fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

سيرة المانجو المصري… في عشق المُخدِّر الحلال!

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

دخول المانجو إلى أرض النيل فيه اختلاف، فلا جدال أن مصر لم تعرف هذه الفاكهة قبل القرن التاسع عشر. ويُروى أنها دخلت البلاد على يد إبراهيم باشا ابن محمد علي، وقيل أيضاً أن عرابي باشا الذي عرفها في منفاه في سيرلانكا وأحضرها معه حين عاد الى البلاد عام 1903.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

هموم المصري اليوم ثقيلة: كهرباء تغيب في حر لافح، تضخم لا يرحم ومأساةٌ بشعة على بعد ساعاتٍ من القاهرة لا يبدو أن أحداً قادرٌ على إيقافها. لكن، في الموعد المعتاد، ظهر مخدر قانوني حلال قادر على أن ينسيه ذلك كله ولو لبضع دقائق لذيذة. وإن أردت مؤشراً إلى ما يعنيه، عدا الوصف السائد له بـ”ملكة الفواكه”.

 في تسعينات القرن الماضي، صدرت لسنوات عدة مجلة بالإنكليزية اسمها Cairo Times، وكان فيها باب ثابت عما يدور من أحداثٍ ثفاقية بالقاهرة وما يوجد فيها من أماكن للنزهة والترفيه، وكيف وُصفت القاهرة هنا؟ بالـThe Big Mango، أي ثمرة المانجو الكبيرة، في استلهامٍ واضح لوصف مدينة نيويورك الشائع: The Big Apple، التفاحة الكبيرة، والمانجو قطعاً ألذ من التفاح بما لا يقاس!

هناك التجربة النادرة أو الأولى وما تخبرك. في إنكلترا، قبل 25 عاماً، أتتني من مصر  مع زيارةٍ من العائلة. رائحتها عبأت غرفتي قبل أن أدعو زملاء الدراسة ليتعرّفوا عليها. أول من بدأ الالتهام كان صديقاً أيرلندياً، وكان هذا لقاءه الأول بها، إذ لم يكن قد أكل ثمرة مانجو قبل ذلك في حياته، ناهيك بحبة من صنف التيمور الفاخر. 

مع كل مرة كان يغرز أسنانه فيها كان يردد بتلذذ  this is one hell of a fruit، ثم في المرة التالية this is an amazing fruit (“أي فاكهة هذه”، “هذه فاكهة رائعة”)، قبل أن يحاول أكل القشرة.

تلته صديقتان، فيليبينية وأميركية، إبنة الأرخبيل الآسيوي لم تكن غريبةً عن المانجو، وإن أثنت على امتياز ما أكلت، أما زميلتنا الأميركية ابنة مدينة بوسطن، فمثل الأيرلندي كانت هذه تجربة جديدة لها (لاحقاً علمت أن المانجو يُزرع جنوب الولايات المتحدة لكن ربما ليس بهذه الجودة).

 “هيذر” عالية الصوت عموماً، ومن فرط تعبيرها عن الاستمتاع بما تأكل اضطررنا لغلق الباب وطلبنا منها خفض ما يصدر عنها من ضوضاء، وهذه أيضاً حاولت أكل القشرة، ثم جاهدنا لإبعادها عن ثمرة فاسدة، إذ قالت لو كان ثمن متعة ثمرة مانجو بعض المغص أو حتى التسمّم فلا بأس! 

وبعد “واقعة المانجو” الأولى هذه التي شهدتها مدينة أكسفورد البريطانية العريقة ببضع سنوات كنت ببيروت، وتصادف وجودي في أحد مكتبات المدينة مع حضور صاحبتنا الزكية. كنت أتصفح الأرفف حين خرج رجل من مكتب منادياً: “مانجا مصرية” (أذكر جيداً أنه نطق حرف “الجيم” في كلمة “المانجا” كما ننطقها نحن المصريين). هرع العاملون في المكان إليه واختفوا لمدةٍ ليست بالقصيرة قبل أن يخرجوا تباعاً وملابسهم عليها أثر جريمتهم وتقطر من أيديهم و أذرعهم عصيرها.   

كيف وصل المانجو إلى مصر؟

أصل المانجو آسيوي مدَاري، وتحديداً شمال شرقي القارة الهندية، وعمرها يقارب الخمسة آلاف عام. لكن مجيئها إلى أرض النيل فيه اختلاف. لا جدال أن مصر لم تعرف هذه الفاكهة قبل القرن التاسع عشر. ويُروى أنها دخلت البلاد على يد إبراهيم باشا ابن محمد علي، الذي جلبها من موطنها، وفي روايةٍ أخرى قيل إن من أتى بها الى مصر كان عرابي باشا الذي عرفها في منفاه في سيرلانكا وأحضرها معه حين عاد الى البلاد عام 1903.

لكن ربما تصحّ الروايتان (إن تغاضينا عن الدلالة السياسية)، فالمانجو شجرة كثيرة الأصناف، وربما أتت على مرحلتين. اليوم في مصر، توجد منها عشرات الأنواع كما يعرف كل عاشق لها، ومع الوقت هجّن المصريون أنواعاً خاصةً بهم من هذه النبتة الآتية من بلادٍ بعيدة. وحتى تلك المستوردة الموجودة خارج مصر، كالألفونسو (الفونس كما تسمى في مصر) فنسختها هنا، في تربة مصر، أطيب من الهندية والباكستانية. ومما هجّن المصريون “العويس”، وهذه صفراء بيضاوية طيبة الرائحة وكأن في طعمها خليطاً من قليل من جوز الهند وكثير من الحلاوة. أيضاً الفص عويس، وهذه نسخة صغيرة شديدة التركيز من العويس، ومن ثم هي أغلى أنواع المانجو سعراً في مصر.

طبقات المانجو

المفضلة عندي فهي التيمور والفونس. الأولى مضبوطة الطعم بلا إفراط، كحلوى رائعة سكرها لا فائض ولا ناقص، أما الثانية فطيب رائحتها وحده حلوى وإن كان طعمها ينافس جمال رائحتها. والتيمور، كما ينم الاسم، هُجنت في مزارع آل تيمور، العائلة الشهيرة التي أثرت الثقافة المصرية والعربية. 

الأصناف الفاخرة التي ذكرنا للمائدة، لكنْ هناك أيضاً أنواع مخصصة للعصير، أهم هذه وأشهرها “الزبدية”، وهذه ثمرة كبيرة نسبياً (نصف الكيلوغرام وزناً في المتوسط)، والفارق الأول بين مانجو العصير ومانجو المائدة ما بالثمرة من ألياف وأيضاً كمية خلاصتها السائلة. فالأنواع الأفخر والأفضل تكاد تذوبُ في الفم، أما أصناف العصير، مهما كانت حلاوتها، فستنحشر بين أسنانك أنسجة منها. 

لكن شجرة الزبدية محورية كما يعرف كل زارع للمانجو في مصر . فهذا الصنف غزير الإنتاج عدداً ووزناً، من ثم يضمن للمزارع مردوداً جيداً، أما الأصناف الفاخرة فكثير منها إنتاجه محدودٌ وزناً.

شهد آكلو المانجو في مصر دخول أصناف كثيرة جديدة في العقدين الماضيين، ومعظمها من شجرٍ أصغر حجماً مما يسمح، بكثافة أكبر من المعتاد منها في الزراعة، وهي تظهر في الأسواق متأخرة عن الأصناف الأقدم. من أسماء هذه الأصناف الجديدة، التي تنم  عن أصولها الأجنبية:  الناعومي والكيت والكنت والتومي والهايدي، وهي جيدة عموماً، لكنها لا تُقارن بما عرفته البلاد من أنواع فاخرة تظهر كل عام بين أواخر حزيران/ يونيو وأيلول/ سبتمبر.

ولأن المانجو شجرة بطيئة النمو، وتستغرق أعواماً لتصل الى إنتاجٍ  غزير، تبقى ثمرة غالية نسبياً في مصر حتى بعد زراعة مئات الآلاف من الأفدنة منها. علما أنها، كأنواع أخرى من الأشجار، “مُعاومة”، أي غزيرة الإنتاج عاماً، شحيحة العام الذي يليه. أما التغير المناخي في السنوات الأخيرة فكان له أثر سلبي. مثلاً: قبل أربعة أعوام فقدت مصر معظم محصولها من هذه الثمرة الثمينة لاضطراب غير معتادٍ في الفصول (شتاء دافئ للغاية تبعته موجة حرارة مبكرة ثم عودة للبرودة).

كل هذه العوامل وغيرها، مضاف إليها الارتفاع الهائل في تكلفة المستلزمات الزراعية من سمادٍ ومبيدات، تخبرنا أنه لتكون هذه الثمرة مربحة للمنتج فلا بد من ارتفاع سعرها بشدة، وإلا ضحّى المزارعون بها، لكن إن ارتفعت أسعارها لا تعود في متناول مصريين كُثر ينتظرونها بشوقٍ كل صيف. 

مجاز المانغو

المانجو ليست فقط معشوقة الآكلين بل هي أيضاً موضوعٌ للتندر والسخرية. ثمرتنا هذه ينهمر منها عصيرها ما إن نشبت فيها أسنانك، وهي لذيذة إلى الحد الذي لا يترك منها ولا فيها شيء، فإن أُكل لحمها شرع المُلتهم بمص ما استطاع من فوق بذرتها، من ثم نكات و”ميمز” كثيرة عن الفوضى التي تحدثها كل “موقعة مانجوية”. 

هناك مادة كثيرة لطيفة، مثلاً، على اليوتيوب، لكن ربما أجملها لرضيع يصارع ثمرة مانجو تاركاً أثر حربه الضروس على نفسه وعلى كرسيه وكل ما حوله، علماً أن طريقة أكل الكبار للمانجو ليست أفضل كثيراً عادة.د

 ومن الطريف أن سيدة كانت ملكة جمال مصر يوماً ما (لأسباب غير واضحة) قررت أن يكون دورها تعليم المصريين “الإتيكيت”، وبعدما تحدثت عن الطريقة الصحيحة لأكل الملوخية المصرية (التي كانت طبعاً طعام ملوك فرنسا المفضل كما هو معروف ، من ثم “إتيكيت الملوخية”)، قررت التوجه نحو المانجو. 

فهذه، طبقاً لها، تقطع وتصفى لتأكل بشوكة من دون بحرٍ من عصيرها تغرق فيه. لكن سيدتي، أين اللذة في هذا؟ ولِمَ إذاً صنعت المناشف أو الملابس سهلة الغسيل؟ ثم، كم من هذه الثمرة الرائعة ستهدر طريقتك هذه؟ رجاءً أيها المتأففون، دعونا في المانجو نغوص!  

للمانجو فوائد جمة فهي غنية جداً بفيتامين ج (سي)  وفيها أيضاً نسبة لا بأس بها من فيتامين ب 6 ، لكنها أيضاً، وهي الثمرة شديدة الحلاوة، تحوي نسبة عالية من السكر، نحو 14 في المئة من وزنها في المتوسط. لهذا حين زرت صديقاً لي، طبيب متخصص في التغذية، في محاولة بائسة مني لفقدان الوزن، نصحني بالتوقف عن أكل المانجو. كلامه علمي منطقي طبعاً،  لذلك كانت هذه نهاية صداقتنا.  

يا سادة إن كان ثمن الوزن الزائد (ومشاكل أخرى) ثلاثة أشهر من لذة المانجو كل عام، فليكن إذاً! أي ضرر في هذا المُخدر اللذيذ الحلال؟ رجاءً عزيزي الطبيب، كلنا في حاجة الى الغطس في لذة المانجو، فقليل غيرها اليوم يمنحنا وهم السعادة.

دخول المانجو إلى أرض النيل فيه اختلاف، فلا جدال أن مصر لم تعرف هذه الفاكهة قبل القرن التاسع عشر. ويُروى أنها دخلت البلاد على يد إبراهيم باشا ابن محمد علي، وقيل أيضاً أن عرابي باشا الذي عرفها في منفاه في سيرلانكا وأحضرها معه حين عاد الى البلاد عام 1903.

هموم المصري اليوم ثقيلة: كهرباء تغيب في حر لافح، تضخم لا يرحم ومأساةٌ بشعة على بعد ساعاتٍ من القاهرة لا يبدو أن أحداً قادرٌ على إيقافها. لكن، في الموعد المعتاد، ظهر مخدر قانوني حلال قادر على أن ينسيه ذلك كله ولو لبضع دقائق لذيذة. وإن أردت مؤشراً إلى ما يعنيه، عدا الوصف السائد له بـ”ملكة الفواكه”.

 في تسعينات القرن الماضي، صدرت لسنوات عدة مجلة بالإنكليزية اسمها Cairo Times، وكان فيها باب ثابت عما يدور من أحداثٍ ثفاقية بالقاهرة وما يوجد فيها من أماكن للنزهة والترفيه، وكيف وُصفت القاهرة هنا؟ بالـThe Big Mango، أي ثمرة المانجو الكبيرة، في استلهامٍ واضح لوصف مدينة نيويورك الشائع: The Big Apple، التفاحة الكبيرة، والمانجو قطعاً ألذ من التفاح بما لا يقاس!

هناك التجربة النادرة أو الأولى وما تخبرك. في إنكلترا، قبل 25 عاماً، أتتني من مصر  مع زيارةٍ من العائلة. رائحتها عبأت غرفتي قبل أن أدعو زملاء الدراسة ليتعرّفوا عليها. أول من بدأ الالتهام كان صديقاً أيرلندياً، وكان هذا لقاءه الأول بها، إذ لم يكن قد أكل ثمرة مانجو قبل ذلك في حياته، ناهيك بحبة من صنف التيمور الفاخر. 

مع كل مرة كان يغرز أسنانه فيها كان يردد بتلذذ  this is one hell of a fruit، ثم في المرة التالية this is an amazing fruit (“أي فاكهة هذه”، “هذه فاكهة رائعة”)، قبل أن يحاول أكل القشرة.

تلته صديقتان، فيليبينية وأميركية، إبنة الأرخبيل الآسيوي لم تكن غريبةً عن المانجو، وإن أثنت على امتياز ما أكلت، أما زميلتنا الأميركية ابنة مدينة بوسطن، فمثل الأيرلندي كانت هذه تجربة جديدة لها (لاحقاً علمت أن المانجو يُزرع جنوب الولايات المتحدة لكن ربما ليس بهذه الجودة).

 “هيذر” عالية الصوت عموماً، ومن فرط تعبيرها عن الاستمتاع بما تأكل اضطررنا لغلق الباب وطلبنا منها خفض ما يصدر عنها من ضوضاء، وهذه أيضاً حاولت أكل القشرة، ثم جاهدنا لإبعادها عن ثمرة فاسدة، إذ قالت لو كان ثمن متعة ثمرة مانجو بعض المغص أو حتى التسمّم فلا بأس! 

وبعد “واقعة المانجو” الأولى هذه التي شهدتها مدينة أكسفورد البريطانية العريقة ببضع سنوات كنت ببيروت، وتصادف وجودي في أحد مكتبات المدينة مع حضور صاحبتنا الزكية. كنت أتصفح الأرفف حين خرج رجل من مكتب منادياً: “مانجا مصرية” (أذكر جيداً أنه نطق حرف “الجيم” في كلمة “المانجا” كما ننطقها نحن المصريين). هرع العاملون في المكان إليه واختفوا لمدةٍ ليست بالقصيرة قبل أن يخرجوا تباعاً وملابسهم عليها أثر جريمتهم وتقطر من أيديهم و أذرعهم عصيرها.   

كيف وصل المانجو إلى مصر؟

أصل المانجو آسيوي مدَاري، وتحديداً شمال شرقي القارة الهندية، وعمرها يقارب الخمسة آلاف عام. لكن مجيئها إلى أرض النيل فيه اختلاف. لا جدال أن مصر لم تعرف هذه الفاكهة قبل القرن التاسع عشر. ويُروى أنها دخلت البلاد على يد إبراهيم باشا ابن محمد علي، الذي جلبها من موطنها، وفي روايةٍ أخرى قيل إن من أتى بها الى مصر كان عرابي باشا الذي عرفها في منفاه في سيرلانكا وأحضرها معه حين عاد الى البلاد عام 1903.

لكن ربما تصحّ الروايتان (إن تغاضينا عن الدلالة السياسية)، فالمانجو شجرة كثيرة الأصناف، وربما أتت على مرحلتين. اليوم في مصر، توجد منها عشرات الأنواع كما يعرف كل عاشق لها، ومع الوقت هجّن المصريون أنواعاً خاصةً بهم من هذه النبتة الآتية من بلادٍ بعيدة. وحتى تلك المستوردة الموجودة خارج مصر، كالألفونسو (الفونس كما تسمى في مصر) فنسختها هنا، في تربة مصر، أطيب من الهندية والباكستانية. ومما هجّن المصريون “العويس”، وهذه صفراء بيضاوية طيبة الرائحة وكأن في طعمها خليطاً من قليل من جوز الهند وكثير من الحلاوة. أيضاً الفص عويس، وهذه نسخة صغيرة شديدة التركيز من العويس، ومن ثم هي أغلى أنواع المانجو سعراً في مصر.

طبقات المانجو

المفضلة عندي فهي التيمور والفونس. الأولى مضبوطة الطعم بلا إفراط، كحلوى رائعة سكرها لا فائض ولا ناقص، أما الثانية فطيب رائحتها وحده حلوى وإن كان طعمها ينافس جمال رائحتها. والتيمور، كما ينم الاسم، هُجنت في مزارع آل تيمور، العائلة الشهيرة التي أثرت الثقافة المصرية والعربية. 

الأصناف الفاخرة التي ذكرنا للمائدة، لكنْ هناك أيضاً أنواع مخصصة للعصير، أهم هذه وأشهرها “الزبدية”، وهذه ثمرة كبيرة نسبياً (نصف الكيلوغرام وزناً في المتوسط)، والفارق الأول بين مانجو العصير ومانجو المائدة ما بالثمرة من ألياف وأيضاً كمية خلاصتها السائلة. فالأنواع الأفخر والأفضل تكاد تذوبُ في الفم، أما أصناف العصير، مهما كانت حلاوتها، فستنحشر بين أسنانك أنسجة منها. 

لكن شجرة الزبدية محورية كما يعرف كل زارع للمانجو في مصر . فهذا الصنف غزير الإنتاج عدداً ووزناً، من ثم يضمن للمزارع مردوداً جيداً، أما الأصناف الفاخرة فكثير منها إنتاجه محدودٌ وزناً.

شهد آكلو المانجو في مصر دخول أصناف كثيرة جديدة في العقدين الماضيين، ومعظمها من شجرٍ أصغر حجماً مما يسمح، بكثافة أكبر من المعتاد منها في الزراعة، وهي تظهر في الأسواق متأخرة عن الأصناف الأقدم. من أسماء هذه الأصناف الجديدة، التي تنم  عن أصولها الأجنبية:  الناعومي والكيت والكنت والتومي والهايدي، وهي جيدة عموماً، لكنها لا تُقارن بما عرفته البلاد من أنواع فاخرة تظهر كل عام بين أواخر حزيران/ يونيو وأيلول/ سبتمبر.

ولأن المانجو شجرة بطيئة النمو، وتستغرق أعواماً لتصل الى إنتاجٍ  غزير، تبقى ثمرة غالية نسبياً في مصر حتى بعد زراعة مئات الآلاف من الأفدنة منها. علما أنها، كأنواع أخرى من الأشجار، “مُعاومة”، أي غزيرة الإنتاج عاماً، شحيحة العام الذي يليه. أما التغير المناخي في السنوات الأخيرة فكان له أثر سلبي. مثلاً: قبل أربعة أعوام فقدت مصر معظم محصولها من هذه الثمرة الثمينة لاضطراب غير معتادٍ في الفصول (شتاء دافئ للغاية تبعته موجة حرارة مبكرة ثم عودة للبرودة).

كل هذه العوامل وغيرها، مضاف إليها الارتفاع الهائل في تكلفة المستلزمات الزراعية من سمادٍ ومبيدات، تخبرنا أنه لتكون هذه الثمرة مربحة للمنتج فلا بد من ارتفاع سعرها بشدة، وإلا ضحّى المزارعون بها، لكن إن ارتفعت أسعارها لا تعود في متناول مصريين كُثر ينتظرونها بشوقٍ كل صيف. 

مجاز المانغو

المانجو ليست فقط معشوقة الآكلين بل هي أيضاً موضوعٌ للتندر والسخرية. ثمرتنا هذه ينهمر منها عصيرها ما إن نشبت فيها أسنانك، وهي لذيذة إلى الحد الذي لا يترك منها ولا فيها شيء، فإن أُكل لحمها شرع المُلتهم بمص ما استطاع من فوق بذرتها، من ثم نكات و”ميمز” كثيرة عن الفوضى التي تحدثها كل “موقعة مانجوية”. 

هناك مادة كثيرة لطيفة، مثلاً، على اليوتيوب، لكن ربما أجملها لرضيع يصارع ثمرة مانجو تاركاً أثر حربه الضروس على نفسه وعلى كرسيه وكل ما حوله، علماً أن طريقة أكل الكبار للمانجو ليست أفضل كثيراً عادة.د

 ومن الطريف أن سيدة كانت ملكة جمال مصر يوماً ما (لأسباب غير واضحة) قررت أن يكون دورها تعليم المصريين “الإتيكيت”، وبعدما تحدثت عن الطريقة الصحيحة لأكل الملوخية المصرية (التي كانت طبعاً طعام ملوك فرنسا المفضل كما هو معروف ، من ثم “إتيكيت الملوخية”)، قررت التوجه نحو المانجو. 

فهذه، طبقاً لها، تقطع وتصفى لتأكل بشوكة من دون بحرٍ من عصيرها تغرق فيه. لكن سيدتي، أين اللذة في هذا؟ ولِمَ إذاً صنعت المناشف أو الملابس سهلة الغسيل؟ ثم، كم من هذه الثمرة الرائعة ستهدر طريقتك هذه؟ رجاءً أيها المتأففون، دعونا في المانجو نغوص!  

للمانجو فوائد جمة فهي غنية جداً بفيتامين ج (سي)  وفيها أيضاً نسبة لا بأس بها من فيتامين ب 6 ، لكنها أيضاً، وهي الثمرة شديدة الحلاوة، تحوي نسبة عالية من السكر، نحو 14 في المئة من وزنها في المتوسط. لهذا حين زرت صديقاً لي، طبيب متخصص في التغذية، في محاولة بائسة مني لفقدان الوزن، نصحني بالتوقف عن أكل المانجو. كلامه علمي منطقي طبعاً،  لذلك كانت هذه نهاية صداقتنا.  

يا سادة إن كان ثمن الوزن الزائد (ومشاكل أخرى) ثلاثة أشهر من لذة المانجو كل عام، فليكن إذاً! أي ضرر في هذا المُخدر اللذيذ الحلال؟ رجاءً عزيزي الطبيب، كلنا في حاجة الى الغطس في لذة المانجو، فقليل غيرها اليوم يمنحنا وهم السعادة.