أمام نافذة مغلقة بإحكام خوفاً من الرصاص الطائش، وطاولة سوداء مدورّة أضع عليها مفكرتي وزجاجة ماء مثلجة لمحاربة الحرّ الشديد في الخرطوم، والخوف الشديد أيضاً، أحاول أن أكتب أفكاري المشتتة، وأهدئ من نوبات هلعي غير المتوقعة والسريعة، بمساعدة موسيقى كلاسيكية أحفظها في هاتفي المحمول، فالانترنت مقطوعة منذ أيام.
سوريا في الخرطوم
كان عقد العمل الذي ينتظرني في السودان مع جامعة عريقة ولها مكانتها في الخرطوم أقوى من قول كلمة (لا)، تركتُ دمشق أملاً في حياة أفضل ومنصب أعلى، لكنني وجدتُ نفسي بين أحضان حرب جديدة تطوقني من جديد، لتثبت لي أن الأحلام البسيطة أحياناً تبدو مستحيلة.
في السودان السوريين حزانى أكثر من اللازم مجروحين أكثر من القدرة على الاحتمال، أن تشهد حرباً في بلادك، ربما أحن بكثير من أن تشهدها في بلاد تحاول أن تبني فيها عشاً يساعدك على الاستمرار في الحياة بعدما ضاقت بلادك فيك لتبتلعكَ وتلفظكَ خارجاً، أن تتهجر مرتيّن… أن تؤكل روحك من القهر مرتين، وأن تهاجمك الدماء والمدافع والنيران مرتين.
تشعر بأن الموت يتقصدكَ، يلاحقكَ ليأكل من جلدكَ الثخين. تهجير مرة أخرى وقصف آخر لرغبة الاستمرار والعيش في قلبي المكسور.
الخرطوم مدينة لجأ إليها 90 ألف سوري، بحسب إحصاءات الدولة السودانية، ليبنوا بيتاً من الأمان يقيهم من أهوال الحرب والتدمير والغلاء، ليروا أنفسهم الآن أمام مواجهة غير متوقعة، أمام الموت مرة أخرى ولكن هذه المرة في بلاد لا يحملون فيها إلا أسماء غريبة مع إقامات قصيرة على جواز سفر لبلد مكسور ومهزوم.
إنها الحرب الثانية لكننا لا نملك قلوباً ثانية لاستيعاب هذا التمدد من القهر والظلم، هو هذا القلب الوحيد المتخم بالخذلان يتمدد لاستيعاب المزيد.
تشعر بأن الموت يتقصدكَ، يلاحقكَ ليأكل من جلدكَ الثخين. تهجير مرة أخرى وقصف آخر لرغبة الاستمرار والعيش في قلبي المكسور.
امرأة سورية وأخرى سودانية
أغمض عينيّ، أتنفس بعمق، أستذكر انتصاراتي في حرب دمشق وكيف أنني نجوت من جميع القذائف والتفجيرات القريبة من بيتي وجامعتي، وأسأل نفسي، هل 11 عاماً من معايشة يوميات الحرب والدمار لا تقيك الخوف والهلع أمام اندلاع حرب جديدة أمام عينيّك؟
ومراحل الحروب المعروفة من قصف وتهديم وتهجير والسيناريوهات المألوفة لسوري عاش تحت أنقاض الحرب، لا تمنع أبداً من أن يقف عاجزاً مكسوراً، حزيناً، ووحيداً، ومقهوراً أمام معاينته حرباً ثانية مختلفة لكن هذه المرة في السودان؟ هل هناك حربٌ مختلفة عن الأخرى؟ وكم حرباً على الإنسان أن يشهد لكي يقول: “أنا لست خائفاً”.
تشاركني جارتي السودانية مشاعرها فيما نشرب الشاي باللبن في انتظار أخبار عن الهدنة القتاليّة، تقول جارتي: “حزينة على السوريين في الخرطوم أصحاب المهن، والمطاعم، والمحلات التجارية، والعمال، والأساتذة، هذه المرة الثانية التي يضطرون فيها للتهجير القسريّ، حزينة على تكرار الحوادث القاسية معكم”.
وأقول لنفسي، أليست الحرب هي لمرة واحدة فقط، تأتي بقوة تقتلع جذورك، وتحرق قلبك كالفتيل المدخّن، تأخذ أحلامك لترميها بعيداً، ترى شبابك ينهار أمام عينيك والعالم يمشي ويتحرك وأنت ثابت في مكانك؟
أليست الحرب هي التوقف عن الدوران والثبات في خاصرة الألم، في زاوية التشرد، أليست الحرب أن تفقد ذاتك وطموحك وأحلامك وشهيتك للحياة قبل أن تفقد أرضك وأهلك وناسك وماضيك ومستقبلك؟ هي التعامل مع الحاضر كأنه غير حقيقي وغير مرئي، من كثرة الحزن لا نريد أن نعترف أننا أبناء الحرب والظلم واللاعدل.
لا نريد أن نقول إن بداية شبابنا كانت قنابل يدوية، ثم تحولت إلى براميل متفجرة، ومن بعدها فقدنا ذواتنا على أبواب مفوضية اللاجئين نبحث عن بديل لأقدام ما عادت تعرف أين تمضي وأين تسير، نسأل السلل الغذائية وتعويضات الحروب والتأشيرات الخاصة بالتائهين.
إقرأوا أيضاً:
من يعوضك عن فقدانك ذاتك وأرضكَ
لا أحد قادر على فهم خارطة الحرب ومراحلها المركبة والمتعددة من نازح في أرضك، إلى لاجئ منبوذ في أرض أخرى، سوى من خاض هذا المخاض الطويل، فأين سنذهب بكل هذا الدمار؟
تعجّ ذاكرتنا بهذه المشاهد البصرية العنيفة ورائحة الدماء لا تفارق حواسنا، وأجسادنا ذبلت من رعشات الخوف والرعب اليومي، ولم يمضِ الكثير على توقف القتال المسلح في سوريا، لم يمضِ الكثير على النسيان لتثقل الذاكرة بالإضافات، وكلها تتمحور حول خرائط الحرب والقهر.
لا فرق بين أن تعيش الحرب للمرة الأولى في بلدك وأن تعيشها للمرة الثانية في بلد آخر، الفرق يكمن فقط في تعامل جسدك مع التغيير الجغرافي والزمني للمشاهد العنيفة ذاتها، وفي تجاوب قدراتك العقلية على استيعاب أخبار القتل والموت في بلاد غريبة لا تعرف الكثير عن تاريخها وجغرافيّة حدودها.
يقول كثيرون إننا نعتاد على الحروب، ولكن في الحقيقة لا فرق بين حرب قديمة وحرب جديدة، هو نفسه الخوف المغطى برغبة النجاة.
السوري في حرب السودان مصاب بالخذلان مرتين، مرة عندما أتى إلى هنا هارباً من الحرب ليصبح لاجئاً ليس من هذه البلاد، والآن كأجنبي يشهد اندلاع حرب يعرف جيداً كيف ستبدأ وكيف ستنتهي.
السوري كالغريق الذي تعلق بقشة الإنقاذ ليرى أن البحر التهب بالنار لا فرصة للعودة ولا مكان للحياة هنا.
قالت لي معالجتي النفسية ما مررتِ به اسمه الصدمة المركبّة، وهي أن تكوني في طريق التعافي من صدمة قديمة وهي الحرب في سوريا وآثارها، لتري نفسك أمام صدمة جديدة وأكثر عنفاً، ابتسمتُ ابتسامة الراضيّة، الصامتة، الغاضبة الحزينة، أليست هذه البلاد هي من تهدينا الحزن بكرم والوجع بكثافة؟ وودت لو أقول للسوريين الحزانى في السودان، للأطفال المنتظرين دورهم في الإجلاء في بورتسودان، للسوريين المنتظرين في وادي حلفا في مدارسها وشوارعها، لا تخافوا ما نمرّ به الآن يسمى “أعراض الصدمة المركبّة”…
إقرأوا أيضاً: