيجيات لمعالجتها.
وأكد التقرير النهائي أهمية إنشاء هيكل حكومي انتقالي منظم، للتعامل مع العواقب الفورية والطويلة الأجل لانهيار النظام، كما أوصى التقرير بخطوات يجب اتخاذها فوراً، لتمهيد الطريق لانتقال ديمقراطي ناجح في سوريا، كان الهدف النهائي للمشروع، هو ضمان انتقال سلمي ومنظم، ومعالجة إرث الديكتاتورية وعواقب العنف، مما يسهل إقامة مؤسسات ونظم ديمقراطية في مجتمع ما بعد النزاع.
أسسنا فيما بعد، منظمة مجتمع مدني حملت الاسم نفسه، لنشر الوثيقة والترويج لها وبناء خطوات على الأرض، لتنفيذها أو ضمان تنفيذها في حال سقوط النظام، وعلى الرغم من أن نتائج المشروع والتوصيات التي خرج بها، حظيت بإشادة واسعة، لكن الصراع السوري أثبت أنه أكثر تعقيداً وتحدياً مما كان متوقعاً، ولم تتحقق أهداف المشروع حتى الآن، ولا يبدو أنها ستتحقق في يوم من الأيام، ومع ذلك، يظل مشروع “اليوم التالي” مبادرة مهمة في تعزيز جهود الانتقال وإعادة الإعمار السلمي في سوريا.
لا تزال وثيقة اليوم التالي فريدة من نوعها، وتأتي فرادتها من أنها تلمست ضرورة التفكير في سوريا ما بعد الأسد ونظامه، في وقت مبكر جداً من الثورة السورية، ومع أنها لم تبق وحيدة، إذ لحقت بها سلسلة من المبادرات المشابهة، إلا أن معظم تلك المبادرات نهجت نهج وثيقة اليوم التالي وأسست عليها، وكانت آخر المبادرات تلك التي عملت عليها الهيئة العليا للمفاوضات، بقيادة رئيس الوزراء السوري السابق رياض حجاب في عام 2017.
البوصلة نحو سوريا جديدة
منذ ذلك اليوم، غابت فكرة اليوم التالي عن ساحة النقاش السياسي، وجرت مياه كثيرة تحت الجسر، ووقعت البلاد في مستنقع آسن من التردي، وعلقت في استعصاء لا يبدو الخروج منه ممكناً أو آمناً.
تنقسم سوريا اليوم إلى أربع سوريات، ثم تنقسم كل منها إلى مناطق أصغر، تتزعمها عصابات تابعة للنظام أو إيران أو روسيا أو تركيا أو للأحزاب الكردية المتطرفة أو للمعارضة السورية، وتحولت شعارت الثورة إلى جثث محنطة، يُبقيها المرتزقة للمتاجرة بها واستخدامها شماعة للاسترزاق والتنمر والثراء.
مشروع اليوم التالي صار قديماً، ولا قيمة له إلا القيمة التاريخية، وكذا حال الوثائق التي تلته، وليس ذلك بسبب خطأ في مضمونها أو صياغتها، ولكن لأن الظروف لم تسمح باختبارها ووضعها على المحك، ومع ذلك، ولئن باتت التفاصيل قديمة وبالية، فالفكرة لا يمكن أن تفقد قيمتها وراهنيتها.
من حق السوريين أن يعيشوا في بلد آمن وحر وديمقراطي، يتساوى فيه الجميع، ذكوراً وإناثاً، من أي دين أو مذهب أو طائفة، من أي قومية أو إثنية أو جماعة، بلد يكون فيه القانون فوق الجميع، ويكون العدل والعدالة والكرامة والحق أعمدة المجتمع والدولة.
أي حراك (ثورة، انتقال، تقدم) يفقد مغزاه إن لم يكن في هذا الاتجاه، ولكي نعرف كسوريين سبيلنا، لا بد أولاً، من تحديد البوصلة التي تؤشر إلى أي سوريا نريد: سوريا الديمقراطية والحريات، أم سوريا الأسد والجولاني وأبو عمشة؟ سوريا المساواة بين الحاكم والمحكوم والرجل والمرأة والمسلم والمسيحي والمؤمن وغير المؤمن، أم سوريا التي يسيطر فيها رجل واحد وحزب واحد ومؤسسات قمعية تعتمد التعذيب والإهانة؟ سوريا المساواة بين الرجل المرأة، أم تلك التي يسيطر فيها الذكور على الإناث فيفرضون عليهن سبل عيشهن ومستوى تعليمهن وطريقة لبسهن؟
إقرأوا أيضاً:
المبادئ الدستورية والمبادئ المؤسسة للدستور
صياغة الدستور جهد وطني كبير، يتضمن تقنين هيكل الحكومة، وتحديد السلطات، وتثبيت الحقوق، ومع ذلك، فإن هذه الوثيقة الرسمية تستند إلى المبادئ المؤسسة للدستور (أو مبادئ القانون الأعلى) وهي المعايير الأخلاقية والفلسفية التي تتجاوز القوانين المكتوبة، وفهم تقاطعها واختلافها، أمر بالغ الأهمية لفهم الحكم الدستوري.
الدستور هو وثيقة رسمية مكتوبة تحدد هيكل الحكومة، وتعرف توزيع السلطات، وتعدد حقوق المواطنين، وتعمل كالقانون الأسمى في البلاد، ويوفر الدستور إطاراً قانونياً يتم من خلاله صنع القوانين وتفسيرها وتطبيقها، بهدف خلق حوكمة متماسكة، وضمان الاستقرار والنظام، وحماية الحقوق الفردية، وعكس القيم والتطلعات المجتمعية.
المبادئ المؤسسة للدستور هي الأسس الأخلاقية والفلسفية التي تستند إليها شرعية الدستور، وتشمل الحقوق الطبيعية، والعدالة، والحرية، والمساواة، وحكم القانون، وتعتبر هذه المبادئ شاملة وثابتة، وتستند إلى مبدأ مركزية الإنسان- الفرد.
العلاقة بين الدساتير والمبادئ المؤسسة للدستور، هي علاقة تكافلية وفي بعض الأحيان متوترة، غالباً ما تجسد الدساتير المبادئ المؤسسة للدستور، حيث تترجم المعايير الأخلاقية المجردة إلى أحكام قانونية ملموسة، ولكن ينشأ التوتر عندما تنتهك القوانين الدستورية هذه المبادئ الأساسية، وتتضمن كتابة الدستور إنشاء إطار قانوني عملي ومحدد، بينما توفر المبادئ المؤسسة للدستور الأساس الأخلاقي والفلسفي، يهدف كلاهما إلى تعزيز مجتمع عادل ومنصف، حيث يختلفان في الطبيعة والسلطة والمرونة، ولكن يجب على الدستور أن يسعى إلى عكس القيم الدائمة للعدالة والحرية وكرامة الإنسان.
اللجنة الدستورية جهد ضائع
في أيلول/ سبتمبر 2019، أعلن الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش تشكيل لجنة دستورية سورية، تضم ممثلين عن النظام والمعارضة والمجتمع المدني، بهدف مراجعة الدستور لتحقيق حل سياسي للنزاع المستمر، على الرغم من التفاؤل الأول، واجهت اللجنة تحديات كبيرة منذ البداية، بما في ذلك رفض السلطات السورية بعض الأعضاء المقترحين واستبعاد ممثلين عن الإدارة الذاتية الكردية، بالإضافة إلى ذلك، أدت الخلافات بين المعارضة والنظام حول آلية عمل اللجنة وطبيعة التغييرات الدستورية، إلى تعقيد تقدمها.
بحلول نيسان/ أبريل 2024، فشلت المبادرة بشكل فعلي، ونسب المبعوث الأممي غير بيدرسن الفشل إلى “ظروف خارجية”، وتحول سوريا إلى ساحة لتصفية الصراعات الإقليمية، تعثرت العملية بسبب الخلافات حول مكان عقد الاجتماعات، حيث رفضت دمشق وموسكو إصرار بيدرسن على جنيف، بسبب ما أسمته التحيز من الحكومة السويسرية ضد الدبلوماسيين الروس، فاقمت الصراعات الإقليمية، والعنف المستمر، والضغوط الخارجية بما في ذلك العقوبات والتوترات الجيوسياسية، الوضع، وعلى الرغم من دعم “المبادرة العربية” والجهود المستمرة لإحياء العملية، فشلت اللجنة الدستورية في التغلب على التحديات السياسية والخارجية عميقة الجذور.
فشل اللجنة الدستورية يعود إلى عدة عوامل، أهمها أن النظام لم يكن في أية لحظة جدياً في المفاوضات؛ وأن روسيا كانت تستخدم اللجنة لتمييع المفاوضات الحقيقية من أجل انتقال سياسي؛ وأن المعارضة لم تكن جاهزة سياسياً وفكرياً لتلعب بشكل صحيح لعبة القط والفأر الدولية.
ولكن عاملاً مهماً آخر تسبب في فشل اللجنة الدستورية، وهو أن السوريين لم يضعوا مبادئ عليا فوق دستورية أو مؤسسة للدستور، لكي يهتدوا بها في كتابة دستورهم.
المبادئ المؤسسة للدستور الممكنة في سوريا
هذه مبادئ عشرة، أعتقد، ومعي جماعات سورية في البلاد والمنفى، أنها تشكل النسخة الأولى للمبادئ العليا للقانون أو المبادئ المؤسسة للدستور:
أولاً: سوريا وطن لكل السوريين والسوريات، بغض النظر عن أي انتماء إثني أو قبلي أو ديني أو عرقي أو قومي أو أي انتماء آخر، ويقوم على أساس حيادية الدولة تجاه كل المكونات والجماعات والأفراد.
ثانياً: سوريا بلد مستقل وذو سيادة ضمن حدودها المعترف بها دولياً، وتقوم سياساته على مصالح السوريين وقيمهم المشتركة.
ثالثاً: ضمان الحريات الدينية واستقلالية المؤسسات الدينية عن الدولة، واستقلالية مؤسسات الدولة عن الدين.
رابعاً: يتمتّع الأشخاص المولودون لأب سوري أو لأم سورية، أو المولودون على الأراضي السورية، بالجنسية السورية وبحقوق المواطنة كاملة، ولهم جميع الحقوق وعليهم جميع الواجبات، ولا يُحرَم أي مواطن من حقوقه بسبب العرق أو الدين أو مكان الولادة أو القومية أو اللغة.
خامساً: سوريا دولة ديمقراطية، تضمن كرامة مواطنيها وتنتقل السلطة فيها سلمياً عبر صناديق الاقتراع، ضمن نظام انتخاب حرّ ومباشر وسري، لكل مواطن صوت واحد في الانتخابات الوطنية والمحلية.
سادساً: تقوم سوريا على أساس سيادة القانون ومبدأ المواطنة المتساوية.
سابعاً: السلطة في سوريا للشعب، عبر برلمان منتخب من قبل المواطنين، وفق دستور يحقق مصالحهم جميعاً.
ثامناً: يضمن دستور سوريا الحريات الفردية والعامة، وعلى رأسها حرية الاعتقاد والتعبير عن الرأي وحرية الإعلام، كما يصون حقوق الاجتماع وحقوق التظاهر والإضراب سلمياً.
تاسعاً: ضمان حرية تشكيل المنظمات الأهلية والمدنية والسياسية.
عاشراً: يعتمد الدستور السوري مبدأ فصل السلطات القضائية والتشريعية والتنفيذية.
وفي هذا السياق، تظل مبادرة “اليوم التالي”، التي أُطلقت في عام 2012، جهداً محورياً في تصور سوريا ما بعد الأسد والاستعداد لها، وعلى الرغم من التحديات الكبيرة التي واجهها المشروع، وعدم تحقيق أهدافه حتى الآن، إلا أن فكرته الأساسية – التحضير لانتقال سلمي ومنظم – تظل ذات أهمية قصوى.
ولذلك، فإن مبادئ القانون الأعلى، أو المبادئ المؤسسة للدستور، تحتل مرتبة أساسية في هذا المسار، فهي توفر الأساس الأخلاقي والفلسفي الضروري لبناء سوريا جديدة، حيث تُحترم حقوق جميع المواطنين، ويستند الحكم إلى المساواة، الديمقراطية، وحكم القانون، ومع تطلع السوريين إلى المستقبل، سيكون تأسيس هذه المبادئ التوجيهية أمراً أساسياً لأي انتقال ناجح، لضمان أن يعكس الدستور الجديد القيم الدائمة للعدالة، الحرية، وكرامة الإنسان.
هل هذا الحديث حديث مترف، سابق لأوانه، خيالي، ومتعال؟ أعتقد جازماً أنه لا طريقَ لسوريا جديدة وحرة وعادلة، بإمكانه الالتفاف على هذه العبارة الضرورية.
إقرأوا أيضاً: