fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

شروط المواجهة مع “حزب الله” اليوم: سلسلة اعترافات

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لا شك في أن “حزب الله” اليوم فرض قواعد لعبةٍ مغايرة في الاشتباك السياسي، هذه اللعبة التي مارسها جميع الأطراف السياسية يوماً وتخلّوا عنها بعد اتفاق الطائف، عندما أصبح الاشتباك محض سياسي بالمعنى الإعلامي والمؤسساتي والشعبي الزبائني.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

مرت أكثر من سنة على الانتخابات النيابية، التي خاضت فيها التجمعات الشبابية والحقوقية المدنيّة  والحزبيّة، أو ما يعرف بـ”المجتمع البديل”، أولى التجارب السياسية الجدية. وكانت هذه الانتخابات محطة لكسب الخبرات والنضج السياسي لهذا المجتمع، برغم حالة التخبط التي عاشها، ومكنته من الدخول إلى الندوة البرلمانية مع الأخذ في عين الاعتبار شروط ولعبة النظام. 

يغرق اليوم “المجتمع البديل” في نقاشات محصورة بين نشطاء وناشطات، قدرتهم على خلق خطاب اعتراضي- حيوي متماسك أصبحت شبه معدومة، وذلك لأسباب موضوعية وخيارات غير مدروسة وخطوات ناقصة، بخاصة الخطوات القائمة على ردود الفعل من دون خارطة طريق واضحة ومشتركة.

في المقابل، مثّلت معظم الاستحقاقات النيابية والوطنية الكبرى في آخر سنة محطات استقطاب واستفتاء حول “القضية المركزية” التي لا تزال تشكّل نقطة اشتباك عند معظم فئات المجتمع: سلاح حزب الله. 

في جلسة 14 حزيران، شهدنا تصعيداً جدّياً لهذا الاشتباك، حيث واجه 59 نائب ترشيح سليمان فرنجية عبر التصويت للمرشّح التقاطعي جهاد أزعور. على رُغم النقاش الحاد الذي حصل حول التكتيك، جميع القوى المعنية، ومنها الأحزاب الأساسية التي شكّلت تحالف 14 آذار سابقاً ونواب المعارضة والتغيير وجزء من التيار العوني، قد اعترفت بتداعيات هذه الإشكالية وأهمية مواجهتها، ولو لأسباب سلطوية بحتة.

دون التركيز على المبادرات المتناقضة التي نشهدها اليوم، يجب البحث في مراجعة تاريخية مفصّلة للتكتلات السيادية الذي تشكّلت في حقبات مختلفة، ومن هنا نطرح الأسئلة التالية: كيف تغيّر المشهد السياسي العام بين حقبة أواخر التسعينات وحقبة ما بعد 17 تشرين؟ لماذا فشل تحالف 14 آذار في المواجهة بعد محاولات عدّة؟ ما تحديات خلق قطب نقيض لمشروع “حزب الله” بعد 17 تشرين؟ بدلاً من الغوص في هذه الأسئلة بأسلوب تحليلي مملّ، نشعر بضرورة ترتيب إجابتنا على شكل سلسلة اعترافات.

مثّلت معظم الاستحقاقات النيابية والوطنية الكبرى في آخر سنة محطات استقطاب واستفتاء حول “القضية المركزية” التي لا تزال تشكّل نقطة اشتباك عند معظم فئات المجتمع: سلاح حزب الله. 

الاعتراف بالضعف: العنف محرّك التاريخ 

لا شك في أن “حزب الله” اليوم فرض قواعد لعبةٍ مغايرة في الاشتباك السياسي، هذه اللعبة التي مارسها جميع الأطراف السياسية يوماً وتخلّوا عنها بعد اتفاق الطائف، عندما أصبح الاشتباك محض سياسي بالمعنى الإعلامي والمؤسساتي والشعبي الزبائني. أما “حزب الله”، فأنتج تجربة سياسية مغايرة، تقوم على الاشتباك السياسي حيناً والعنف والترهيب والمضايقة عندما تقتضي الحاجة. جعلت هذه المعادلة الحزب، مع ترسانته وتفويضه الإيراني وأنشطته العسكرية الإقليمية وتحالفه مع “الأقوى مسيحياً”، متحكماً في قرار الحرب والسلم والأمن، ولذلك أصبح قادراً على إنهاء أي إشتباك لصالحه. 

سمح هذا لحزب الله أن يكون، من دون منازع، محركاً للتاريخ الحديث للبنان بعد عام 2008، وراسماً للاصطفاف الذي يريده، وبالتالي أعطى لنفسه صلاحيات اتفق الجميع ألا ينتهزها بعد الحرب. من هنا، تكمن البداية لفهم أنّ معظم شروط الهزيمة والنجاح في وجه سلاح “حزب الله” تقع خارج سيطرتنا؛ “حزب الله” حزب مسلّح، يملك القدرة على القتل، وبالتالي القدرة على إلغاء النقيض. مراجعة تكتيك الماضي يجب أن تبدأ بالاعتراف بأنّ هذا تحدّي شبه مستحيل، ويتطلّب ابتكار أدوات جديدة.

الاعتراف بفشل الإستراتيجية: مدخل نحو مقاومة المظلومية

حجم الحالة المعارضة المحلية لحزب الله ليست صغيرة عددياً، ولكنها مشرذمة وتتقاطع معه أكثر مما نظن. معظم الذين يقاربون حالة حزب الله كحالة خطرة على باقي الطوائف، ينسجون الواقع معه اليوم عبر التمسك بالممارسات السياسية الفلكلورية اللبنانية. هذه الاستحقاقات تقتضي في الصراع على إسم الرئيس، وتحصر قضية الحل المالي الشامل بموقع ثانوي على سلّم الأولويات، متناسيةً أهمية تعافي المجتمع لتكوين قدرة على خوض المعارك السياسية وقراءة الواقع أبعد من منظور الخروج من الأزمة. 

هذه القوى لا ترى السياسة أبعد من حالة نجاة، سياسة “البقاء على قيد الحياة” التي تحصرهم في موقعهم وفي عجزهم السياسي. لذلك، نوع المظلومية الأول مرتبط بالهوياتية الطائفية التي يعززها بعض الزعماء، وهي الأمر الذي يتقنه حزب الله عبر التعايش مع النظام من أجل مراكمة قوّته وحجمه ومصادر تمويله وانتهازه للفرص السياسية المادية، وبالتالي يذهب بالمجتمع إلى حيث يريد ويرسم واقعاً أمنياً للبلد يناسبه. على هذا الأساس، المظلومية الطائفية فشلت في المواجهة، وأعادت إنتاج لعبةٍ احترفها الحزب على كافة المستويات.

أما عند التنظيمات الاعتراضية والأوساط البديلة الإعلامية والفكرية، فما زالت تتخبط ما بين إعادة تدوير ممارسات وتحالفات وتقاطعات باءت بالفشل وقلة اليقين بمدى خطورة مشروع “حزب الله” من جهة، أو انعدام الحركة وقلة المبادرة السياسية نظراً لعدم وجود أطر وخبرة تنظيمية كافية من جهة أخرى. هذا ما يجعل هذه القوى على اختلافها تذهب الى مقاربة تتجسد في اللعب على النطاق الطائفي الذي أقصى طموحه التعايش مع حالة “حزب الله” من دون خسارة البيت الداخلي الطائفي، وبالتالي تنتجُ حالات سنيّة ودرزية ومسيحية منعزلة تتعاطى مع أزمتها الوجودية على أساس تقسيمي، مما يتركنا في حالة الإستسلام التام لـ”حزب الله”.

 الخيار الثاني للحالة الاعتراضية هو المظلومية القائمة على خطاب المهزوميّة، حيث يبقى المواطن محصوراً بدور “الضحية الدائمة” التي يقتصر عملها السياسي على مأسسة لغة التشاؤم في البيانات، أو بالتوسّل للخارج كحلٍّ لأزمة الداخل. نعم، نحن ضحايا، وهذه أداة أساسية في قاموسنا بعد انفجارٍ حرق بيروت وسلسلة اغتيالات ضربت معارضي حزب الله. المظلومية الطائفية، إن كانت مسيحية أو سنية، فشلت في المواجهة. والمظلومية العلمانية-اليسارية لم تنتج سوى الشعراء والكتاب والمحللين ومؤرخين خسروا المبادرة على الفعل السياسي، إذ اقتصر إنتاجهم الفكري على تقديم قراءة صائبة وبائسة. في الواقع، نحن لسنا مجرد ضحايا. نستطيع أن نبتكر أدوات بديلة كي نتحرر من صيغة المظلومية الدائمة. 

الاعتراف بالمجتمع: الحل المستدام

المجتمع اللبناني ليس مجتمع النشطاء المعارضين، وهذا الواقع ينطبق على الإسقاطات كلها. الإسقاط الأول هو أولوية السيادة. عندما نخرج عن الفقاعات الحزبية أو الفاعلة سياسياً، إن كانت طائفية وغير طائفية، بخاصة في حديثنا عن الكتلة الصامتة التي لم تصوّت في الانتخابات النيابية من سنة، نرى حالة شعبية رافضة لكلّ الاصطفافات والمعارك. هي بحدّ ذاتها كتلة “لا سياسية” لأن النماذج السياسية المطروحة غير مقنعة، ولأن السياسة اللبنانية لم تنتج تجارب متصلة بحياتهم اليومية بالمعنى “الإيجابي” والمباشر. 

يعتقد البعض أنّ الحالة الاعتراضية قد تستطيع استقطاب هذه الفئة من المجتمع، إن كان عبر خلق تيار مواجه لقطبيْ 14 و8 آذار، أو عبر الالتحاق بالقطب الأول. في الواقع، بعد الانتخابات النيابية، فقدت هذه القوى الاعتراضية القدرة على ابتكار أدوات جديدة لتنظيم العمل وطرح العناوين وتشكيل الجبهات على أساس أولويات تلك الفئة الصامتة لأسبابٍ تتعلق بهذه التنظيمات ولأسبابٍ أخرى خارج سيطرتها، والتي هي من المفترض أن تكون جمهورها الموضوعي بالدرجة الأولى. 

في المقابل، استثمر هؤلاء الناشطون والمنظّمون طاقاتهم ومواردهم المحدودة في سبيل تحديد موقعهم من المواضيع المتداولة في الفقاعة نفسها، والنتيجة واضحة: الشعارات المتكررة والشلل المستمرّ وفقدان الثقة. وهي نتيجة وصل إليها تحالف 14 آذار بعد سنينٍ من مراكمة الخسائر في معارك انتهت بالتسويات التي واجهناها منذ سنة 2014.

12 نائب، 300,000 صوت اعتراضي، سنين من النضال والتمرين نحو خلق وجوه وتجارب متمايزة… هذه الشروط كانت كافية لخلق بديل سياسي قادر على جمع الملايين من الدولارات من المغتربين، والتشبيك مع أصحاب المحلات الصغيرة، والتواصل مع الفئات المتضررة من مختلف المدن والقرى، والاستفادة من طاقات الشباب والشابات الذين يبحثون عن بيت سياسي بعد عقود من “اللاسياسة”. 

في سياق هيمنة نظام اقتصادي ريعي زبائني مشلول على المستويات كافة، كان يمكن الاستثمار في بنى تحتية اقتصادية بديلة تفتعل تجارب مباشرة مع مختلف مكونات المجتمع وتلبّي احتياجاتهم المباشرة. “أولويات الناس” ليست بالشعارات المحصورة والقضايا المركزية الضيقة: أولويات الناس مرتبطة أولاً بخلق تجربة سياسية- حياتية بديلة عن أحزاب الطوائف وشبكاتها الزبائنية. 

في هذه اللحظة بالذات، استبدال سياسة ردود الفعل والبيانات الفايسبوكية وصراع اللوغويات بسياسة المأسسة والفعل المباشر أولوية ملحّة: إنشاء مراكز ثقافية وفنية في القرى والمدن، بناء مؤسسات اقتصادية ربحية متطورة معلوماتية بديلة تضم التعاونيات والمصانع والأراضي الزراعية والشركات الرقمية، تعزيز الإعلام البديل عبر الاستفادة من منصات مواقع التواصل الاجتماعي والتطورات التكنولوجية السريعة في نشر المعلومات، الاستثمار في التوسع القطاعي والقاعدي المباشر، وبخاصة على مستوى الشباب والطلاب.

 اعترافنا بصغر الحجم وأهمية بناء حركة “مجتمعية” فعلية لا يؤجل عملية تحديد الخيارات السياسية التي تخص المواجهة مع “حزب الله”، بل يعزز تلك الخيارات ويحافظ على المكتسبات ويحمي هذا المجتمع من الانقراض الشامل في وجه ثلاثية “عنف الخصم” و”ضعف الذات” و”تطبيع الطوائف”. 

26.07.2023
زمن القراءة: 6 minutes

لا شك في أن “حزب الله” اليوم فرض قواعد لعبةٍ مغايرة في الاشتباك السياسي، هذه اللعبة التي مارسها جميع الأطراف السياسية يوماً وتخلّوا عنها بعد اتفاق الطائف، عندما أصبح الاشتباك محض سياسي بالمعنى الإعلامي والمؤسساتي والشعبي الزبائني.

مرت أكثر من سنة على الانتخابات النيابية، التي خاضت فيها التجمعات الشبابية والحقوقية المدنيّة  والحزبيّة، أو ما يعرف بـ”المجتمع البديل”، أولى التجارب السياسية الجدية. وكانت هذه الانتخابات محطة لكسب الخبرات والنضج السياسي لهذا المجتمع، برغم حالة التخبط التي عاشها، ومكنته من الدخول إلى الندوة البرلمانية مع الأخذ في عين الاعتبار شروط ولعبة النظام. 

يغرق اليوم “المجتمع البديل” في نقاشات محصورة بين نشطاء وناشطات، قدرتهم على خلق خطاب اعتراضي- حيوي متماسك أصبحت شبه معدومة، وذلك لأسباب موضوعية وخيارات غير مدروسة وخطوات ناقصة، بخاصة الخطوات القائمة على ردود الفعل من دون خارطة طريق واضحة ومشتركة.

في المقابل، مثّلت معظم الاستحقاقات النيابية والوطنية الكبرى في آخر سنة محطات استقطاب واستفتاء حول “القضية المركزية” التي لا تزال تشكّل نقطة اشتباك عند معظم فئات المجتمع: سلاح حزب الله. 

في جلسة 14 حزيران، شهدنا تصعيداً جدّياً لهذا الاشتباك، حيث واجه 59 نائب ترشيح سليمان فرنجية عبر التصويت للمرشّح التقاطعي جهاد أزعور. على رُغم النقاش الحاد الذي حصل حول التكتيك، جميع القوى المعنية، ومنها الأحزاب الأساسية التي شكّلت تحالف 14 آذار سابقاً ونواب المعارضة والتغيير وجزء من التيار العوني، قد اعترفت بتداعيات هذه الإشكالية وأهمية مواجهتها، ولو لأسباب سلطوية بحتة.

دون التركيز على المبادرات المتناقضة التي نشهدها اليوم، يجب البحث في مراجعة تاريخية مفصّلة للتكتلات السيادية الذي تشكّلت في حقبات مختلفة، ومن هنا نطرح الأسئلة التالية: كيف تغيّر المشهد السياسي العام بين حقبة أواخر التسعينات وحقبة ما بعد 17 تشرين؟ لماذا فشل تحالف 14 آذار في المواجهة بعد محاولات عدّة؟ ما تحديات خلق قطب نقيض لمشروع “حزب الله” بعد 17 تشرين؟ بدلاً من الغوص في هذه الأسئلة بأسلوب تحليلي مملّ، نشعر بضرورة ترتيب إجابتنا على شكل سلسلة اعترافات.

مثّلت معظم الاستحقاقات النيابية والوطنية الكبرى في آخر سنة محطات استقطاب واستفتاء حول “القضية المركزية” التي لا تزال تشكّل نقطة اشتباك عند معظم فئات المجتمع: سلاح حزب الله. 

الاعتراف بالضعف: العنف محرّك التاريخ 

لا شك في أن “حزب الله” اليوم فرض قواعد لعبةٍ مغايرة في الاشتباك السياسي، هذه اللعبة التي مارسها جميع الأطراف السياسية يوماً وتخلّوا عنها بعد اتفاق الطائف، عندما أصبح الاشتباك محض سياسي بالمعنى الإعلامي والمؤسساتي والشعبي الزبائني. أما “حزب الله”، فأنتج تجربة سياسية مغايرة، تقوم على الاشتباك السياسي حيناً والعنف والترهيب والمضايقة عندما تقتضي الحاجة. جعلت هذه المعادلة الحزب، مع ترسانته وتفويضه الإيراني وأنشطته العسكرية الإقليمية وتحالفه مع “الأقوى مسيحياً”، متحكماً في قرار الحرب والسلم والأمن، ولذلك أصبح قادراً على إنهاء أي إشتباك لصالحه. 

سمح هذا لحزب الله أن يكون، من دون منازع، محركاً للتاريخ الحديث للبنان بعد عام 2008، وراسماً للاصطفاف الذي يريده، وبالتالي أعطى لنفسه صلاحيات اتفق الجميع ألا ينتهزها بعد الحرب. من هنا، تكمن البداية لفهم أنّ معظم شروط الهزيمة والنجاح في وجه سلاح “حزب الله” تقع خارج سيطرتنا؛ “حزب الله” حزب مسلّح، يملك القدرة على القتل، وبالتالي القدرة على إلغاء النقيض. مراجعة تكتيك الماضي يجب أن تبدأ بالاعتراف بأنّ هذا تحدّي شبه مستحيل، ويتطلّب ابتكار أدوات جديدة.

الاعتراف بفشل الإستراتيجية: مدخل نحو مقاومة المظلومية

حجم الحالة المعارضة المحلية لحزب الله ليست صغيرة عددياً، ولكنها مشرذمة وتتقاطع معه أكثر مما نظن. معظم الذين يقاربون حالة حزب الله كحالة خطرة على باقي الطوائف، ينسجون الواقع معه اليوم عبر التمسك بالممارسات السياسية الفلكلورية اللبنانية. هذه الاستحقاقات تقتضي في الصراع على إسم الرئيس، وتحصر قضية الحل المالي الشامل بموقع ثانوي على سلّم الأولويات، متناسيةً أهمية تعافي المجتمع لتكوين قدرة على خوض المعارك السياسية وقراءة الواقع أبعد من منظور الخروج من الأزمة. 

هذه القوى لا ترى السياسة أبعد من حالة نجاة، سياسة “البقاء على قيد الحياة” التي تحصرهم في موقعهم وفي عجزهم السياسي. لذلك، نوع المظلومية الأول مرتبط بالهوياتية الطائفية التي يعززها بعض الزعماء، وهي الأمر الذي يتقنه حزب الله عبر التعايش مع النظام من أجل مراكمة قوّته وحجمه ومصادر تمويله وانتهازه للفرص السياسية المادية، وبالتالي يذهب بالمجتمع إلى حيث يريد ويرسم واقعاً أمنياً للبلد يناسبه. على هذا الأساس، المظلومية الطائفية فشلت في المواجهة، وأعادت إنتاج لعبةٍ احترفها الحزب على كافة المستويات.

أما عند التنظيمات الاعتراضية والأوساط البديلة الإعلامية والفكرية، فما زالت تتخبط ما بين إعادة تدوير ممارسات وتحالفات وتقاطعات باءت بالفشل وقلة اليقين بمدى خطورة مشروع “حزب الله” من جهة، أو انعدام الحركة وقلة المبادرة السياسية نظراً لعدم وجود أطر وخبرة تنظيمية كافية من جهة أخرى. هذا ما يجعل هذه القوى على اختلافها تذهب الى مقاربة تتجسد في اللعب على النطاق الطائفي الذي أقصى طموحه التعايش مع حالة “حزب الله” من دون خسارة البيت الداخلي الطائفي، وبالتالي تنتجُ حالات سنيّة ودرزية ومسيحية منعزلة تتعاطى مع أزمتها الوجودية على أساس تقسيمي، مما يتركنا في حالة الإستسلام التام لـ”حزب الله”.

 الخيار الثاني للحالة الاعتراضية هو المظلومية القائمة على خطاب المهزوميّة، حيث يبقى المواطن محصوراً بدور “الضحية الدائمة” التي يقتصر عملها السياسي على مأسسة لغة التشاؤم في البيانات، أو بالتوسّل للخارج كحلٍّ لأزمة الداخل. نعم، نحن ضحايا، وهذه أداة أساسية في قاموسنا بعد انفجارٍ حرق بيروت وسلسلة اغتيالات ضربت معارضي حزب الله. المظلومية الطائفية، إن كانت مسيحية أو سنية، فشلت في المواجهة. والمظلومية العلمانية-اليسارية لم تنتج سوى الشعراء والكتاب والمحللين ومؤرخين خسروا المبادرة على الفعل السياسي، إذ اقتصر إنتاجهم الفكري على تقديم قراءة صائبة وبائسة. في الواقع، نحن لسنا مجرد ضحايا. نستطيع أن نبتكر أدوات بديلة كي نتحرر من صيغة المظلومية الدائمة. 

الاعتراف بالمجتمع: الحل المستدام

المجتمع اللبناني ليس مجتمع النشطاء المعارضين، وهذا الواقع ينطبق على الإسقاطات كلها. الإسقاط الأول هو أولوية السيادة. عندما نخرج عن الفقاعات الحزبية أو الفاعلة سياسياً، إن كانت طائفية وغير طائفية، بخاصة في حديثنا عن الكتلة الصامتة التي لم تصوّت في الانتخابات النيابية من سنة، نرى حالة شعبية رافضة لكلّ الاصطفافات والمعارك. هي بحدّ ذاتها كتلة “لا سياسية” لأن النماذج السياسية المطروحة غير مقنعة، ولأن السياسة اللبنانية لم تنتج تجارب متصلة بحياتهم اليومية بالمعنى “الإيجابي” والمباشر. 

يعتقد البعض أنّ الحالة الاعتراضية قد تستطيع استقطاب هذه الفئة من المجتمع، إن كان عبر خلق تيار مواجه لقطبيْ 14 و8 آذار، أو عبر الالتحاق بالقطب الأول. في الواقع، بعد الانتخابات النيابية، فقدت هذه القوى الاعتراضية القدرة على ابتكار أدوات جديدة لتنظيم العمل وطرح العناوين وتشكيل الجبهات على أساس أولويات تلك الفئة الصامتة لأسبابٍ تتعلق بهذه التنظيمات ولأسبابٍ أخرى خارج سيطرتها، والتي هي من المفترض أن تكون جمهورها الموضوعي بالدرجة الأولى. 

في المقابل، استثمر هؤلاء الناشطون والمنظّمون طاقاتهم ومواردهم المحدودة في سبيل تحديد موقعهم من المواضيع المتداولة في الفقاعة نفسها، والنتيجة واضحة: الشعارات المتكررة والشلل المستمرّ وفقدان الثقة. وهي نتيجة وصل إليها تحالف 14 آذار بعد سنينٍ من مراكمة الخسائر في معارك انتهت بالتسويات التي واجهناها منذ سنة 2014.

12 نائب، 300,000 صوت اعتراضي، سنين من النضال والتمرين نحو خلق وجوه وتجارب متمايزة… هذه الشروط كانت كافية لخلق بديل سياسي قادر على جمع الملايين من الدولارات من المغتربين، والتشبيك مع أصحاب المحلات الصغيرة، والتواصل مع الفئات المتضررة من مختلف المدن والقرى، والاستفادة من طاقات الشباب والشابات الذين يبحثون عن بيت سياسي بعد عقود من “اللاسياسة”. 

في سياق هيمنة نظام اقتصادي ريعي زبائني مشلول على المستويات كافة، كان يمكن الاستثمار في بنى تحتية اقتصادية بديلة تفتعل تجارب مباشرة مع مختلف مكونات المجتمع وتلبّي احتياجاتهم المباشرة. “أولويات الناس” ليست بالشعارات المحصورة والقضايا المركزية الضيقة: أولويات الناس مرتبطة أولاً بخلق تجربة سياسية- حياتية بديلة عن أحزاب الطوائف وشبكاتها الزبائنية. 

في هذه اللحظة بالذات، استبدال سياسة ردود الفعل والبيانات الفايسبوكية وصراع اللوغويات بسياسة المأسسة والفعل المباشر أولوية ملحّة: إنشاء مراكز ثقافية وفنية في القرى والمدن، بناء مؤسسات اقتصادية ربحية متطورة معلوماتية بديلة تضم التعاونيات والمصانع والأراضي الزراعية والشركات الرقمية، تعزيز الإعلام البديل عبر الاستفادة من منصات مواقع التواصل الاجتماعي والتطورات التكنولوجية السريعة في نشر المعلومات، الاستثمار في التوسع القطاعي والقاعدي المباشر، وبخاصة على مستوى الشباب والطلاب.

 اعترافنا بصغر الحجم وأهمية بناء حركة “مجتمعية” فعلية لا يؤجل عملية تحديد الخيارات السياسية التي تخص المواجهة مع “حزب الله”، بل يعزز تلك الخيارات ويحافظ على المكتسبات ويحمي هذا المجتمع من الانقراض الشامل في وجه ثلاثية “عنف الخصم” و”ضعف الذات” و”تطبيع الطوائف”.