على عتبة 105 سنوات من المحرقة الأرمنية، وهي الحدث الأبرز في العلاقات الأرمنية- التركية، تبدو أرمينيا وتركيا في مسارين منفصلين، إذ تنحو الدولة الأولى باتجاه إعادة صوغ العقد الاجتماعي بين المواطنين والدولة بعد الثورة الأرجوانية عام 2018، في حين تواصل الثانية التوغل في أراضي الغير وتوسيع إطار نفوذها الإقليمي.
أيام فصلت بين نقل ليبيا مسلحين سوريين إلى ليبيا للقتال بالوكالة في حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، من جهة، وبين انشغال أرمينيا بمفاوضات السلام مع آذربيجان على منطقة ناغورنو غارا باخ، في قلب القوقاز وقريباً من منابع نفط بحر قزوين. وهذه المقاربة السلمية لم تأتِ من فراغ، بل نتيجة تراكمات.
كان عام 2018 علامة فاصلة في تاريخ أرمينيا. في تلك السنة، أودت الاحتجاجات الجماهيرية السلمية بالنظام السابق، وفتحت كوة في الجدار بانتخاب سيرج سركسيان رئيساً للوزراء.
لم تكن تلك الرحلة الأرمنية بالهينة. حين انطلق نيكول باشيانيان (42 سنة) في مسيرته الاحتجاجية تحت عنوان “خطوتي” في 31 آذار/ مارس من مدينة غيومري، لم ينضم إليه في البداية سوى قليل من الصحافيين. وعندما وصل باشينيان إلى العاصمة يريفان في 13 نيسان/ أبريل مشياً على القدمين، انضم آلاف آخرون إلى حركته. وبالنسبة إلى الكثير من الأرمن، كانت هذه هي المرة الأولى التي يرون فيها بصيص أمل بمستقبل أفضل منذ الاستقلال عن الاتحاد السوفياتي عام 1991.
لم يمض وقت طويل حتى انضم إلى الحراك عشرات آلاف الطلاب والأطباء، وشعر الأرمن أخيراً بأن أصواتهم مسموعة.
في يوم الاثنين الموافق 16 نيسان، بدأت حملة “اخطُ خطوة، وارفض سيرج”، وانطلق العصيان المدني. في 17 نيسان، إثر انتخاب الرئيس السابق سيرج سرجسيان رئيساً جديداً للوزراء، ازدادت وتيرة الاحتجاجات.
مع نمو الحشود، دعا رئيس الوزراء الجديد أكثر من مرة إلى محادثات مع زعيم حركة الاحتجاج نيكول باشينيان، لكن الأخير أبدى استعداداً لمناقشة شروط استقالة رئيس الوزراء وحسب. ذاك أن المطالب كانت واضحة، وضمت إلى الاستقالة، انتخابات مبكرة وإخراج الحزب الجمهوري من السلطة.
عقد البرلمان الأرمني انتخابات جديدة لاختيار رئيس وزراء جديد، وكان زعيم المعارضة باشينيان هو المرشح الوحيد. بثت الانتخابات البرلمانية على الهواء مباشرة لمدة 9 ساعات في ساحة الجمهورية وقد شاهدها أكثر من مئة ألف شخص. على رغم هذا كله، فإن حزب الأغلبية حاول منع ترشيح نيكول من خلال التصويت ضده.
في 2 أيار/ مايو عام 2018، تجمع أكثر من 150 ألف شخص في ساحة الجمهورية للاستماع إلى محاضرة باشينيان التي ذكر فيها أن الحزب الحاكم قرر دعم ترشيحه في الجولة المقبلة من التصويت في 8 أيار 2018. كان باشينيان يملك التفويض الشعبي في الشارع، فيما تحصن النظام السابق ببرلمان ومواقع صارت أشبه بهياكل فارغة أمام الناس.
وهاتان السنتان الفاصلتان من الانتقال السلمي إلى نظام تغييري ديموقراطي شهدتا أيضاً تكريساً لدولة القانون. بدأت أخيراً في يريفان محاكمة الرئيس الأرمني السابق سيرج سركيسيان بتهمة اختلاس أموال عامة. ووجهت التهمة إلى سركيسيان (65 سنة) في كانون الأول/ ديسمبر ومُنع من مغادرة أراضي أرمينيا، وهو يواجه حكماً بالسجن لفترة تصل إلى 8 سنوات في حال إدانته.
وبحسب النيابة العامة، شارك الرئيس السابق في وضع آلية أتاحت لشركة خاصة بيع وقود بأسعار أعلى بفارق كبير عن السوق لبرنامج مساعدات حكومية للقطاع الزراعي. في موازاة هذه المحاكمة، وفي إطار المساعي لتكريس استقلالية القضاء وافق برلمان أرمينيا على استفتاء حل المحكمة العليا في البلاد للتخلص من قبضة أنصار نظام سيرج سرجسيان.
تركيا، من جهة ثانية، تنحو باتجاه شعبوي على المستويين الداخلي والخارجي. الرئيس أردوغان مرر تعديلات دستورية لتوسيع دائرة صلاحياته، ويُعيد كل انتخابات يخسر فيها حزبه. من سمات عهده، عمليات تطهير واسعة النطاق في أجهزة الدولة كلّها، ومنها القضاء. عملياً، إن لم تكن أردوغانياً في الدولة، فلا مكان لك فيها. وفقاً لوكالة “رويترز”، يقبع 120 صحافياً في السجن في تركيا، وهو رقم قياسي عالمياً. المعارضون الأتراك تضيق بهم بلادهم، ويغادرون إلى الخارج بحثاً عن ملاذ آمن من الاعتقال والتنكيل.
على الصعيد الخارجي، تتبنى تركيا بقيادة أردوغان سياسات عدائية مع العالم، من أوروبا ومن ضمنها قبرص المجاورة حيث أسس التنقيب عن النفط لأزمة جديدة، إلى سوريا وليبيا حيث باتت أنقرة شريكة في الصراع وديمومته.
بعد ثلاث سنوات من الآن، سيحيي أردوغان الذكرى المئوية لولادة الجمهورية التركية. حين يقف أمام المحتفلين، كزعيم أوحد لا شريك له في السلطة، وسط الأعلام التركية وهتافات الأنصار، سيُحاول مجدداً طمس التاريخ، وإلقاء ثوب من القداسة على تاريخ الجمهورية والسلطنة من قبلها، وكأن الإبادة الأرمنية لم تحصل. وكأن المليون الأرمني الذين نُحيي ذكراهم، لم تبتلعهم نيران الحقد. وكأن شيئاً لم يحصل لجدتي أوسانا التي هربت من بلدتها أضنة بعدما ذبح جنود عثمانيون والدها واغتصبوها وأطفأوا سجائرهم في جسدها العاري. مشت مئات الكليومترات إلى دار للأيتام في جبيل حيث أعطيت الرقم 142، حفظته على مر السنوات وكأنه شيفرة تُلخص معاناتها.
لكن وعلى رغم الطمس، سيكون لنا نحن الأرمن للمرة الأولى في تاريخنا، تجربة ديموقراطية تعددية تأخذ الشعب في الاعتبار. سنكون نقيضاً حقيقياً. حينها أيها الأرمن، الصورة وحدها ستنطق.