تخرج الصورة من بوّابة ذكريات الهاتف، أجلس برفقة صديقتين قرب البحر تحديداً نسمّي هذه الصور بجلسات “أمام البحر”. إنها جلستنا المفضّلة، تصير المدينة كلّها خلفنا من الشرق، ووجوهنا أمام البحر، إنها جلستنا المفضّلة في ظلّ تعدّد الخيارات التي تسمح لك رفاهيتك باختيارها في المدينة، من مطاعم وجلسات تسمح لك بملاحقة صخب المدن، من إضاءة وموسيقى وجلسات وضحكات واحتفالات، لكننا نحبّ تلك الفرصة التي تمنحنا حواراً مباشرة مع البحر، كرسي من حجر يتّسع لجلسة دافئة بقرب بعضنا بعضاً، المدينة تصير خلفنا والبحر أمامنا، كلّ هذه الصورة التي ظهرت الآن فيها الكثير من الأغنيات الثابتة التي تقفز على البال، كنا نسمّيها نشيد جلستنا الدائم.
“من يركب البحر لا يخشى من الغرق”
وحين تظهر إحدى الصديقات بعد موعد نغني “جاءت معذبتي في غيهب الغسق”، وهو موعد لقائنا بعد الانتهاء من سلسلة المهمّات اليومية، الصورة تقول أغنيات “نشيدنا” تداخلت أصوات كثيرة، بينما الصورة ثابتة أمامي تجمعني بالصديقتين بداية نيسان/ إبريل، تحبّ إحدانا البحر في هذا الوقت، وتحبّه أخرى في بداية الخريف، وأحبّ أنا البحر على الدوام، وفي كل الأوقات، حين يصير الوقت متنازلاً عن حدّة الصيف وعن جنون الشتاء، كلّ له وقته المفضّل، لكننا نجلس أمام مستقرّ اتفاقنا البحر، ننشد أناشيدنا الثابتة عند كلّ لقاء على ملله أو على شوقه أو على روتينه.
“أهو دا اللي صار”
حين نلتقي إذا انتصف الشهر والقمر يصير بدراً نغني “عالروزانا”، وكأن لكلّ وقت نشيده الخاص، في الحقيقة نحن لا نمتلك أسباباً واضحة عن سر اختيار الأغنيات تلك، في إحدى المرّات كنت برفقة إحدى الصديقات، في ليل من ليالي تشرين يصير البحر ليلاً دافئاً، والشط بارداً، والقمر فوق رؤوس الجالسين، وعلى الجهة اليمنى منا اجتمع بعض الشبّان أشعلوا ناراً بغرض الدفء، كان هذا عند شاطئ “الشيخ عجلين” جنوب المدينة، خطر لي ولصديقتي أن يكون المشوار المقبل عند شاطئ السودانية القريب من بيوتنا، نشعل حطباً وبعدها غنينا “ليا وليا يا بنية يا ورادة ع المية”، ونظرنا نحو القمر المنعكس قرب الشط أكثر، سألتها: لِمَ تخطر لنا هذه الأغنيات تحديداً؟ فافترضنا أنها حالة من الهدهدة للكثير من التفاصيل التي تقلقنا كنقص فيتامين دال، الذي كانت تواجهه صديقتي، ومازحتها هذا مؤشر جيد للذاكرة كي تنجو من الزهايمر المتوقّع.
الصورة الآن ثابتة أمامي وكأن أحداً خلع بوّابة الذكريات تلك، وأبت أن تُغلق ذاتها على صور كثيرة، اللهفة التي تصيبني على الدوام كلما رأيت صورة تقفز من البوّابة تلك، تُشبه مريض الزهايمر حقاً، الذي يريد أن يستذكر ملامح الأيام السابقة، كي ينجو من ثقل النسيان، فعلى مدار أيام الإبادة المستمرّة بدا وكأن الحياة ما قبل تشرين الأول/ أكتوبر ليست كما بعدها فعلاً. يقول أحد الأصدقاء إذا ما تذكرنا شكل ملامح حياتنا سابقاً: “أشعر أني نسيت شكل حياتنا قبل أكتوبر، ماذا كنا نفعل، ماذا كنا نأكل، ماهي أحلامنا؟”، وهذه واحدة من أساليب الحرب الطويلة تلك، أن تجعلك عالقاً أو مصلوباً بين واقع كان وواقع مفروض.
لهفتي تلك، حاولت استغلالها كتمرين للتذكّر حول ماهية اللحظة تلك التي تظهر أمامي الآن…
كان يوم سبت إجازة عمل، لكن فيه بعض المهمّات التطوّعية، التي تتطلّب حضورنا بعض الأنشطة المجتمعية في سيارة سوداء نوعها “فيات” لقبها “باندا”، الأغنية من المسجلّ، ثلاث صديقات، هواء بارد يلفح الشالات التي تلتحفها الرقاب، ضحكات، الوجهة معروفة نحو البحر، نقطع المدينة بشكل عرضي نحو البحر إلى شارع الرشيد، نقولها بحماسة أطفال يُعرَض فيلمهم المفضّل الآن.
في الحقيقة هو وفق مخطّط المدينة وأوراقها الرسمية اسمه “شارع الرشيد”، ولأسباب تسميته روايات كثيرة، لكن أقربها إلى التكوين الغزّي هي أن الشارع اكتسب اسمه من رجل يُدعى رشيد، كان يُرشد البواخر والسفن، حيث كان الشارع الموقع الأول في الحرب العالمية الثانية، وصارت التسمية نسبة إلى المرشد.
لكن الوعي الشعبي الغزّي دائماً يفضّل أن يصنع لكل شيء هوّيته الخاصّة جداً، كأن يصير الشارع اسمه “شارع البحر”؛ البحر الممتد على خاصرة غزّة، والأرض مغلقة من كافّة الاتّجاهات. دائماً يُصنَع هذا الواقع حالة من ملاحقة ما ليس موجوداً، فالغزّي يرى في كل شطّ بحر كأن يقول بحر الشيخ عجلين، بحر السودانية، بحر النصيرات، بحر رفح. وكأن البحر الواحد لا يكفي، فيصنع من كل شطّ بحره الخاصّ، رغم المسافة الضيّقة لطول الساحل، التي تنقلك بخطوة لا تزيد أحياناً عن خمس أو عشر دقائق بين كلّ شطّ وشطّ.
الشارع ذاته يمثّل في الذاكرة الغزّية خطّين، واحد أفقي يأتي بك من الشمال إلى الجنوب وبالعكس، والأهمّ من هذا هو القاطع العرضي من الشرق إلى الغرب، أو من البيت إلى البحر.
في ذاكرة طفولتي لم يكن البحر بحاجة إلى سيارة “فيات باندا”، كل ما في الأمر أن نتجهّز عند الخامسة صباحاً من كل يوم جمعة، لننطلق في مسيرة مشي نحو البحر، وإذا ما صارت الثامنة صباحاً والحرارة بدأت تُهاجم برودة الصباح، علينا أن نُعيد هذا المسير بالطريقة العرضية نفسها نحو البيت. هذا الشارع هو قاطع عرضي لكلّ الراغبين في أن يزوروا البحر. وكعادة الغزّي في صناعة ما يخصّ كلّ قاطع، تجد علاقتنا مع الشارع تمشي وفق مساري الزمان والمكان، ففي الصباح من شماله إلى جنوبه تسير الحياة وفق سكينة وهدوء، قد تقطعهما أحياناً أصوات البوارج الحربية، التي تقطع الطريق على الصيادين في رحلة الصيد من ستة أو عشرة أميال وفق التفاهمات وما يترتب عليها، الأصوات التي تقطع إنذار الموت ذاك، هي الأقدام التي تأتي نحو البحر عبر القاطع العرضي هذا، تُمارس رياضة الصباح، يصير المشهد أشبه بحجيج نحو البحر إلى أين؟
الإجابة: بدي أمشي لغاية البحر!
هي مؤشر المنافسة بين القدرات!
وإذا ما انتصف النهار والشمس بدت أقرب، يصير الشارع فارغاً من الأقدام ليستبدله بأصوات السيارات، التي تريد اختصار الطريق، مسار المكان من الشمال إلى الجنوب وبالعكس، لتتفادى زحام المدينة، فيصير المرشد منقذاً من الزحام وشارع البحر خلاص من فوضى الاصطدام، وإذا ما صار النهار مساءً تختلط الأصوات في الشارع ذاته بين أقدام، وسيارات، ومواكب أعراس، والجميع يهلّ من الشرق إلى الغرب عبر قاطعه العرضي الخاص، وآخرون من الشمال، ومثلهم من الجنوب.
فرصة غزّة السياحية الوحيدة هي البحر، فتجدها تصنع صالون الضيافة قرب البحر في البيوت، وصالات الأعراس والفنادق قرب البحر كوجهة سياحية وحيدة، لا تمتلك سواها لتعرضها وتتباهى بها، فتجد الشارع عند المساء والليل فرصة كلّ باحث عن صخبه الخاصّ، وفق تناقص غزّة الخاصّ، كأن تجد نفسك مهموماً مضغوطاً مشوّشاً من الحياة، فيصير وجهتك عبر قاطعك العرضي الخاص “البحر”، وسط ضجيج همومك يمرّ موكب عرس فيلفتك صخب الموكب والسيارات والأصوات، حالة من الصخب المتناقض تجدها في شارع واحد، يزيد الصخب كلما اتّجهت نحو الجنوب، في الشمال جلسات الباحثين عن الهدوء والشطّ القريب من ماء البحر، إلى الجنوب تصير فرصة الأماكن أكثر من صالات أعراس وجلسات يبحث فيها باحث عن شطّ واسع يجلس قبالته البحر، إذ يصير الشطّ أضيق شمالاً.
في الصورة اذاتها لتي ظهرت كنت أبكي غياب أمي، وأخرى تشتكي، وثالثة تتذمّر من ضغط العمل، لكننا نجحنا في التقاط صورة، الابتسامة فيها جعلتني أبحث بلهفة عن سرّ ذاك الإشراق الضاحك في وجوهنا، فكان أننا جلسنا على كرسي قرب البحر في شارع في غزة واسمه “الرشيد”!
بات شارع الرشيد فجأة اليوم شارعاً مهجوراً ومسار عودتي من رحلة النزوح جنوباً إلى المدينة شمالاً، الحرب استبدلت فيه صخب التناقض الغزّي المعروف عبر قواطعه العرضية، وصار باتّجاه واحد فقط، قاطع أفقي من الجنوب إلى الشمال، إلى حالة شبه صحراوية إذا ما عنونتها بمقطع موسيقى يصير اسمها “غربان”، فالطريق الواصل هذا لا تكفي الملابس والأحذية فيه، أن تقفز أمامك وكأنه يقول بعد هجر لك:
“كلّ من مرّ هنا قُتل، قتلته رغبته في أن ينجو من زحام الحرب عبر شارعه “الرشيد” المرشد، والأقدام ليست برشاقة رياضة الصباح تلك، بل بتعب الباحث عن مستقرّ في رحلة التيه المستمرّة. منذ عودتي إلى المدينة بعد نزوح أنكرت شكل الشارع، كما أنكرت واقع كل شيء، فبت أقتات من ذاكرة الصور تلك ما يسعفني، وربما صدّقت قول صديقتي مرة حين سألتها: كيف هو البحر؟
قالت: لم أزر البحر، لأنني أشعر بأنه غول سيبلعني!
ورغم رغبتي واشتياقي للبحر والمرور بقاطع العرضي الخاص، إلا أنني لم أمشِ في الشارع سوى مرتين بعد العودة، كانت بغرض الذهاب إلى الجنوب مرة، وقبلها العودة إلى المدينة في كانون الثاني/ يناير 2025 .
وكأني تصالحت مع هجري للشارع، إذ لم تعد صالونات الضيوف قربه، ولكن ربما علي أن أسأله بعد كلّ هذا، ما قالته فيروز:
“فايق ولّا ناسي
فايق عالتنزيهة بالقهوة اللي ع المي
نبقى نقعد فيها، وستاير زرقا شوي
وع الحمر الكراسي
فايق ولّا ناسي”
إقرأوا أيضاً: