ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

سيناء: من نصر أكتوبر إلى التغريبة المسكوت عنها 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يكشف التقرير في شهادات السكّان المحلّيين أن التمييز ضدّ البدو له جذور تاريخية، إذ اعتُبروا “آخرين” لا يستحقّون الحقوق نفسها، التي يتمتّع بها باقي مواطني البلاد، وهو ما خلق بيئة من الإفلات من العقاب، حيث نفّذت عمليّات القتل خارج نطاق القانون دون مساءلة حقيقية.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

هنا القاهرة… نجحت قوّاتنا المسلّحة في عبور قناة السويس على طول المواجهة، وتمّ الاستيلاء على منطقة الشاطئ الشرقي للقناة، وتواصل قوّاتنا حالياً قتالها مع العدو بنجاح، أُعلن لشعبنا ولأمتنا العربية كلّها أن قرون التخلّف والهزيمة قد انتهت، بعد أن حقّقت القوّات المصرية أوّل نصر حقيقي للعرب منذ عدّة قرون”.

كان بيان الإذاعة المصرية عن بدء معركة تحرير سيناء في السادس من تشرين الأوّل/ أكتوبر 1973، بياناً لم تنسه الأجيال المصرية والعربية على مدار خمسة عقود وأكثر، وكان صوت السادات المجلجل والأجشّ، قد تربّع في الذاكرة الجمعية للأمّة العربية، ليس فقط للتذكير بلحظة انتصار أعادت ثقة العرب والمصريين في أنفسهم بعد هزيمة حزيران/ يونيو 1967، بل بداية أيضاً لنسج حاجز منيع ومانع في التفكير وطرح السؤال الممنوع الآن، أيّ نصر لسيناء بعد استردادها من يد إسرائيل بعد أكثر من خمسة عقود؟

كبرت الأجيال المصرية على البكاء وإهدار دموع الفرح في كلّ مناسبة سنوية عن نصر أكتوبر، واسترداد سيناء. لحظة تاريخية بالطبع، لكنّها اعتصرتنا وابتزّتنا عاطفياً منذ الطفولة حتى الآن، وما زالت تعتصر طلاب المدارس وجمهور دراما النصر. فسيناء بالنسبة إلى أجيال متعاقبة، هي فقط الأرض التي انتزعناها من فكّ “الجيش الذي لا يُقهر”، لكن هل نعرف حقاً سيناء وأهلها؟ هل نعلم أن سيناء جمدت في الزمن؟ وجمدت في بيان الإذاعة؟ وجمدت في حنجرة السادات؟ وغرقت في تغريبة طويلة عن المصريين أنفسهم، وبات أهلها في تغريبة عن باقي المصريين؟

في كلّ عام في السادس من أكتوبر يفرح المصريون للعطلة السنوية بمناسبة استرداد سيناء، ويتمّ استلامهم واستلام أدمغتهم وآذانهم بإذاعة أغاني النصر، يرتدي طلاب المدارس قبل عطلة النصر البزّات العسكرية، ويرفعون أعلام مصر في صور تذكارية تتكرّر بلا مللّ، وتبدأ الصحف المحلّية باجترار قصص بطولات الجنود المعروفين والمجهولين، وتجري تعبئة القنوات بالأغاني الوطنية والأفلام الكلاسيكية، ولا نصر في أكتوبر بلا وجه محمود عبد العزيز في “رأفت الهجان”، أو محمود ياسين في “الرصاصة لا تزال في جيبي”، أو مادلين طبر في ” الطريق إلى إيلات”.

 هل يحقّ لنا أن نقول بلا خوف إن خمسين عاماً باتت كافية لتخطّي الخطاب العاطفي التحفيزي والتعبوي عن نصر أكتوبر، وأنه حان الوقت لنعيد تعريف جديد للنصر بالتنمية؟ أو نسأل أهالي سيناء هل هم راضون أم خائفون؟ هل نسأل عن المخفيّين قسرياً منذ سنوات؟ هل نسأل عن تحرّك برلماني بشأن تقرير المقبرة الجماعية التي دُفن فيها قتلي ومخفيّون قسرياً من المصريين من أهالي سيناء؟

هذا السؤال الواضح عن التنمية يزعج بالطبع كرنفال الاحتفال السنوي، وتقرير المقبرة الجماعية الصادر قبل ذكرى حرب أكتوبر نهاية شهر أيلول/ سبتمبر الجاري، يصدر نشازاً لن تتقبّله السردية الرسمية.

كشفت مؤسّسة “سيناء لحقوق الإنسان” في تقرير لها نهاية أيلول/ سبتمبر الماضي، عن وجود مقبرة جماعية جنوب العريش، تضمّ عشرات الضحايا الذين قُتلوا خارج نطاق القانون. يغطّي التقرير فترة زمنية تمتدّ من العام 2010 حتى 2025، ويركّز على القتل خارج نطاق القانون في شمال سيناء، بخاصّة تجاه البدو في مناطق مثل العريش وبئر العبد ووسط سيناء.

 تشير الوثائق والمقابلات إلى أن السلطات المصرية نفّذت سياسات أمنية صارمة ضدّ القبائل المحلّية، تشمل الاختطاف، والاعتقال التعسّفي، والتصفية الجسدية، تحت ذريعة مكافحة الإرهاب، لكنّها طالت المدنيين الأبرياء بلا تمييز، بما في ذلك الأطفال والشيوخ. 

يكشف التقرير في شهادات السكّان المحلّيين أن التمييز ضدّ البدو له جذور تاريخية، إذ اعتُبروا “آخرين” لا يستحقّون الحقوق نفسها، التي يتمتّع بها باقي مواطني البلاد، وهو ما خلق بيئة من الإفلات من العقاب، حيث نفّذت عمليّات القتل خارج نطاق القانون دون مساءلة حقيقية.

وفقاً للتقرير، تمّ التعرّف على الموقع بعد تحليل صور الأقمار الصناعية، ومقارنة التغيّرات في التضاريس مع شهادات السكّان المحلّيين، الذين لاحظوا نشاطاً غير عادي، أو عمليّات دفن سرية. وقام فريق Forensic Architecture بإنشاء نماذج ثلاثية الأبعاد لتقدير عدد الضحايا ومواقع الدفن الفردية، وتمّ مطابقة الأدلّة التقنية مع شهادات الشهود، مما أكّد تورّط جهات أمنية في عمليّات القتل والدفن السرّي.

جاء تقرير مؤسّسة “سيناء لحقوق الإنسان” ليُعيد أصوات الضحايا، سواء كانوا أحياء أو مجرّد رفات، ويطرح أسئلة جوهرية حول من قُتل؟ وكيف؟ ولماذا؟ ومن المسؤول؟ ليس فقط لتوثيق الماضي، بل لضمان عدم تكرار هذه الجرائم في المستقبل، وتحقيق العدالة والمحاسبة. 

استند الفريق في إعداد التقرير إلى مقابلات مع عائلات الضحايا والشهود والناجين، مع ضمان سرّية هويّاتهم، كما جُمعت الأدلّة المادّية من صور وفيديوهات وتقارير طبّية وأمنية، وتمّت زيارة المواقع الميدانية بدقّة لتوثيق المشهد. 

وقد استعان الفريق بفريق Forensic Architecture لتحليل صور الأقمار الصناعية، ورصد التغيّرات في التضاريس لتحديد مواقع المقابر الجماعية، وتمّ تصنيف الحوادث وفق المعايير الدولية لحقوق الإنسان وجرائم الحرب، ليتمّ دمج كلّ البيانات والشهادات والتحليلات في سرد متكامل. 

ومن ضمن الحالات التي وثّقها التقرير، حالات القتل خارج نطاق القانون، من بينها مقتل ثلاثة رجال في حيّ الكرامة شرق العريش في آذار/ مارس 2015، بعد استدعائهم إلى نقطة تفتيش مزيّفة، وقتل أربعة رجال في قرية الحسنة وسط سيناء في كانون الثاني/ يناير 2017، خلال حملة أمنية دون أيّ محاكمة، بالإضافة إلى مقتل طفلين في قرية المنبطح أثناء هجوم عشوائي على المنازل في آذار/ مارس 2016، ووفاة ثمانية عشر معتقلاً في بئر العبد في أيّار/ مايو 2020، في ظروف غامضة، علاوة على إعدام عشرة شبّان في العريش في كانون الثاني/ يناير 2017، دون أيّ محاكمات رسمية.

تقرير مؤسّسة “سيناء لحقوق الإنسان” أظهر أن الانتهاكات الأمنية في المنطقة لم تتوقّف، بل استمرّت بشكل منهجي، وأن المدنيين يواجهون اعتقالات عشوائية، ومداهمات مستمرّة، وتدمير المنازل، ومخاطر يومية على حياتهم. 

التحليل السياسي يوضح أن تصوير سيناء كأرض للإرهاب والجماعات المسلّحة أصبح جزءاً من المخيّلة الإعلامية والسياسية، ويبرّر الإجراءات الأمنية المكثّفة. الحملات العسكرية المتكرّرة، رغم الهدف المعلن لمكافحة الإرهاب، أدّت إلى تفاقم معاناة المدنيين، وزادت هشاشة المجتمع المحلّي، بينما الإعلام غالباً يغفل هذه المعاناة ويركّز على إبراز سيناء كمنطقة خطر دائم.

هكذا وصلت سيناء إلي آخر نقطة قد تليق بها الأغاني الوطنية الأرشيفية، وكذلك أبعد نقطة عن أحلام السادات في تنميتها، مشروع السادات اغترب أيضاً مثلما اغتربت سيناء، السادات كان يسأل كيف يمكن تحويل سيناء، الأرض التي حُرّرت بدماء الجنود وتضحيات المدنيين، إلى نموذج للتنمية والاستقرار؟ ووضع خطّة استراتيجية شاملة، عُرفت باسم “ورقة أكتوبر”، تهدف إلى إعادة دمج سيناء اقتصادياً واجتماعياً في الدولة المصرية. 

وتضمّنت الخطّة استصلاح مئات الآلاف من الأفدنة الزراعية، وإنشاء سدود وشبكات ريّ حديثة تعتمد على تحلية مياه البحر ومياه بحر الرمال، وربط سيناء بالمحافظات الأخرى عبر طرق وموانئ لتسهيل التجارة الداخلية والخارجية، وإقامة مناطق صناعية خفيفة ومتوسّطة لتوفير فرص عمل للشباب. 

كما ركّزت الخطّة على تطوير السياحة في المواقع الطبيعية والتاريخية مثل شرم الشيخ وطور سيناء، بهدف جذب السياحة الداخلية والخارجية، وتحويل سيناء إلى مركز اقتصادي متكامل يعكس الانتصار في الحياة اليومية للمصريين.

مع تقدّم مفاوضات السلام واستعداد إسرائيل لإعادة الأراضي المصرية، ركّز السادات على إعداد سيناء لمرحلة ما بعد الاسترداد من خلال مشاريع تنموية، إلا أن نتائج هذه الخطط بقيت محدودة على الأرض، واكتفى المشروع بإنشاء الجهاز الوطني لتنمية المنطقة. 

وفي عام 1979، أصدر السادات توجيهاته للبدء بتنمية شمال سيناء ووسطها، وقام بقضاء بعض إجازاته في منطقة وادي الراحة في سيناء لمتابعة سير العمل، لكنّ اغتياله في تشرين الأوّل/ أكتوبر 1981، أدّى إلى توقّف المشروع نهائياً.

بعد مرور نحو أربعة عقود على “ورقة أكتوبر”، لم تشهد سيناء أي جهود تنموية حقيقية حتى العام 1994، حين اعتمد مجلس الوزراء استراتيجية جديدة لتطوير سيناء ضمن خطّة وزارة الريّ والموارد المائية، لتصبح جزءاً من مشاريع التنمية الشاملة للدولة. 

وفي أيلول/ سبتمبر من العام 2000، أُعيد وضع استراتيجية شاملة تشمل محافظات القناة، بقيمة استثمارية إجمالية بلغت 110.6 مليارات جنيه، منها 64 مليار جنيه لشمال سيناء، و46.6 مليار جنيه لجنوب سيناء.

رغم المبالغ الضخمة المخصّصة، لم تتحقّق أهداف الاستراتيجية على أرض الواقع سوى مشاريع محدودة، مثل ترعة السلام، التي لم تساهم في التنمية الزراعية المتوقّعة، ولم تخلق التجمّعات السكّانية المخطّط لها. كما واجهت مشاريع البنية التحتية تعثرات متعدّدة، ولم يستفد شمال سيناء سوى من إنشاء كوبري السلام، في حين توقّف العمل في خطّ سكك حديد الإسماعيلية- العريش- رفح عند المرحلة الأولى دون أسباب واضحة، فيما بقيت بقيّة مشاريع التنمية معلّقة أو محدودة النطاق.

مع اندلاع ثورة كانون الثاني/ يناير 2011، عاد التركيز على تطوير سيناء بشكل جدّي بعد غياب طويل للاستثمارات التنموية، وفي 19 كانون الثاني/ يناير 2012، أصدر المجلس العسكري المرسوم بقانون رقم 14 لسنة 2012، لتنمية شبه جزيرة سيناء، وتبع ذلك صدور اللائحة التنفيذية في أيلول/ سبتمبر 2012، كما صدر قرار بتشكيل مجلس إدارة الجهاز الوطني لتنمية سيناء برئاسة اللواء محمّد شوقي رشوان، لكنّ هذه الخطوات بقيت غالباً شكلية دون تنفيذ مشاريع ملموسة على الأرض.

وفي شباط/ فبراير 2015، خصّص الرئيس عبد الفتّاح السيسي ميزانية أوّلية قدرها 10 مليارات جنيه للتنمية في سيناء، في محاولة لتفعيل المشروع وإنعاش جهود التنمية المتوقّفة منذ عقود، إلا أن الإدارة السياسية الحالية قالت إن التحدّيات على الأرض، سواء الأمنية أو البنية التحتية، ما زالت تمثّل عقبة أمام تحقيق الأهداف المنشودة.

نصف قرن وسيناء وحلم تنمية سيناء متوقّف، والمفردة المكرّرة من كلّ نظام سياسي هي “عقبة”، لكن في كلّ نظام سياسي يختلف نوع العقبة… يكفي أن أغاني استرداد سيناء تقوم بالدور الوطني وتحقّق السردية الرسمية، أن قادة مصر منذ السادات، أبطال أكتوبر أو أبطال الجيش المصري، الذين هزموا “الجيش الذي لا يُقهر” باسترداد سيناء.

ابراهيم الغريب - صحافي لبناني | 15.11.2025

على خطّ طرابلس – حمص: حدود سائبة ودولة غائبة و”كزدورة” بأقلّ من 200 دولار

الفساد يعمّق اقتصاد التهريبفي ظلّ الانهيارين الماليين في لبنان وسوريا، تحوّل التهريب إلى شريان اقتصادي رئيسي. مهرّبون، ضبّاط، وسماسرة يعيشون من هذه التجارة التي تدرّ ملايين الدولارات شهرياً. وبحسب مصادر أمنية لبنانية سابقة، فإن بعض المعابر "يُفتح ويُغلق بتنسيق سياسي محلّي مقابل رشى شهرية". النتيجة: حدود سائبة تموّلها الفوضى وتغطّيها المصالح.
06.10.2025
زمن القراءة: 7 minutes

يكشف التقرير في شهادات السكّان المحلّيين أن التمييز ضدّ البدو له جذور تاريخية، إذ اعتُبروا “آخرين” لا يستحقّون الحقوق نفسها، التي يتمتّع بها باقي مواطني البلاد، وهو ما خلق بيئة من الإفلات من العقاب، حيث نفّذت عمليّات القتل خارج نطاق القانون دون مساءلة حقيقية.

هنا القاهرة… نجحت قوّاتنا المسلّحة في عبور قناة السويس على طول المواجهة، وتمّ الاستيلاء على منطقة الشاطئ الشرقي للقناة، وتواصل قوّاتنا حالياً قتالها مع العدو بنجاح، أُعلن لشعبنا ولأمتنا العربية كلّها أن قرون التخلّف والهزيمة قد انتهت، بعد أن حقّقت القوّات المصرية أوّل نصر حقيقي للعرب منذ عدّة قرون”.

كان بيان الإذاعة المصرية عن بدء معركة تحرير سيناء في السادس من تشرين الأوّل/ أكتوبر 1973، بياناً لم تنسه الأجيال المصرية والعربية على مدار خمسة عقود وأكثر، وكان صوت السادات المجلجل والأجشّ، قد تربّع في الذاكرة الجمعية للأمّة العربية، ليس فقط للتذكير بلحظة انتصار أعادت ثقة العرب والمصريين في أنفسهم بعد هزيمة حزيران/ يونيو 1967، بل بداية أيضاً لنسج حاجز منيع ومانع في التفكير وطرح السؤال الممنوع الآن، أيّ نصر لسيناء بعد استردادها من يد إسرائيل بعد أكثر من خمسة عقود؟

كبرت الأجيال المصرية على البكاء وإهدار دموع الفرح في كلّ مناسبة سنوية عن نصر أكتوبر، واسترداد سيناء. لحظة تاريخية بالطبع، لكنّها اعتصرتنا وابتزّتنا عاطفياً منذ الطفولة حتى الآن، وما زالت تعتصر طلاب المدارس وجمهور دراما النصر. فسيناء بالنسبة إلى أجيال متعاقبة، هي فقط الأرض التي انتزعناها من فكّ “الجيش الذي لا يُقهر”، لكن هل نعرف حقاً سيناء وأهلها؟ هل نعلم أن سيناء جمدت في الزمن؟ وجمدت في بيان الإذاعة؟ وجمدت في حنجرة السادات؟ وغرقت في تغريبة طويلة عن المصريين أنفسهم، وبات أهلها في تغريبة عن باقي المصريين؟

في كلّ عام في السادس من أكتوبر يفرح المصريون للعطلة السنوية بمناسبة استرداد سيناء، ويتمّ استلامهم واستلام أدمغتهم وآذانهم بإذاعة أغاني النصر، يرتدي طلاب المدارس قبل عطلة النصر البزّات العسكرية، ويرفعون أعلام مصر في صور تذكارية تتكرّر بلا مللّ، وتبدأ الصحف المحلّية باجترار قصص بطولات الجنود المعروفين والمجهولين، وتجري تعبئة القنوات بالأغاني الوطنية والأفلام الكلاسيكية، ولا نصر في أكتوبر بلا وجه محمود عبد العزيز في “رأفت الهجان”، أو محمود ياسين في “الرصاصة لا تزال في جيبي”، أو مادلين طبر في ” الطريق إلى إيلات”.

 هل يحقّ لنا أن نقول بلا خوف إن خمسين عاماً باتت كافية لتخطّي الخطاب العاطفي التحفيزي والتعبوي عن نصر أكتوبر، وأنه حان الوقت لنعيد تعريف جديد للنصر بالتنمية؟ أو نسأل أهالي سيناء هل هم راضون أم خائفون؟ هل نسأل عن المخفيّين قسرياً منذ سنوات؟ هل نسأل عن تحرّك برلماني بشأن تقرير المقبرة الجماعية التي دُفن فيها قتلي ومخفيّون قسرياً من المصريين من أهالي سيناء؟

هذا السؤال الواضح عن التنمية يزعج بالطبع كرنفال الاحتفال السنوي، وتقرير المقبرة الجماعية الصادر قبل ذكرى حرب أكتوبر نهاية شهر أيلول/ سبتمبر الجاري، يصدر نشازاً لن تتقبّله السردية الرسمية.

كشفت مؤسّسة “سيناء لحقوق الإنسان” في تقرير لها نهاية أيلول/ سبتمبر الماضي، عن وجود مقبرة جماعية جنوب العريش، تضمّ عشرات الضحايا الذين قُتلوا خارج نطاق القانون. يغطّي التقرير فترة زمنية تمتدّ من العام 2010 حتى 2025، ويركّز على القتل خارج نطاق القانون في شمال سيناء، بخاصّة تجاه البدو في مناطق مثل العريش وبئر العبد ووسط سيناء.

 تشير الوثائق والمقابلات إلى أن السلطات المصرية نفّذت سياسات أمنية صارمة ضدّ القبائل المحلّية، تشمل الاختطاف، والاعتقال التعسّفي، والتصفية الجسدية، تحت ذريعة مكافحة الإرهاب، لكنّها طالت المدنيين الأبرياء بلا تمييز، بما في ذلك الأطفال والشيوخ. 

يكشف التقرير في شهادات السكّان المحلّيين أن التمييز ضدّ البدو له جذور تاريخية، إذ اعتُبروا “آخرين” لا يستحقّون الحقوق نفسها، التي يتمتّع بها باقي مواطني البلاد، وهو ما خلق بيئة من الإفلات من العقاب، حيث نفّذت عمليّات القتل خارج نطاق القانون دون مساءلة حقيقية.

وفقاً للتقرير، تمّ التعرّف على الموقع بعد تحليل صور الأقمار الصناعية، ومقارنة التغيّرات في التضاريس مع شهادات السكّان المحلّيين، الذين لاحظوا نشاطاً غير عادي، أو عمليّات دفن سرية. وقام فريق Forensic Architecture بإنشاء نماذج ثلاثية الأبعاد لتقدير عدد الضحايا ومواقع الدفن الفردية، وتمّ مطابقة الأدلّة التقنية مع شهادات الشهود، مما أكّد تورّط جهات أمنية في عمليّات القتل والدفن السرّي.

جاء تقرير مؤسّسة “سيناء لحقوق الإنسان” ليُعيد أصوات الضحايا، سواء كانوا أحياء أو مجرّد رفات، ويطرح أسئلة جوهرية حول من قُتل؟ وكيف؟ ولماذا؟ ومن المسؤول؟ ليس فقط لتوثيق الماضي، بل لضمان عدم تكرار هذه الجرائم في المستقبل، وتحقيق العدالة والمحاسبة. 

استند الفريق في إعداد التقرير إلى مقابلات مع عائلات الضحايا والشهود والناجين، مع ضمان سرّية هويّاتهم، كما جُمعت الأدلّة المادّية من صور وفيديوهات وتقارير طبّية وأمنية، وتمّت زيارة المواقع الميدانية بدقّة لتوثيق المشهد. 

وقد استعان الفريق بفريق Forensic Architecture لتحليل صور الأقمار الصناعية، ورصد التغيّرات في التضاريس لتحديد مواقع المقابر الجماعية، وتمّ تصنيف الحوادث وفق المعايير الدولية لحقوق الإنسان وجرائم الحرب، ليتمّ دمج كلّ البيانات والشهادات والتحليلات في سرد متكامل. 

ومن ضمن الحالات التي وثّقها التقرير، حالات القتل خارج نطاق القانون، من بينها مقتل ثلاثة رجال في حيّ الكرامة شرق العريش في آذار/ مارس 2015، بعد استدعائهم إلى نقطة تفتيش مزيّفة، وقتل أربعة رجال في قرية الحسنة وسط سيناء في كانون الثاني/ يناير 2017، خلال حملة أمنية دون أيّ محاكمة، بالإضافة إلى مقتل طفلين في قرية المنبطح أثناء هجوم عشوائي على المنازل في آذار/ مارس 2016، ووفاة ثمانية عشر معتقلاً في بئر العبد في أيّار/ مايو 2020، في ظروف غامضة، علاوة على إعدام عشرة شبّان في العريش في كانون الثاني/ يناير 2017، دون أيّ محاكمات رسمية.

تقرير مؤسّسة “سيناء لحقوق الإنسان” أظهر أن الانتهاكات الأمنية في المنطقة لم تتوقّف، بل استمرّت بشكل منهجي، وأن المدنيين يواجهون اعتقالات عشوائية، ومداهمات مستمرّة، وتدمير المنازل، ومخاطر يومية على حياتهم. 

التحليل السياسي يوضح أن تصوير سيناء كأرض للإرهاب والجماعات المسلّحة أصبح جزءاً من المخيّلة الإعلامية والسياسية، ويبرّر الإجراءات الأمنية المكثّفة. الحملات العسكرية المتكرّرة، رغم الهدف المعلن لمكافحة الإرهاب، أدّت إلى تفاقم معاناة المدنيين، وزادت هشاشة المجتمع المحلّي، بينما الإعلام غالباً يغفل هذه المعاناة ويركّز على إبراز سيناء كمنطقة خطر دائم.

هكذا وصلت سيناء إلي آخر نقطة قد تليق بها الأغاني الوطنية الأرشيفية، وكذلك أبعد نقطة عن أحلام السادات في تنميتها، مشروع السادات اغترب أيضاً مثلما اغتربت سيناء، السادات كان يسأل كيف يمكن تحويل سيناء، الأرض التي حُرّرت بدماء الجنود وتضحيات المدنيين، إلى نموذج للتنمية والاستقرار؟ ووضع خطّة استراتيجية شاملة، عُرفت باسم “ورقة أكتوبر”، تهدف إلى إعادة دمج سيناء اقتصادياً واجتماعياً في الدولة المصرية. 

وتضمّنت الخطّة استصلاح مئات الآلاف من الأفدنة الزراعية، وإنشاء سدود وشبكات ريّ حديثة تعتمد على تحلية مياه البحر ومياه بحر الرمال، وربط سيناء بالمحافظات الأخرى عبر طرق وموانئ لتسهيل التجارة الداخلية والخارجية، وإقامة مناطق صناعية خفيفة ومتوسّطة لتوفير فرص عمل للشباب. 

كما ركّزت الخطّة على تطوير السياحة في المواقع الطبيعية والتاريخية مثل شرم الشيخ وطور سيناء، بهدف جذب السياحة الداخلية والخارجية، وتحويل سيناء إلى مركز اقتصادي متكامل يعكس الانتصار في الحياة اليومية للمصريين.

مع تقدّم مفاوضات السلام واستعداد إسرائيل لإعادة الأراضي المصرية، ركّز السادات على إعداد سيناء لمرحلة ما بعد الاسترداد من خلال مشاريع تنموية، إلا أن نتائج هذه الخطط بقيت محدودة على الأرض، واكتفى المشروع بإنشاء الجهاز الوطني لتنمية المنطقة. 

وفي عام 1979، أصدر السادات توجيهاته للبدء بتنمية شمال سيناء ووسطها، وقام بقضاء بعض إجازاته في منطقة وادي الراحة في سيناء لمتابعة سير العمل، لكنّ اغتياله في تشرين الأوّل/ أكتوبر 1981، أدّى إلى توقّف المشروع نهائياً.

بعد مرور نحو أربعة عقود على “ورقة أكتوبر”، لم تشهد سيناء أي جهود تنموية حقيقية حتى العام 1994، حين اعتمد مجلس الوزراء استراتيجية جديدة لتطوير سيناء ضمن خطّة وزارة الريّ والموارد المائية، لتصبح جزءاً من مشاريع التنمية الشاملة للدولة. 

وفي أيلول/ سبتمبر من العام 2000، أُعيد وضع استراتيجية شاملة تشمل محافظات القناة، بقيمة استثمارية إجمالية بلغت 110.6 مليارات جنيه، منها 64 مليار جنيه لشمال سيناء، و46.6 مليار جنيه لجنوب سيناء.

رغم المبالغ الضخمة المخصّصة، لم تتحقّق أهداف الاستراتيجية على أرض الواقع سوى مشاريع محدودة، مثل ترعة السلام، التي لم تساهم في التنمية الزراعية المتوقّعة، ولم تخلق التجمّعات السكّانية المخطّط لها. كما واجهت مشاريع البنية التحتية تعثرات متعدّدة، ولم يستفد شمال سيناء سوى من إنشاء كوبري السلام، في حين توقّف العمل في خطّ سكك حديد الإسماعيلية- العريش- رفح عند المرحلة الأولى دون أسباب واضحة، فيما بقيت بقيّة مشاريع التنمية معلّقة أو محدودة النطاق.

مع اندلاع ثورة كانون الثاني/ يناير 2011، عاد التركيز على تطوير سيناء بشكل جدّي بعد غياب طويل للاستثمارات التنموية، وفي 19 كانون الثاني/ يناير 2012، أصدر المجلس العسكري المرسوم بقانون رقم 14 لسنة 2012، لتنمية شبه جزيرة سيناء، وتبع ذلك صدور اللائحة التنفيذية في أيلول/ سبتمبر 2012، كما صدر قرار بتشكيل مجلس إدارة الجهاز الوطني لتنمية سيناء برئاسة اللواء محمّد شوقي رشوان، لكنّ هذه الخطوات بقيت غالباً شكلية دون تنفيذ مشاريع ملموسة على الأرض.

وفي شباط/ فبراير 2015، خصّص الرئيس عبد الفتّاح السيسي ميزانية أوّلية قدرها 10 مليارات جنيه للتنمية في سيناء، في محاولة لتفعيل المشروع وإنعاش جهود التنمية المتوقّفة منذ عقود، إلا أن الإدارة السياسية الحالية قالت إن التحدّيات على الأرض، سواء الأمنية أو البنية التحتية، ما زالت تمثّل عقبة أمام تحقيق الأهداف المنشودة.

نصف قرن وسيناء وحلم تنمية سيناء متوقّف، والمفردة المكرّرة من كلّ نظام سياسي هي “عقبة”، لكن في كلّ نظام سياسي يختلف نوع العقبة… يكفي أن أغاني استرداد سيناء تقوم بالدور الوطني وتحقّق السردية الرسمية، أن قادة مصر منذ السادات، أبطال أكتوبر أو أبطال الجيش المصري، الذين هزموا “الجيش الذي لا يُقهر” باسترداد سيناء.