لم تمسح الأيام من ذاكرة أهالي مرام الشاهر، طالبة كلية العلوم الطبيعية في جامعة إدلب، ما وصفوه بالفضيحة التي لحقت بابنتهم. إذ اعتُقلت مرام من عناصر الشرطة التابعة لهيئة تحرير الشام في بداية العام 2023، بتهمة الخلوة غير الشرعية مع زميل لها في كافتيريا في مدينة إدلب.
تقول مرام إن الحياة انقلبت من الأمل والجمال إلى السوداوية والظلام بعدما أجبرها أهلها على ترك الجامعة بسبب اعتقالها من الشرطة لمدة 17 يوماً في مخفر تابع لهيئة تحرير الشام في مدينة إدلب، بتهمة الخلوة غير الشرعية مع أحد زملائها في أحد المقاهي. وتضيف: “كل جلستنا كانت على طاولة وسط المقهى تحت أعين الجميع لتنتهي باعتقالي وزميلي وتوجيه تهم لنا”.
النساء أكثر ضحايا التنظيمات السوداء
لم تكن مرام الفتاة الوحيدة التي تعرّضت للتشهير بسبب تهمة من هذا النوع، إذ يتشابه حالها مع حال الكثيرات من الفتيات والشبان حتى في مناطق سيطرة تحرير الشام شمال غربي سوريا، التي تبنت نهجاً عقيماً تجاه الحريات منذ تأسيسها عام 2012 وأنشأت “جهاز الحسبة” وشبيهاته، وثم أوكلت مهامه لأجهزة الشرطة والأمن بعد حل الحسبة، في محاولة منها للخروج من عباءة التصنيف الإرهابي.
مارست هيئة تحرير الشام من خلال أجهزتها الأمنية، سياسة تطويق الحريات العامة في مناطق سيطرتها ضد النساء أولاً بإلزامهن باللباس الشرعي في المدارس والمعاهد والجامعات، إضافة الى تقييد حركتهنّ من دون اصطحاب أحد أقربائها من الدرجة الأولى، لا سيما عند انتقالهن بالسيارات العامة، من دون وجود قوانين مكتوبة تبين الممنوع والمسموح والعقوبات لتصل الحال بعشرات النساء والشباب، بخاصة الطلاب الجامعيين والموظفين، الى الاعتقال والجلد بالسياط (الضرب بعصي بلاستيكية).
خسرت فادية الريحاوي فرصة توظيفها مع منظمة “بيان” في الرابع من شهر نيسان/ أبريل 2023 بسبب إنزالها من السيارة التي كانت تقلّها إلى مكان المسابقة في مدينة الدانا شمال محافظة إدلب من أحد الحواجز في منطقة سرمدا، بسبب وجودها بمفردها مع صاحب سيارة الأجرة، والذي انتهت به الحال هو الآخر بحجز سيارته واعتقاله لمدة 20 يوماً.
تم توقيف فادية 24 ساعة وخروجها من السجن بعد دفع ذويها مبلغ 250 دولاراً لأحد المتنفذّين في الأجهزة الأمنية، لكن على رغم تحرير فادية من السجن، إلا أن حلمها بالوظيفة ضاع بالتزامن مع نظرة أقاربها لها بعد دخولها السجن ووضعها من المجتمع في دائرة الوصم الأخلاقي بحسب حديثها لـ”درج”.
مع سعي “تحرير الشام” الى تصدير نفسها كجهة مدنية إدارية في صورة حكومة الإنقاذ وتخلّيها عن اسم جبهة النصرة، كان لا بد من وجود معسكر داخل التنظيم يرمي الى التشدّد والاحتفاظ بتعاليم القاعدة وقوانينها. من هنا، سعى أبو محمد الجولاني الى الاختفاء وراء عباءة الأجهزة الإدارية وإطلاق يد الأجهزة الأمنية لملاحقة السوريين تحت ذرائع مختلفة، في مقدمها الذرائع الدينية بحسب المحامي سمير الزوري.
يرى الزوري أن تقييد الحريات هو أكثر ما يعاني منه السوريون في مناطق سيطرة الجولاني، الذي عمل على إطلاق يد الأمنيين والعملاء وسط السكان لترهيب المجتمع وبثّ الخوف وسط المواطنين حتى يبقى للجولاني التفرد بالساحة والكانتون الصغير حصرياً.
مخالفات بالجملة
لم يكتفِ الجولاني بإطلاق يد العناصر الأمنية وسط السوريين لإرهابهم وتقييد حريتهم، بل أصدر تنظيم هيئة تحرير الشام أيضاً ما يُسمى قانون الآداب العامة الصادر عن وزارة الداخلية في حكومة الإنقاذ، والذي يتضمن 128 مادة، منها تشكيل شرطة الآداب المخولة الوحيدة بتطبيق القانون، الذي سربت تحرير الشام نسخة منه عبر معرفاتها الرديفة على وسائل التواصل الاجتماعي، ولم تصدره حتى اليوم في جريدتها الرسمية.
وينصّ القانون بنسخته المسرّبة على منع الخلوة غير الشرعية بين الرجال والنساء، وعدم خروج ممن أسماهنّ بالفتيات البالغة أعمارهن أكثر من 12 سنة من دون اصطحاب محرم، ومنع عرض اللباس الخادش للحياء، على حد وصفهم، على واجهات المحلات، ومنع الاختلاط في المولات والأسواق التجارية، ومخالفات المطاعم والمقاهي، والحدائق والملاهي والمتنزهات، ومخالفات الطرق والمرافق العامة، وكلها تندرج تحت بند الاختلاط والموسيقى والحد من الحريات.
ويمنع القانون الموسيقى والأغاني في الأماكن العامة وصالات الأفراح والمحلات التجارية والزراعية والصناعية، واشترط على أصحاب المحلات التي تبيع لباساً نسائياً تعيين فتاة تشرف على البيع والشراء، كما يشدّد على المخالفات التي تخصّ المطاعم والمقاهي وتتضمّن الفصل التام بين قسم الذكور والنساء، بما في ذلك المرافق العامة، وتوفير ستائر كافية للفصل بين الطاولات المتعلقة بفئة العائلات، وعدم تركيب كاميرات مراقبة داخل القسم ومنع دخول الأراجيل أو تقديمها وتشغيل الأغاني والموسيقى والعروض المرئية والسمعية المخالفة للدين والذوق العام ومنع الأصوات العالية.
وبالتزامن مع ذلك، حرص القانون على ذكر مخالفات خاصة بالدين والسحر والزنا والاختلاط، وقراءة الفنجان والكف، والمجاهرة بالإفطار خلال شهر رمضان، ومنع فتح المحال وقت صلاة الجمعة، على أن تكون شرطة الآداب العامة والشعوذة الجهة الوحيدة المخوّلة اعتقال المخالفين.
وعلى الرغم أن تحرير الشام وذراعها الإداري لم يعلنا بشكل رسمي عن القانون، إلا أن مسؤولاً في جهاز الشرطة أكد لـ”درج” أن هيئة تحرير الشام خصصت 5 سجون خاصة لقسم الآداب، ويقسم كل سجن إلى قسمين، للذكور وللإناث، في إدلب وسرمدا وأريحا وجسر الشغور وسلقين ضمن المخافر التابعة لوزارة الداخلية، وتكون شرطة الآداب الجهة المشرفة عليها، والتي تضم شرطيات للتعامل مع النساء والإشراف على سجنهنّ.
في السادس من شهر آب/ أغسطس 2023، أصدرت وزارة التربية في حكومة الإنقاذ تعاميم عدة للمدارس والمديريات التابعة لها، تطلب فيها الالتزام بلباس الإناث والذكور الفضفاض في مختلف المراحل التعليمية، إضافة الى إلزام الكوادر التعليمية بذلك ومنع الموسيقى والصور على الجدران، وعدم اصطحاب الهواتف والحلاقة غير اللائقة للذكور.
قانون الآداب المسرّب من هيئة تحرير الشام، هو من القوانين القليلة التي يطلع عليها السوريون، في حين يجهلون عدداً كبيراً من القوانين، بل وهناك عقوبات لا تستند الى قوانين ويعود للقاضي تقدير الحكم، وهذا شكل آخر من انتهاك حقوق الإنسان، بحسب الإعلامي محمد المحمد، الذي أكد أن تسريب القانون جاء لترهيب السكان وتقييد حريتهم تحت حكم السلاح.
تاريخ حافل بالانتهاكات
في اليوم الأول من شهر كانون الثاني/ يناير 2024، أعلنت وزارة الداخلية في حكومة الإنقاذ فتح باب الانتساب الى ما يسمى شرطة الآداب، والشروط الواجب توافرها في المنتسبين، ومن أهمها أن يكون خريجاً من كلية شريعة أو معهد شرعي، وهذا اعتبره ناشطون حقوقيون في إدلب عودة الى “جهاز الحسبة”، الذي اتّخذ أسماء عدة منذ العام 2014، كـ “سواعد الخير” الذي توقف عن العمل في العام 2018، ليعود باسم “مركز الفلاح”، الذي توقّف هو الآخر في العام 2021.
ويمكن تعريف جهاز الحسبة أو سواعد الخير أو مركز الفلاح بـ “مركز رقابة شرعية ودينية، ينتشر العاملون فيه بين الناس لضبط المخالفات الدينية المشرعة من شرعيين من جنسيات مختلفة، كانوا يعملون في تنظيم القاعدة ومن ثم تنظيم الدولة في العراق، وانتهى بهم المطاف في شمال غربي سوريا” حسب المحامي أيمن الدامور.
يقول الدامور إن جهاز الحسبة أو مركز الفلاح كان يتمتع بسلطة مطلقة كاعتقال مرتكبي المخالفات الشرعية ومحاسبتهم، وتتدرّج أعماله بدءاً من النصح وصولاً إلى استخدام القوة المباشرة لتطبيق شعاره “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”.
ويتكوّن جهاز الفلاح من مكتب الدوريات النسائية، المحتسبين، القوة التنفيذية، مكتب القضاء، بالإضافة إلى مكتب الشكاوى والمتابعة.
تقول رانيا الحسن، وهي ناشطة نسوية في شمال غربي سوريا، إن للسوريين، لا سيما النساء، تاريخاً مريراً مع أجهزة الجولاني الدينية، إذ شهدت الفترة الممتدة من العام 2016 إلى العام 2022، عشرات الانتهاكات بحق النساء من المتنفذين بأجهزة الحسبة وسواعد الخير والفلاح، كان أبرزها عمليات القتل التي طاولت نساء بتهم ارتكاب الرذيلة، ووثقت بشكل شخصي 8 جرائم، منها في شهر شباط/ فبراير2017 في بلدة أرمنايا جنوب إدلب، حيث أقدمت الأجهزة الأمنية برفقة جهاز الحسبة، ومن ضمنه نساء، على قتل امرأتين على مرأى جميع أهل القرية بتهمة ارتكاب الفاحشة، وبأن جهاز سواعد الخير ضبط المرأتين في وضع مشين.
عمد بعدها ثلاثة عناصر مسلّحين على إفراغ مخازن بنادقهم في رأسهما، ومن ثم ترك جثّتهما لأكثر من ساعتين في ساحة القرية قبل أن يسمح لذويهما بنقلهما من المكان، وهذا كله كان بفارق زمني لا يتعدى الثلاثة أشهر بين الاعتقال وتنفيذ القتل من دون أن يتم توكيل محامين أو لقاء أحد من أقاربهما.
لم يُستثنَ القطاع التعليمي أو الخدمي من اعتداءات الحسبة، والذي كانت تشارك في إدارته جنسيات أجنبية كثيرة، إذ تعرضت رئيسة دائرة الامتحانات في جامعة إدلب في العام 2017 للضرب من إحدى العاملات في جهاز سواعد الخير بحجة لباس المديرة غير المحتشم، كذلك تعرض سائقو سيارات من منظمة بنفسج الإنسانية في العام ذاته للاعتقال بسبب وجود موظفين وموظفات في السيارات. وفي العام 2019، تعرض مدرسو وطالبات ثانوية العروبة ومعهد فيثاغورث ومركز التنمية للتكنولوجيا للاعتقال بحجة الاختلاط أيضاً.
“حاميها حراميها “
يسعى تيار الجولاني في تحرير الشام إلى الخروج من عباءة الدين، التي استخدمها لتثبيت حكمه وضرب معارضيه وكسب ود الجهاديين في المراحل الأولى من سيطرة جبهة النصرة في شمال غربي سوريا بحسب الناشط الحقوقي بشار الزاهد. إذ بعد تثبيت حكمه في المنطقة، سعى الجولاني الى التخلّص من التيارات الأخرى في هيئة تحرير الشام إما بالاعتقال تحت ذريعة الخيانة أو القتل. بيد أن محاولاته لم تنجح بالشكل الكلي للخروج من صفة الإرهاب، إذ لا يزال تيار متشدد في هيئة تحرير الشام يلعب على عواطف العناصر والمقاتلين، يتصدره عبد الرحيم عطون والمحيسني وأبو البراء التونسي.
وجد الجولاني نفسه مضطراً للتماشي مع هذا التيار، لما له من تأثير ديني على المقاتلين في هيئة تحرير الشام، إلا أن قانون الآداب هذا لم يكن إلا عودة الى الحسبة ومركز الفلاح.
يقول الحقوقي الزاهد، من المستغرب أن الجهاز الأمني في هيئة تحرير الشام اعتقل الكثير من العاملين في مركز الفلاح سابقاً وسواعد الخير والحسبة، بتهمة العمالة لنظام الأسد، وفي مقدمهم المدعو أبو موسى شرقية الذي تولى قيادة جهاز الحسبة وفرض أحكاماً قاسية على السوريين، لا سيما الموالين للنظام ولأحكامه، واليوم هو معتقل بتهمة التخابر والتعامل مع النظام ضد الجولاني.
أقدم أحد الملثّمين المسلّحين والعامل في هيئة تحرير الشام، على إطلاق النار من بندقيته على سيارات ومحلات تجارية في أحد المجمعات التجارية في مدينة الدانا شمال إدلب، بعد انتشار مقاطع فيديو لافتتاح المجمع ووجود فتيات ونساء بجانب الرجال في حفل الافتتاح، الأمر الذي أدى الى انتقادات لاذعة من تيارات متفاوتة في هيئة تحرير الشام ومشايخ على منابر المساجد، مندّدة بالاختلاط أثناء الحفل ومطالبة بوجوب المحاسبة لأزواج وآباء النساء اللواتي حضرن افتتاح المجمع المسمى بـ “مول الحمرا” في 9\12\2023، لتعمل تحرير الشام في اليوم الثاني على إرسال لجنة شرعية وخطباء إلى المجمع التجاري لإلقاء الدروس والخطب الدينية.
حريات مفقودة
توقفت مرام عن الذهاب الى الجامعة عاماً كاملاً بعدما منعها والدها وأشقاؤها، بسبب ما اعتبروه فضيحة لن يمحيها الزمن، في حين تحمّل مرام المسؤولية لعناصر شرطة هيئة تحرير الشام الذين سببوا لها جرحاً يصعب أن يندمل مع الزمن. وتؤكد أنها طوال العام الذي أمضته في المنزل كانت تتعرض للضرب من أشقائها ولم تخرج خارج المنزل إطلاقاً، إلا بعد توسط إحدى المدرسات في قسم العلوم لدى والدها، الذي اشترط على مرام أن تذهب الى الجامعة وتعود برفقة أحد أشقائها.
تقول ليلى الياسين، وهي موظّفة في أحد المستوصفات الصحية في إدلب، “لم أعهد تقييد الحريات قبل مجيء جبهة النصرة للسيطرة على إدلب، كنت وزميلاتي نخرج للتسوق وشرب النراجيل والذهاب الى أماكن مختلفة من دون أن نلقي بالاً لحبس أو تشهير، وهذه كانت حال المجتمع السوري ولا تزال، بيد أن تقييد الحريات تحت تهديد قوة السلاح جعلنا نهرب من الوصمة الاجتماعية، والتي تعتري الفتاة بعد توقيفها في السجون”.
كذلك، تلفت نهى مناع، وهي طالبة دراسات عليا في جامعة إدلب، إلى أن السوريين بذلوا الدماء للوصول إلى مجتمع راق متقدم يتساوى فيه الرجل والمرأة بشكل حقيقي، لكن ما يحدث منذ سنوات عدة وحتى اليوم دليل على اغتيال الثورة، التي جاءت للتصحيح وليس للتخلف والسوداوية. وتذكر أنها مرّت بمواقف عدة تعرضت خلالها للإهانة من عناصر مسلّحين في تحرير الشام يجهلون حتى الكتابة والقراءة، بسبب ما وصفوه بالمخالفات الشرعية على لباسها، متجاهلين أن ما تقدمه المرأة اليوم في مجالات الحياة المختلفة له الأثر الكبير على بناء المجتمعات.
إقرأوا أيضاً: