ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

سيرة حواس: أذن تبوح لأوّل مرّة  

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

مهما يكن اختيارها، سينتهي بها المطاف راقدة على سرير في مستشفى ما، تنصت للهدوء المطبق وعبارات حبّ صادقة تلتقطها قبل الصمت النهائي. يقول العلم إن الأذن هي آخر عضو يموت في جسد الإنسان. ربما تجمع آخر ذبذبات، تحفظها جيّداً وتكرّرها، لتسمعها في غرفة ولادة هادئة، ربما لذلك، تبدأ حياة كلّ أذن بصراخ وعويل.  

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

صراخ وعويل. هكذا أتذكّر، أو بالأحرى أتخيّل، أصوات اللحظات الأولى. ربما كانت غرفة الولادة هادئة. ربما أرادت أمّي أن تفاجئ العائلة فلم تقل لأحد إنني على وشك المجيء إلى هذا العالم. ربما لم يكن أحد موجوداً إلا الطبيب وأمّي وبعض المتدرّبين في المستشفى. 

التقطت أذني الأصوات الأولى قبل أن تصاب بصدمة هائلة. من انتزعها من هدوء الرحم؟ من شوّش عليها استقرار صوت نبضات قلبها فأمسى يدقّ أسرع ما يمكن؟ من دمّر المحيط الهادئ الذي ألفته ودرجة الحرارة البالغة 37  درجة مئوية التي اعتادت عليها؟ ربما كان الخروج الصدمة الأولى للأذن الصغيرة. ربما لم تكن كذلك، بل صعقتها عدّة ذبذبات قوّية عندما ولدت في مثواها الأوّل.  

بعدها، تكتشف أذني صوتي. الصوت الذي ستسمعه كثيراً. أو ربما لن تسمعه بعد فترة. لكنّ للصوت قصّة أخرى. أما هذه القصّة فهي قصّة الأذن التي تسمع وتصغي وتنصت، أي أنها تسمع بدرجات اهتمام متفاوتة للغاية، لذلك استحقّت أن تهدي لها اللغة العربية عدّة أفعال: تكريماً للانتباه الذي تصبّه في كلّ حديث وكلّ سياق. لكنّها لا تتكلّم أبداً. فقط هذه المرّة قرّرت أن تنشئ نصّها الخاصّ، لأنها تعي تماماً أنه الشيء الوحيد الذي سيُصغي لها بعناية، وينقل دقّة شعور أذن بالفعل وفم بالقوّة! 

ربما أذن أرسطو هي التي أوحت له بنظريته تلك… ما علينا، لنعود أدراجنا إلى غرفة العمليّات حيث اكتشفت أذني للمرّة الأولى أنها ولدت بجسد له صوت وشعور. لكنّه كان صاخباً للغاية، ثم ضعف تدريجياً بعد التعوّد على المحيط الجديد، ثم بعد التعوّد على الكتمان. في غرفة أخرى، تعلّمت الأذن أن أطفالاً آخرين يصرخون أيضاً. وأن لديهم صوتاً قد يكون أعلى أو أوطى. أمسى تفاوت طبقات الصوت واضحاً وتجلّى وسط هدوء المستشفى. 

هناك أيضاً، اكتشفت الأذن الأضداد للمرّة الأولى، مقارنة بين صمت المستشفى المطبق وصراخ الأطفال المدوّي. ربما هكذا كلّنا نتعلّم الأشياء: بنقيضها. تختلط الأصوات على أذني لكنّها تنجح بالتقاطها والاحتفاظ بها في أدراج الذاكرة. ستعطي لكلّ صوت معنى عمّا قريب. ولن تكون الأصوات مجرّد تردّدات صوت عبيثة، بل ستنتظم بأحرف عربية مدروسة ذات نطق موحّد، تنهال على الأذن الصغيرة بينما تصدمها تراتبية الأصوات وتعقيدات لغة عتيقة وجميلة. لكنّ ذلك لن يمنعها من تفسير كلّ مزيج من الحروف وإعطائه معنى، فتختار أن تنفر من بعض الأصوات ومعانيها، كما تختار أن تنذهل حبّاً لبعضها الآخر. 

تتحوّل الأذن، للمفارقة، من حاسّة استقبال محض إلى حاسّة إلهام. تستجمع ما يدور حولها محاولة ربط كلّ مؤثّر بآخر مرّ عليها. تتجمّع الأصوات في أذني. تتبدّل من أصوات رفيعة و حروف سهلة اللفظ كالباء والميم إلى أخرى أصعب بقليل. تتلقّاها الأذن بصعوبة أحياناً وشقاوة أحياناً أخرى. تنفر من سماع شدّة وقع حرف كالقاف، أو تبتسم لرقّة تجمع أخرى في كلمة كالأمل. ربما لذلك قرّرت من عمر صغير الاستعاضة عن القاف بالهمزة، متخليّة عن اللهجة الجبلية التي طبعت في مسمعي. 

تغيير اللهجة هو أوّل فعل مقاومة كلّلته الأذن بنجاح باهر. إذ غيّرت لهجة دون أن تنطق بحرف. إنها قوّة الشعور وحسب! لذا، قرّرت استكمال العصيان شكلاً كما سمعاً. لتتّجه إلى أقرب صيدلية وتقرّر إحداث ثقب في جوفها، لتكون أوّل أذن مثقوبة في عائلتنا. بعدها، أنهكتها الأقراط الكبيرة والصغيرة والمتوسّطة الحجم، حتى أمست تريد التحرّر منها لتباغتها السمّاعات، التي تطوّرت بدورها وتحوّلت من سمّاعات صغيرة يربطها سلك، إلى أخرى لا سلكية، أو إلى سمّاعات تغطّي الأذن بكاملها. 

أضحك عندما أفكّر بالتاريخ التحرّري لأذني. من أذن قبعت تحت القبّعة تفادياً للبرد والشتاء، وتلبية لأوامر أمّي، إلى أخرى استسلمت لقمع السمّاعات إرضاء للموضة وحبّاً بالموسيقى. ناهيك باستسلامها لسطوة المجتمع المانع للأقراط، ثم إصرارها الدائم على ارتداء قرط مدوّر كبير يشبه الشمس، دأبت على تفضيله دوماً بالرغم من وزنه الزائد لأهمّية إثبات قدرتها على حمله. 

المفارقة أن الأذن التي حملت الأقراط الثقيلة فشلت بتحمّل كثرة الكلام والتملّق، وأهمّها فشلت بحمل ثقل الوعود الكاذبة. كأن أذني أدركت أن الكذب أثقل ما في هذا العالم. هكذا، عادت أذني إلى تحت القبّعة منكفئة. فضّلت أن تدفن في وسادة تستمع لبكائي، وتتفهّمه إذ إنها تئنّ معي في كثير من الأحيان حتى إن لم أسمعها. 

لا أجدني أختلف كثيراً عن أذني. أنا أيضاً أصغي كثيراً وقليلاً ما أتكلّم. ألحق صوت فيروز من النوافذ. أميل إلى سماع البودكاست، ولا أتمنّى سوى الإصغاء إلى صوت حبيب. أحفظ رنّة الهاتف المخصّصة له ولا أسمعها أبداً. كثيراً ما نبكي، أنا وأذني، ليس بسبب ما نسمعه، بل بسبب ما انتظرنا سماعه ولم نلقه. 

قد يتساوى حضور صوت وغياب آخر أمام الأذن فتحكم بالأنين. كثيراً ما تئنّ الأذن ليس لأنها سمعت ما يضايقها، بل لأنها لم تسمع ما تتوق إليه، فتغيب الفرحة إذ تغيب أسبابها. ويستعاض عنها بألم مخبّأ لم تهد موهبة التعبير عنه، لكنّها سعت جاهدة لتلملم من هنا وهناك كلمات قد تنظّم فيما بعد لتكتب قصّتها هذه.  

بيد أنني لا أعتقد أن أذني وصلت إلى وعي ماهيّة مشاعرها وأهمّية فهمها. أشعر أنها حتماً تقشعرّ عند سماع صوت حبيب قريب، وترتعش عند سماع صوت غريب منبوذ. ربما هكذا يبدأ التعبير: عندما نفهم ما نشعر به فنهمّ بتجميع كلّ ما يمتّ إلى شعورنا بصلة. لذا، تتمنّى أذني لو ولدت في مكان أكثر حساسية تجاه الأصوات، أو أن تكون، كغيرها، لا تعي ماذا يدور حولها. لا ترتعش برداً لسماع الغيث، ولا ترتجف حنيناً لصوت حبيب بعد سماع صوت يشبهه مصادفة في الشارع، ولا ترتعد لصوت الرصاص وصراخ المتألّمين، ولا تعرف التفريق بين صوت طائرات الاستطلاع والدرّاجات النارية.

ودّت لو صمّت أو تكلّمت عوضاً عن الموت تحت وطأة المشاعر المكتومة، وسعيها الدائم وراء إيجاد ما يعبّر عنها، والتمسّك به ومشاركته كوسيلة مثلى للتعبير وبرهان صلب على العيش، أو ودّت لو تستحيل أيقونة أو  رمزاً لتحرّر ما، أن تجسدها لوحة تعلّق على حائط اللوفر، وتصمد رغم تحديق الموناليزا بها. لكنّها ودّت أيضاً أن تضمن احتفاظها بالجسد الذي تنتمي إليه، الجسد الذي يجول بها لتستجمع ما تريد سماعه، والاحتفاظ بجسد الآخر أيضاً، وهو الجسد الذي يسمعها ما تتوق إليه دون حاجة إلى التجوال. تخاف أذني أن تستحيل أذناً بلا جسد كمترجم فوري بلا أذن. 

تحتار الأذن عند مفترق طرق: هل تخلّد فنّاً كأذن فان غوخ؟ تعلّق على حائط لتسمع كلمات حبّ، أو تجول العالم مع الحبيب نفسه؟ تقع الأذن في مأزق الاختيار بين انتقاء الصوت أو تكديس الأصوات جميعاً، تخيّر بين حتمية الحبّ والبغض واحتمالية الغرام. هل يتجوّل عاشقان في متحف دون أن يعترفا لبعضهما بالحبّ؟ لا تعتقد. هل تؤثّر أذن التشبّث بجسد تتوسّل منه الكلمة الطيبة، عوضاً عن تسلّق حائط يضمن كلام ودّ؟ لا تعتقد أيضاً. 

مهما يكن اختيارها، سينتهي بها المطاف راقدة على سرير في مستشفى ما، تنصت للهدوء المطبق وعبارات حبّ صادقة تلتقطها قبل الصمت النهائي. يقول العلم إن الأذن هي آخر عضو يموت في جسد الإنسان. ربما تجمع آخر ذبذبات، تحفظها جيّداً وتكرّرها، لتسمعها في غرفة ولادة هادئة، ربما لذلك، تبدأ حياة كلّ أذن بصراخ وعويل.  

جنى بركات - صحافية لبنانية | 14.11.2025

“ستارلينك” لبنان: ما علاقتها بوزير الاتّصالات وبالشبهات المرتبطة بمعاقَب أميركياً؟ 

مع دخول "ستارلينك" إلى لبنان، برزت إشكالية حول مساعي الشركة الأميركية للتعاقد مع "Connect Services Liberia" كموزّع لخدمات "ستارلينك" في لبنان، من دون فتح باب المنافسة بين الشركات الأخرى، وهي الشركة التي سبق أن ترأّسها وزير الاتّصالات الحالي شارل الحاج. 
18.10.2025
زمن القراءة: 5 minutes

مهما يكن اختيارها، سينتهي بها المطاف راقدة على سرير في مستشفى ما، تنصت للهدوء المطبق وعبارات حبّ صادقة تلتقطها قبل الصمت النهائي. يقول العلم إن الأذن هي آخر عضو يموت في جسد الإنسان. ربما تجمع آخر ذبذبات، تحفظها جيّداً وتكرّرها، لتسمعها في غرفة ولادة هادئة، ربما لذلك، تبدأ حياة كلّ أذن بصراخ وعويل.  

صراخ وعويل. هكذا أتذكّر، أو بالأحرى أتخيّل، أصوات اللحظات الأولى. ربما كانت غرفة الولادة هادئة. ربما أرادت أمّي أن تفاجئ العائلة فلم تقل لأحد إنني على وشك المجيء إلى هذا العالم. ربما لم يكن أحد موجوداً إلا الطبيب وأمّي وبعض المتدرّبين في المستشفى. 

التقطت أذني الأصوات الأولى قبل أن تصاب بصدمة هائلة. من انتزعها من هدوء الرحم؟ من شوّش عليها استقرار صوت نبضات قلبها فأمسى يدقّ أسرع ما يمكن؟ من دمّر المحيط الهادئ الذي ألفته ودرجة الحرارة البالغة 37  درجة مئوية التي اعتادت عليها؟ ربما كان الخروج الصدمة الأولى للأذن الصغيرة. ربما لم تكن كذلك، بل صعقتها عدّة ذبذبات قوّية عندما ولدت في مثواها الأوّل.  

بعدها، تكتشف أذني صوتي. الصوت الذي ستسمعه كثيراً. أو ربما لن تسمعه بعد فترة. لكنّ للصوت قصّة أخرى. أما هذه القصّة فهي قصّة الأذن التي تسمع وتصغي وتنصت، أي أنها تسمع بدرجات اهتمام متفاوتة للغاية، لذلك استحقّت أن تهدي لها اللغة العربية عدّة أفعال: تكريماً للانتباه الذي تصبّه في كلّ حديث وكلّ سياق. لكنّها لا تتكلّم أبداً. فقط هذه المرّة قرّرت أن تنشئ نصّها الخاصّ، لأنها تعي تماماً أنه الشيء الوحيد الذي سيُصغي لها بعناية، وينقل دقّة شعور أذن بالفعل وفم بالقوّة! 

ربما أذن أرسطو هي التي أوحت له بنظريته تلك… ما علينا، لنعود أدراجنا إلى غرفة العمليّات حيث اكتشفت أذني للمرّة الأولى أنها ولدت بجسد له صوت وشعور. لكنّه كان صاخباً للغاية، ثم ضعف تدريجياً بعد التعوّد على المحيط الجديد، ثم بعد التعوّد على الكتمان. في غرفة أخرى، تعلّمت الأذن أن أطفالاً آخرين يصرخون أيضاً. وأن لديهم صوتاً قد يكون أعلى أو أوطى. أمسى تفاوت طبقات الصوت واضحاً وتجلّى وسط هدوء المستشفى. 

هناك أيضاً، اكتشفت الأذن الأضداد للمرّة الأولى، مقارنة بين صمت المستشفى المطبق وصراخ الأطفال المدوّي. ربما هكذا كلّنا نتعلّم الأشياء: بنقيضها. تختلط الأصوات على أذني لكنّها تنجح بالتقاطها والاحتفاظ بها في أدراج الذاكرة. ستعطي لكلّ صوت معنى عمّا قريب. ولن تكون الأصوات مجرّد تردّدات صوت عبيثة، بل ستنتظم بأحرف عربية مدروسة ذات نطق موحّد، تنهال على الأذن الصغيرة بينما تصدمها تراتبية الأصوات وتعقيدات لغة عتيقة وجميلة. لكنّ ذلك لن يمنعها من تفسير كلّ مزيج من الحروف وإعطائه معنى، فتختار أن تنفر من بعض الأصوات ومعانيها، كما تختار أن تنذهل حبّاً لبعضها الآخر. 

تتحوّل الأذن، للمفارقة، من حاسّة استقبال محض إلى حاسّة إلهام. تستجمع ما يدور حولها محاولة ربط كلّ مؤثّر بآخر مرّ عليها. تتجمّع الأصوات في أذني. تتبدّل من أصوات رفيعة و حروف سهلة اللفظ كالباء والميم إلى أخرى أصعب بقليل. تتلقّاها الأذن بصعوبة أحياناً وشقاوة أحياناً أخرى. تنفر من سماع شدّة وقع حرف كالقاف، أو تبتسم لرقّة تجمع أخرى في كلمة كالأمل. ربما لذلك قرّرت من عمر صغير الاستعاضة عن القاف بالهمزة، متخليّة عن اللهجة الجبلية التي طبعت في مسمعي. 

تغيير اللهجة هو أوّل فعل مقاومة كلّلته الأذن بنجاح باهر. إذ غيّرت لهجة دون أن تنطق بحرف. إنها قوّة الشعور وحسب! لذا، قرّرت استكمال العصيان شكلاً كما سمعاً. لتتّجه إلى أقرب صيدلية وتقرّر إحداث ثقب في جوفها، لتكون أوّل أذن مثقوبة في عائلتنا. بعدها، أنهكتها الأقراط الكبيرة والصغيرة والمتوسّطة الحجم، حتى أمست تريد التحرّر منها لتباغتها السمّاعات، التي تطوّرت بدورها وتحوّلت من سمّاعات صغيرة يربطها سلك، إلى أخرى لا سلكية، أو إلى سمّاعات تغطّي الأذن بكاملها. 

أضحك عندما أفكّر بالتاريخ التحرّري لأذني. من أذن قبعت تحت القبّعة تفادياً للبرد والشتاء، وتلبية لأوامر أمّي، إلى أخرى استسلمت لقمع السمّاعات إرضاء للموضة وحبّاً بالموسيقى. ناهيك باستسلامها لسطوة المجتمع المانع للأقراط، ثم إصرارها الدائم على ارتداء قرط مدوّر كبير يشبه الشمس، دأبت على تفضيله دوماً بالرغم من وزنه الزائد لأهمّية إثبات قدرتها على حمله. 

المفارقة أن الأذن التي حملت الأقراط الثقيلة فشلت بتحمّل كثرة الكلام والتملّق، وأهمّها فشلت بحمل ثقل الوعود الكاذبة. كأن أذني أدركت أن الكذب أثقل ما في هذا العالم. هكذا، عادت أذني إلى تحت القبّعة منكفئة. فضّلت أن تدفن في وسادة تستمع لبكائي، وتتفهّمه إذ إنها تئنّ معي في كثير من الأحيان حتى إن لم أسمعها. 

لا أجدني أختلف كثيراً عن أذني. أنا أيضاً أصغي كثيراً وقليلاً ما أتكلّم. ألحق صوت فيروز من النوافذ. أميل إلى سماع البودكاست، ولا أتمنّى سوى الإصغاء إلى صوت حبيب. أحفظ رنّة الهاتف المخصّصة له ولا أسمعها أبداً. كثيراً ما نبكي، أنا وأذني، ليس بسبب ما نسمعه، بل بسبب ما انتظرنا سماعه ولم نلقه. 

قد يتساوى حضور صوت وغياب آخر أمام الأذن فتحكم بالأنين. كثيراً ما تئنّ الأذن ليس لأنها سمعت ما يضايقها، بل لأنها لم تسمع ما تتوق إليه، فتغيب الفرحة إذ تغيب أسبابها. ويستعاض عنها بألم مخبّأ لم تهد موهبة التعبير عنه، لكنّها سعت جاهدة لتلملم من هنا وهناك كلمات قد تنظّم فيما بعد لتكتب قصّتها هذه.  

بيد أنني لا أعتقد أن أذني وصلت إلى وعي ماهيّة مشاعرها وأهمّية فهمها. أشعر أنها حتماً تقشعرّ عند سماع صوت حبيب قريب، وترتعش عند سماع صوت غريب منبوذ. ربما هكذا يبدأ التعبير: عندما نفهم ما نشعر به فنهمّ بتجميع كلّ ما يمتّ إلى شعورنا بصلة. لذا، تتمنّى أذني لو ولدت في مكان أكثر حساسية تجاه الأصوات، أو أن تكون، كغيرها، لا تعي ماذا يدور حولها. لا ترتعش برداً لسماع الغيث، ولا ترتجف حنيناً لصوت حبيب بعد سماع صوت يشبهه مصادفة في الشارع، ولا ترتعد لصوت الرصاص وصراخ المتألّمين، ولا تعرف التفريق بين صوت طائرات الاستطلاع والدرّاجات النارية.

ودّت لو صمّت أو تكلّمت عوضاً عن الموت تحت وطأة المشاعر المكتومة، وسعيها الدائم وراء إيجاد ما يعبّر عنها، والتمسّك به ومشاركته كوسيلة مثلى للتعبير وبرهان صلب على العيش، أو ودّت لو تستحيل أيقونة أو  رمزاً لتحرّر ما، أن تجسدها لوحة تعلّق على حائط اللوفر، وتصمد رغم تحديق الموناليزا بها. لكنّها ودّت أيضاً أن تضمن احتفاظها بالجسد الذي تنتمي إليه، الجسد الذي يجول بها لتستجمع ما تريد سماعه، والاحتفاظ بجسد الآخر أيضاً، وهو الجسد الذي يسمعها ما تتوق إليه دون حاجة إلى التجوال. تخاف أذني أن تستحيل أذناً بلا جسد كمترجم فوري بلا أذن. 

تحتار الأذن عند مفترق طرق: هل تخلّد فنّاً كأذن فان غوخ؟ تعلّق على حائط لتسمع كلمات حبّ، أو تجول العالم مع الحبيب نفسه؟ تقع الأذن في مأزق الاختيار بين انتقاء الصوت أو تكديس الأصوات جميعاً، تخيّر بين حتمية الحبّ والبغض واحتمالية الغرام. هل يتجوّل عاشقان في متحف دون أن يعترفا لبعضهما بالحبّ؟ لا تعتقد. هل تؤثّر أذن التشبّث بجسد تتوسّل منه الكلمة الطيبة، عوضاً عن تسلّق حائط يضمن كلام ودّ؟ لا تعتقد أيضاً. 

مهما يكن اختيارها، سينتهي بها المطاف راقدة على سرير في مستشفى ما، تنصت للهدوء المطبق وعبارات حبّ صادقة تلتقطها قبل الصمت النهائي. يقول العلم إن الأذن هي آخر عضو يموت في جسد الإنسان. ربما تجمع آخر ذبذبات، تحفظها جيّداً وتكرّرها، لتسمعها في غرفة ولادة هادئة، ربما لذلك، تبدأ حياة كلّ أذن بصراخ وعويل.  

18.10.2025
زمن القراءة: 5 minutes
|

اشترك بنشرتنا البريدية