لم أرد أن تنتهي الحرب في العراق قبل أن أفكر، ولو لمرة، بإعادة أولئك الذين اختفوا فجأة من حياتي. جاءت الحرب كقدر لا مفر منه، سريعة، خاطفة، كأنها كائنٌ أبيض فضفاض، يمرق بين الشوارع، يلتهم كل من يعترض طريقه.
بعد عشر سنوات، قررت أن أواجه خساراتي، أن أبحث عن الشوكولا السويسرية، أن أحصي الغائبين واحداً تلو الآخر. كتبت الأسماء وفرزتها في قوائم: المختطفون، المفقودون، أولئك الذين تمزقت أجسادهم في لحظة خاطفة بين شظايا السيارات المفخخة والانتحاريين، ومن سقطوا تحت نيران القصف الأميركي. أردت أن أتعلم السباحة وركوب الدراجة الهوائية.
أول من افتتح المزاد العلني للموت كان عمي يعقوب في زمن حكم صدام حسين، عمي ذلك الرجل الذي عشق الحروب أكثر من الحياة، نصحه الجميع بعدم الذهاب الى حرب، أدرك الجميع –حتى صدام حسين نفسه- أنها خاسرة.
قبل شهر من مقتله، زار منزلنا، وطلب من أمي إعداد “الخبز المقلي”، الذي وُلد في زمن القسوة. صار الطحين لا يؤكل إلا في بيوت المسؤولين. باعت أمي ثوب زفافها، ثم باقة الورد لشراء البديل مثل النخالة أو نوى التمر.
“طلبت من السيدة أن تضم الثوب لي وضحكت. لا تصدق أني قد أبحث عنه بعد نهاية الجوع. بالطبع الطحين الحقيقي أفضل المواد المتوافرة، لكنه مليء بالقمل”، تقول أمي وتلقي العجينة المختمرة على شكل قرص في المقلاة، ينتشر صوت القلي مثل نشيدٍ يوميّ للنجاة.
لم يكن عمّي باحثاً عن النبوءة وهو بطريقه نحو الحرب. كان هذا هو المسار الطبيعي المتوارث لعائلتنا: خمسة من أعمامي اختاروا الخدمة العسكرية، بينما كان أبي هو الاستثناء، اختار المسرح والثقافة. في كل حرب، كان يُستدعى، كأي عراقي، إلى الجبهة، لكن الغزو الأميركي للعراق عام 2003 كان حرباً من نوع آخر، حرب “ديمقراطية” للغاية. حرب منحته، للمرة الأولى فرصة البقاء معنا على رغم استدعائه. على الأقل، لو متنا، سنكون سوية. لن يعود ليجد الكلاب تنهش بقايا أجسادنا، أو نستقبله في تابوت ملفوف بعلم العراق الذي كان مثل صدام، بارعاً باللعب بالجنود.
كان العلم شاهداً على الأشياء الخفية وعلى كل الهزائم، يتغير مع كل موسم، مرة بنجمات، بنجمات و”الله أكبر”، ومرة قرر صدام أن يخطه بدمه، أو بدم البلاد كلها. ثم نُزعت النجمات، وبقي فوق التوابيت.
استُدعي أكثر من مليون جندي، 600 ألف منهم احتياط، 500 ألف قبّلوا عوائلهم على عجل، وخلفهم رمت الأمهات الماء بـ”طاسة الفافون”، لتُعيدهم يوماً. في 2003، لم يجد رجال البعث وقتاً لمطاردة الفارين، لم تُعلَّق أسماؤهم على الجدران، لم يُطلق عليهم الرصاص عند أبواب البيوت.
دخل الجيش الأميركي العراق، بأقل من نصف مليون جندي. تقريباً بنفس عدد الجنود العراقيين الذين شاركوا في غزو الكويت، لكن هذه المرة، لم يكن أحد مضطراً للهرب حافياً، بثياب مدنية مسروقة، يكفي أن يبقى الجندي في البيت.
بوابة الخسارات: بغداد تحت المطر الناري
صار القصف جزءاً من روتين الحياة اليومية، في آذار/ مارس 2003، لم يكن مطر الربيع هو الذي غسل شوارع المدينة، بل رذاذ الانفجارات، أصبحت الطائرات هي السماء وهي التي تقرر أين تمطر ومتى تحيل الطقس الى غائم جزئي، مصحوب بدخان النيران والضحايا.
عند السادسة مساءً، يبدأ العد التنازلي. ننتظر الصوت الأول، الارتجاج الأول، الصرخة المعدنية التي تمزق الهواء قبل الأرض. تسألني أختي: ما معنى صوت الغارة؟ أجيبها: “إنه ملك الموت، وهو يطاردنا”. الغارة ترتدي ملاءة سوداء، تنفخ على المدينة من فوق، وتسقط بغداد.
أصر والدي على بقائنا في المنزل، على رغم اشتداد القصف. لم أفهم وقتها لمَ كنت أربط بين الطائرات التي تحلق فوقنا وصاروخ يقع عمودياً على رأسي؟ كانت مخاوفي محدّدة وواضحة: ألا يحدث ذلك وأنا في الحمام، وأنا أتبول، أو بعيداً عن حضن أمي، أو خارج مخبئنا السري تحت السرير، حيث جمعتنا أمي مع قطتنا “توتي”.
كانت توتي أول من هرب. تبعتها العائلات، جيراننا، أصدقاؤنا، أطفال الحي، وكأن الجميع قرر فجأة أن يأخذ إجازةً من الموت.
يخلع العراقيون قناع الحياة. يشغّلون أغنية “منصورة يا بغداد” في سياراتهم، ثم يتركونها خلفهم عند أول طلقة. كل حرب تصيب العاصمة بلعنة الحدود—تتلاشى بسرعة، وتتحول إلى مدينة لا يسكنها إلا القتلى.
الخروج الكبير
تكدّس الناس في طوابير من خوف، محاولين الوصول إلى ضواحي المدينة، قد تحلّ أصوات العصافير محلّ أزيز الطائرات وصراخ الجنود الأميركيين، كانوا يتحدثون بلغة لم نكن نفهم منها سوى “هيلو مستر” حفظناها لنعلن السلام وحفظ أنفسنا.
كل بيوت الزقاق فرغت من سكانها، إلا بيتنا، وبيت أم عطور، جارتنا الممرضة، التي بقيت لتداوي الجرحى. جاءت إلينا مرة في منتصف القصف الشديد، مرهقةً وغاضبة: “لقد جلبوا لي رجلاً برأس مقسوم نصفين، وطلبوا مني مداواته! الناس هنا جنّوا!”.
في إحدى ليالي القصف، حين جلسنا معها نتقاسم الطعام، تنهدت وقالت بحماسة، كمن يرى نهاية النفق: “الخير قادم… سنأكل كما يأكل باقي البشر”.
كان هذا كل ما تفكر به من التغيير. لم تكن الوحيدة.
لم يعرف العراقيون قبل 2003 مذاق الحلوى، الفاكهة، أو اللحم. كان كل شيء غارقاً في ضباب الحصار، منذ أن فرضت الولايات المتحدة حصارها الاقتصادي على العراق عام 1990. قرر صدام البقاء في الكويت. تحول العناد إلى جوع، ومحا الحصار الشهية للحياة.
أُغلقت الأبواب في وجهنا بطريقة مريبة. بيعت نوافذ البيوت لشراء البيض، أصبح أغلى من راتب المعلم، الذي تهاوى فجأة إلى أقل من دولارين. نشأ جيلي—جيل التسعينيات—على الجبن المصنوع في المنازل، والبطاطا المسلوقة على المدفأة النفطية و”المحروك أصبعه”. لم أجرؤ يوماً على تخيل طعم الشوكولاتة: “هل هي حلوة؟ هل ستجعلني سعيدة؟ عرفت بعد سنين لمَ كان كل الشعب حزيناً؟”.
كانت والدتي تحتفظ بمجلد قديم للمستلزمات المنزلية، وفي صفحاته الأخيرة، صورٌ لحلويات غربية، شوكولاتة، كعك، فواكه زاهية الألوان. تأملناها أنا وأختاي ذات مرة وسألنا أمي: “لماذا لا يمكننا تناول هذه الأشياء؟” ثم بكينا، وصرخنا، فقامت ببيع المجلد. كان آخر ما تبقى من المكتبة.
الموز بعد الحرب
لوقت طويل، لم نكن ننتظر سقوط صدام بقدر ما كنا ننتظر الموز. لم يكن متوافراً، كغيره من الأشياء التي جرّمها النظام. أراد لنا أن نحلم بطعم البيبسي، أن نحاول تقليده في المنازل. في سوق مريدي، وُلدت نسخة رديئة منه، مسحوق أبيض يُخلط بالماء، يتحول إلى مشروب مسكر بالوهم. الكثيرون وقعوا في فخ الباعة الجوالين، أولئك الذين يسألون بصوت رخيم: “تريد بيبسي بالغاز؟” وحين ينبهر المواطن الهزيل، ذلك الذي صار البنطال فضفاضاً عليه من الجوع، يُخرج البائع فتاحة القنينة، في اللحظة نفسها يصدر صوت “تششش”، ثم يناوله الزجاجة. سيقنع نفسه أن ما يشربه بيبسي، وأن السكر ماء غازي.
في سوق مريدي عراقٌ آخر، يسامح ويهرب أولاده، يقف خلف بدلة صدام حسين. جوازات سفر مزورة، هويات بأسماء مستعارة لأولئك الذين يبحثون عن فرصة للنجاة من التآكل، أكلات جديدة أميركية وثياب أوروبية. في ذلك السوق، وجدوا بدائل لكل شيء—عدا الموز.
بعد 15 عاماً من إعدام صدام، كانت حفيدته تؤلف كتاباً تقول فيه إن أطفال العائلة مُنعوا من شرب البيبسي إلا مرة واحدة أسبوعياً، حتى يشعروا بما يعانيه المواطن العراقي.
عاد أبي ذات يوم من المدرسة حيث كان معلماً، وقبل أن يستبدل ثيابه استعداداً لوظيفته المسائية كبائع غاز، قال لنا: “جاءني اليوم طالب أثناء الفرصة، كان مستعجلاً كأنه يفرّ من شيء. سألته: لماذا تريد الخروج؟ هل عاد والدك من الأسر؟ لا. وجدتم جثة عمّك؟ لا، فقط أريد الذهاب، أرجوك”. ثم اقترب منه وهمس: “اليوم أمي ستطبخ دجاجة، ونحن 20 شخصاً في المنزل، لا أريد أن يتركوني مع العظام فقط”.
ذلك المساء، شعرنا بالحزن، لكننا لم نبكِ. قررت أمي أن تكافئ خيالاتنا الصابرة بأكلة جديدة، سنحبها. “حمص بطحينة”—قالت بحماسة—”سنهرس الحمص لصنع الفلافل أيضاً، وسنستبدل زيت الزيتون بالدهن”. كانت لذيذة.
مطاعم الحرب
أردتُ أن تنتهي الحرب سريعاً لأرى كل الوجبات التي حرمت منها. لم يكن أحد يتخيل عدد المطاعم التي ستغزوا العراق بعد 2003. وكأن العراقيين أرادوا الانتقام من الحصار بالطعام. اليوم، أعداد المطاعم في العراق اليوم أكثر من 24 ألف مطعم بحسب الأرقام المعلنة/ ما يقارب ألف مطعم في بغداد وحدها.
لا يفتش العراقيون عن متنزهات، لا يملكون حدائق، ولا ملاعب، ولا مساحات للفرح، لكنهم يجدون ضالتهم في المطاعم.
في أيام الحرب الأولى، كدّست والدتي أكياساً من “الكليچة”—حلوى شعبية مصنوعة من التمر والطحين—كانت وجبتنا الوحيدة تقريباً، ثلاث مرات في اليوم. وإذ أرادت التنوع وإضافة الموالح، يكون باستخدام وحش الطاوة. كان الباذنجان رفيق المائدة والقلوب العراقية الحزينة طوال سنين الجحاف. يُقطّع إلى شرائح رفيعة، يُنقع في الماء والملح. يُقلى حتى يسوَدّ، كمن يحمل في لونه سواد الأيام. لا تأكله بارداً، سيصبح مطاطياً، يلتصق دهنه اليابس بسطحه ثم في حلقك. ظلَّ “الأسود” وفياً أكثر من غيره.
مرة، أختي لم تعد تحتمل الوجبتين، أرادت خبزاً وبيضاً، بأي ثمن. ما تفعل بالأموال التي تخبئها؟ قد نموت بأي لحظة، “اطبخوا البيض” تقول لوالديّ.
كان بإمكاننا التظاهر بالعيش في الصباح فقط. في تلك الفسحة الزمنية القصيرة بين الغارات والنهار، نتمرن على ركوب الدراجة الهوائية، نلعب ببقايا الشظايا، وأحياناً نحدق في بعضنا بصمت. ذلك اليوم، خرجنا بضع خطوات بصحبة والدي للبحث عن البيض والخبز. وفجأة، تدحرج رأسٌ أمامنا، ثم استقر قرب أقدامنا.
حان وقت الهرب، إلى بيت جدي في مدينة الصدر، شيء ما بقي هناك في الشارع ونحن ننظر الى أم عطور التي بقيت وحدها، ملتصقاً بنا مثل دهن الباذنجان البارد.
“نحن ننسى بسرعة، نسينا الحرب، نسينا الحصار، نسينا المفخخات… لكننا ما زلنا نأكل الباذنجان، من أجل الذكرى، الذكرى فقط” .
رياض الغريب- شاعر عراقي
طوال الطريق، كانت أمي تبكي. تهجم على أذن أبي وتقول:”أخبرتك مراراً، حتى قبل أن ننجب هؤلاء المساكين، أن نهرب! رأيت بغداد مدينة مدمّرة قبل عشرين سنة، ولم تسمعني، سمحت لنا بالجوع والآن بمقابلة الرؤوس المقطوعة، ماذا بعد؟”، لم يجب ابي.
عشنا فوق سطح منزل جدي لأيام. نمنا تحت ضوء القصف، كان أشبه بإنارة عالية لم تشهدها بغداد سابقاً لانقطاع الكهرباء. ازدحم البيت، فتشاجرنا حتى على دور الحمام. وجبة واحدة نتناولها فوق، يلعب الهواء بشعري ويتسابق مع اللقمة نحو فمي. برودة الطقس تجمّد الوجبة سريعاً.
وصلتنا جثة عمي الضابط في ليلة بدون كهرباء، تحوم النسوة حول الكفن، يساعد ضوء الفانوس النفطي ظلالهن وازدياد أعدادهن، يلطمن على وجوههن وصدورهن، تحشر ابنته الصغرى طقوس النسوة، تبعدهن، لا ينتبهن لها. بيدها تحمل النعش، كان خفيفا جداً، كان حفنة من الفحم بحجم كفّ صغيرة. تأخذه وتحتضنه مثل أم تحمل رضيعها. وتخرج به، يستمر العزاء بدونه.
تحول البيت لمقبرة. بعد عمي، جاءت جثة خالهم سيراً على الأقدام. ثم بصاروخ، سقط وقوفاً في منزل الجيران. ركض منه أحدهم، كانت دماؤه خلفه تلحقه، وصل مستنجداً بنا، ثم قررت روحه الخروج. كانت بالنسبة لأمي، حجة لنعود ونموت في منزلنا. “يجب ان تصدق أن عزرائيل يسير الآن في كل العراق وليس في منطقتنا فقط، أعدني” قالتها بصرخة وللمرة الأولى أجاب والدي: “هل فكرت ولو للحظة، ما سنفعل لو واجهتنا في طريقنا، دبابات أميركية؟ كان لأمي الحل دائماً. قطع ملابس رجالية داخلية بيضاء، تخرج من نوافذ السيارة. سيعرف الأميركان أننا شجعان ونقاومهم.
بغداد… مدينةٌ للبيع
لم نجد بغداد. وجدنا محلاً كبيراً مسروقاً تعمّه الفوضى. الثلاجات والغسالات متناثرة في الشوارع، الملابس ملقاة على الأرصفة، أصوات المشاجرات تتصاعد، فيما يقف الجنود الأميركيون عند الزوايا… يدخنون، ويتفرجون.
حتى منزلنا، لم نجده، لم يكن منزلنا. سُرق كل شيء، الأثاث، الثياب، حتى مجلدات تحمل بقايا لذكريات تصارع في الحصار، “مجلتي” و”المزمار”، وآخر الباذنجان.
“تسسس” أستطيع تخيل الصاروخ عندما ينطلق من الطائرة الشبح. يقترب، الصوت ويعلو، قبل سقوطه بثوان، أقبض بغضب على عيني، لا أتعرف على يد أيّ من عائلتي، أعتصر في الظلمة. هكذا، حتى يقرر الطيار إيقاف اللعب. في الشارع صباحاً، رجالٌ يخرجون من الدمار حاملين أبواباً، نساءٌ يجررن شبابيك، أطفالٌ يركضون بملابس أكبر من أجسادهم، كما لو أن المدينة انفجرت إلى قطعٍ صغيرة، والكلّ يحاول أن يحمل شيئاً منها.
لم تهتم قوات التحالف لمؤسسات الدولة، لكنها حمت وزارة النفط، والبنك المركزي. كانوا يكسرون الأقفال بأيديهم، ثم يشيرون للناس بالدخول. ساعدوا العراقيين على سرقة الماضي. 170,000 قطعة أثرية، خرجت من المتحف العراقي بوجوه مبتسمة.
لم نكن نعلم بكل هذا لانقطاع الكهرباء، ما كنت شاهدة عليه، هو مقتل أحد جيراني بسبب التدافع أثناء السرقة في قصور صدام نحو المطابخ، تقول شاهدة: “رأوا لأول مرة في حياتهم أنواعاً جديدة من اللحوم”.
لا أتذكر من قال مرة، إن شاحنات الطماطم كانت تُسحق. لئلا يعتاد العراقيون طعمها.
عطشٌ لا يُروى
البيض أصبح بسعر جيد، لكن الماء انقطع. حفرنا آباراً في باحات منازلنا. مثل حفاري قبور. لم تُخرج لنا سوى الخيبة والتراب. حملنا الدلاء على أكتافنا، وسرنا نحو أزقة مختلفة، بحثاً عن ماء، نقوم بتسخينه على نيران شحيحة حتى يصبح صالحاً للاستخدام.
في إحدى المرات، تعثرت، سقط دلو الماء من يدي، انسكب كله على الأرض، وبكيت كثيراً. عندما عدت لأملأه، رفض صاحب البئر أن يعطيني الماء مجدداً. يومها، عاقبت نفسي بالامتناع عن الشرب وتناول الطعام.
في كل زاوية، الخوذ العسكرية والدبابات الأميركية تسير. أحياناً كانوا يوزعون منشورات، وكعكاً ملفوفاً بأكياس شفافة، لكن جارنا كان يصرخ في الزقاق محذراً:
“مليء بالخنازير، جلبوه لتكونوا بلا شرف مثلهم!”.
قوات التحالف وزعت مساعدات غذائية، على المنظمات، على بعض الأحياء. يشاهد المواطنون العلب المعدنية الغريبة، مصفوفة كجنودٍ صامتين، كأنها من الفضاء.
وصلت المساعدات إلى الأسواق. في سوق الشورجة، كان أبي يشتري العلب المجهولة، لنجرب طعام ما بعد الحصار. علب الفاصولياء، الحساء الجاهز، أكياس البسكويت المغلفة بإحكام. تلك التي جعلتهم طِوال القامة، ضخام الجسد. “هذا طعامهم، لهذا هم أقوى منا”، كنا نرددها ونحن نمضغ ونقلب العلب على أيدينا، نقرأ الكلمات الأجنبية بلا فهم.
أحياناً، كانت دوريات الجيش الأميركية تقتحم البيوت فجأة، بالضرب، والصراخ، والتكسير، وتحطيم كل شيء، ثم الخروج من دون سبب. كانت الاعتقالات بالجملة. بعد أربع سنوات من الحرب، اعتُقل أكثر من 400 ألف شخص.
أخي كان سيكون أحدهم… بعمر الثالثة فقط. أُهدي مسدس ماء بلاستيكي، وكان سعيداً، يضغط الزناد علينا ويرش قلوبنا بالماء.اقتربت دورية أميركية، ويا لمصادفة الأقدار، رأوا أخي “المسّلح”. اندفع الجنود نحوه، سحبوه، دفعوه، جرّوه، عنّفوه وصرخوا بوجهه. لم أفهم يومها ما الذي يحصل. يسحبون منه شيئاً كما تسحب الحرب حياتك نحو القاع، كان يبكي رافضاً. أخذته أنا منه، أمسكوا بالمسدس، رفعوه أمام أعينهم، قلّبوه بين أيديهم، ثم أدركوا أنه بلاستيكي. أخذوه. ظل أخي يبكي عليه. عادت إحدى المجندات لتسكته بعلبة مكسرات. ألا يشبه هذا المشهد. النفط مقابل الغذاء؟
حين بدأ العراقيون بأكل بعضهم البعض
حرية الأكل، وحرية الرأي. هل هناك أفضل من ذلك؟ كان بإمكان الجميع أن يحظوا بما تمنوا بدون الحاجة الى أن يظهر كل منهم، صدام حسين صغير بداخله. لربما، لم يعلم أحد، أن مرحلة “الحرية الجديدة”، ستُفرش ببساط الثآرات الشخصية. يؤسفني أنهم وبدلاً من الالتفات لوجبات الطعام الجديدة، للكنتاكي والبيتزا، صار العراقيون يفضلون تناول بعضهم البعض.
في 22 شباط/ فبراير 2006، انهار المسجد المقابل لمدرستي كما لو أنه لم يكن هناك قط، وسقط الناس، بعضهم أسرع من الآخرين. ركضت وبحثت عن أختي.
كانت أمي تقف حافية في منتصف الزقاق مع أمهات أخريات يملكن اللهاث نفسه، وفوقهن الرصاص. تنتظرنا لتصرخ: “انفجر مرقد الإمام العسكري”.
وهكذا، انقسمت المدينة إلى نصفين، مثل تفاحةٍ.
(2006-2008) أكثر من 60 ألف قتيل، وعشرات الآلاف من المفقودين. عشية التفجير، تناولنا الجبن والدبس تحت أصوات الرصاص والهاونات اللانهائية. كانت المرة الأخيرة التي أنتبه فيها الى مذاق الطعام، بعدها، صار الأكل مجرد عادة ميكانيكية، مثل إغلاق الباب قبل النوم. قطعوا رأس قريبي، ووضعوه في قدرٍ من مرق الفاصوليا.
كأنه جزءٌ من وجبة لم تكتمل. خارج المدرسة، سقطت صديقتي برصاصةٍ واحدة لأنها رفضت ارتداء الحجاب. كانت مسيحية. رأيتها تنزف، الدم يتسرّب بسرعة، كما لو أنه مستعجل للرحيل قبلها. بعد يومين، اتصلت زوجة عمي: “لقد خُطف”.
في الاتصال الرابع، أحضرت دفتراً، وبدأت أكتب: كيف قُتلوا؟ متى؟ أين؟ أرقام، أسماء، تواريخ، طرق الإعدام. تحولت الصفحات إلى عزاء طويل. فيما أمي تمسح دموعها بطرف حجابها، وتهمس: “هل أكلوا جيداً قبل أن يُقتلوا؟ أم رحلوا جائعين؟”.
في الحيّ، ككل الأحياء، لم يعد أحد يعرف من يقتل من. لا أتذكر متى أصبح زميلي في الابتدائية واحداً من العصابة التي لا أجرؤ على نطق اسمها، حتى بعد كل هذه السنوات.
نمشي بين الجثث، بعضها بقي لأيام وصار جزءاً من الشارع. وجوه نائمة، وضعيات نوم مختلفة على الأرصفة ولا غطاء فوق أجسادهم. أطلقت وأختي على الطريق المؤدي إلى المدرسة اسم “مثلث برمودا” وتهيأنا لدخوله يوماً من دون الخروج. في إحدى المرات، وجدنا كلاباً تنهش بجثة شخص ما.
حاولنا الاقتراب لإنقاذها، لكن القناص أطلق رصاصة تحذيرية بالقرب منا. كان علينا أن نعبر، وكأننا لا نرى شيئاً. وحين نصل إلى المدرسة، كانت هناك جثة أخرى بانتظارنا. نبحث عن المدرّسات، لكن لا أحد هناك سوى جثة الحارس، تتوسط ساحة المدرسة، ويتوزع أولاده في الصفوف. اختصرت حياتي بين طريقين خطيرين للغاية، من البيت إلى المدرسة والعكس. أما حارات المدينة، فنسي الجميع كيف تكون.
أردنا، أنا وأختي مرة، التحايل، والذهاب الى المدرسة بدون مقابلة آثار عزرائيل. في الفجر نسير أخف من الهواء. قابلتنا سيدة، دمها يقول إنها قُتلت قبل لحظات، كان وجه النهار الذي يبدأ بالتمدد نحو وجهها، يمنحنا شعوراً بأنها نائمة. شعرها البني مصفف لوقت طويل، تنورة وقميص رسميان، بلون بيج، وحذاء أحمر بكعب صغير. قلائد عدة ذهبية وخواتم. “شكد حلوة ونيقة؟ تتمنى أن تجدها عائلتها وتمنحها تشييعاً بثيابها نفسها”، تقول أختي. ما زالت هذه السيدة تزورني في الحلم، ما زالت، كالجميع.
في العام نفسه، تحولت بغداد بوحشية وسرعة الى قسمين، سني وآخر شيعي، فرض عليها رحلة التغير الديموغرافي. صارت مدينة بربع قلب. وضحاياها الأكبر هم الأقليات. العصابة رمت علينا الحجاب. منعت الشباب من وضع مثبت الشعر، وارتداء الأكسسوارات، أو حتى أحزمة البناطيل المختلفة. كانت “العقوبات” تُنفّذ بمرأى الجميع، حفلات تعذيب مجانية. عقوبات تطاول حتى الخيار والطماط في بعض المناطق، كان يجب ألا تختلط في السلطة، شرعياً حرام.
ولأن أبي وأمي من مذهبين مختلفين، مُنحت لنا هبة الاختيار: إما التخلي عن الزواج، أو عن المذهب، أو التخلي عن المنزل. كان هذا ما قالته العصابة لوالدي، الذي رفض تغيير أي شيء. أمي صرخت للسماء وتوسلت، سأكون هنودسية لو أرادوا، فقط لنبقى في المنزل، الى أين نذهب هذه المرة؟ تركنا المنزل للمرة الثانية وحده مع العصابة، لم يكن للجدران لسان لتخبرنا بما حصل. كان لها وجه مليء ببقايا الأسلحة، وآثار الدماء، وملابس ممزقة مغطاة بها.
جارنا لم يكن محظوظاً كفاية. بعد فترة، أخرجت القوات العراقية جثثاً مدفونة داخل الجدران.
جارتنا الأخرى، كانت الأكثر شؤماً. قتلوا ابنها… خرجت بهدوء توبخ زوجها. “أخبرتك ألا تعطيه اسم ديني” كانت الأسماء تقتل أصحابها بسهولة في المدينة.
قبل تهجيرنا، كانت العصابة تعتزم المرح بحياة السكان، من خلال مواجهات عسكرية مع القوات الأميركية، ولأيام. كانت المعارك تبدأ هكذا، من دون مقدّمات، وكأن أحدهم ضغط زرّاً مخفيّاً في جدار المدينة، فنُحبس في المنازل، نراقب المؤونة تتناقص. لا يبقى غير الخبز اليابس. أمي تكرر:
“يوماً ما سيذهب كل هذا. سنجلس في مطعم، ونطلب كل شيء، سنأكل حتى التخمة، ثم نضحك”.
المعارك تنتهي كما تبدأ. المتحاربون يغادرون، يأخذون أسلحتهم، ويتركون جثث العابرين وحدها على الأرض.
رعب مثل دائرة
كنا في البيت، عندما هدمت سيارة مفخخة السوق القريب. والدتي هناك. أخي الصغير يبكي، يريد الركض إليها. خرجنا مسرعين ونبحث بين الأشلاء. سبعة عشر شخصاً من رفاقنا كانوا بين الضحايا. قال الله أكبر قبل تفجير نفسه، أراد تناول الغداء مع النبي. يقولون ذلك. وصلت صباحاً الملايّة (مهنة المساعدات على البكاء) الى الحي، كانت غير قادرة على التنقل من منزل الى آخر.
طلبت جمع النساء في مكان واحد. الشارع، الذي بدا حضناً بكائياً كبيراً. كنت أنظر إليهن وأسأل: هل يعلم بهن أحد؟ هل ينقل صياحهن الصدى؟ بعد ساعات، اقتربت العصابة من بعض الجيران، أخذتهم، وأعدمتهم انتقاماً.
حسدت جارتي التي استطاعت بعد تلك المجزرة، الهرب بثيابها فقط الى سوريا، ثم وصلت الى كندا. بعد سنين تعترف لي: أول ما بحثت عنه في بلاد الثلج: مطعم عراقي يشوي السمك المسكوف.
هربت السنين بأكثر من 65 ألف سيارة مفخخة، وأربعة ملايين لاجئ. لست واحدة من الطرفين. استمرت آلة ثرم المواطنين، حلم الناجين بوطن يشبه سائر الأوطان، حيث أكبر مخاوف الشباب هو لون ثوب التخرج. حصلت على فرصتي وصوتي لقول لا لكل هذا في ثورة أكتوبر 2019. يكفي أننا اليوم نستطيع أن ننتقد الحكومة في مجالسنا بدون أن تتلصص الجدران”، قالتها صديقة والدتي الرافضة أيّ مظاهرة .
كانت فقدت أخيها لأن مديرته رفعت تقريراً ضده بعدما وجدته يتناول إفطاره “محروق اصبعه” على جريدة تحوي وجه صدام. “تريد وطن، كعدو راحة” تقولها بسخرية. رفض والداي مشاركتي في التظاهرات. “حسناً، أنا في العمل”، أقولها لأمي من سيارة مغلقة، أخرج لساحة التظاهر، أفقد المزيد والمزيد من الأصدقاء، هذه المرة ليست بسيارات مفخخة. برصاص الدولة، والقنابل المسيلة للدموع. أعود للدفتر، لا أجده، أشتري واحداً جديداً، أبدأ بالكتابة. حتى بعد انتهاء التظاهرات، أصبح القتل أسهل من سابقه. وقع في ساحة التحرير أكثر من 700 مدنياً، ثم عشرات الناشطين والناشطات، بدراجة نارية. رجلان. مسدس كاتم. رصاصة في الرأس.
الخوف تلك المرة كان أثقل، يحيط بي كضبابٍ كثيف، لأني فعلياً بدأت بتلقي الكثير من رسائل التهديد. رسائل في تلغرام، واتسآب، أخبر الشرطة: يقولون “من الواضح أنهم مراهقون” أصرخ بوجهه. كانت الرسائل تحمل تفاصيل نهاري وألوان ثيابي الفاقعة. فراقبت ظلي، وبدلت الطرق، وبقيت أشعر بالخوف يتنفس على كتفي.
مرة ترجلت من التاكسي. رأيت رجلاً يقترب مني بدراجة نارية. رفع يده، صرخت بهستيريا. لكنه كان يحمل هاتفه، يريد الاتصال بصاحب “الأوردر”. في يده الأخرى، كانت هناك بيتزا.
بتوسل أمي، تركت البيت للمرة الثالثة. كنت وحيدة. لا يد تربّت على كتفي، ولا من يذكّرني بأنني سأعود يوماً. قادتني قدماي إلى أم عطور، جارتي المضمدة، المرأة التي استمر عملها لمساعدة نصف الحي من رصاص القناصة والمفخخات ثم جرحى التظاهرات. استقبلتني بوجه لم تخنه التجاعيد. قالت وهي تضحك: كبرتِ وصرتِ تنالين التهديد من هذه الأرض وحدكِ.
ثم، كما في وداع الجيوش، دسّت في حقيبتي الفاكهة والكليجة.
ثلاث مرات، أخرج من منزلي من دون أن أعرف السبب.
في كل مرة أوضب معي وجوه الجثث التي التصقت بدماغي، أحزان أمي وهي توبّخ أبي على بقائنا حتى اللحظة الأخيرة، أصوات الصواريخ وكل الحرب. ثم أفكر بتناول الباذنجان.
كل شيء، يشبه شجرة عائلة البلاد.
لا وقت للشجاعة في هذه البلاد.
إقرأوا أيضاً: