أُنجز هذا التقرير بدعم من برنامج “قريب” الذي تنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الإعلامية CFI وتموله الوكالة الفرنسية للتنمية AFD.
لم يجد مؤمن صالحية العائد من جنوب قطاع غزة إلى منطقة سكنه في مخيم جباليا شمال القطاع، منزله الذي تركه حين نزح في شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2023، كما لم يجد حتى مساحة خالية من الركام ليُقيم عليها خيمة تؤويه وعائلته.
بعد يوم واحد فقط من عودته برفقة زوجته وأطفاله الأربعة إلى الشمال، اضطر صالحية للعودة مجدداً إلى مكان نزوحه في منطقة المواصي في خان يونس، ليستأنف حياته في الخيمة نفسها التي عاش فيها فترة النزوح منذ بداية الحرب، نظراً لعدم وجود مقوّمات للحياة في الشمال.
صالحية ليس وحده مَن قرار العودة العكسية، بل هو واحد من آلاف النازحين الذين عادوا إلى شمال القطاع، ثم نزحوا عكسياً نحو جنوبه، بعدما وجدوا مناطقهم مدمرة بالكامل، ولم يتمكّنوا من العثور على منازلهم، ولا حتى على شربة ماء نظيفة تروي ظمأهم.
وتُعدّ أزمة المياه وركام المنازل، من أبرز التحدّيات التي واجهت العائدين إلى الشمال، ذلك أنه لم توفر لهم أية جهة رسمية أو دولية مآوٍ مؤقتة ولا مياهاً صالحة للشرب ولم تقدم لهم مساعدات إنسانية، وكان من المفترض أن يكون ذلك ضمن بنود اتفاق وقف إطلاق النار.
المساعدات ما زالت معرقلة!
لم تلتزم إسرائيل بتعهّداتها الواردة في البروتوكول الإنساني الموقّع مع حركة “حماس” ضمن اتفاق وقف إطلاق النار، حيث عرقلت إدخال المساعدات الإنسانية والإغاثية والمساكن المؤقتة، التي يحتاجها سكان قطاع غزة بشدة.
ووفقًا للبروتوكول الإنساني، كان من المفترض أن يتم إدخال 60,000 كرفان و200,000 خيمة مؤقتة إلى القطاع، لاستيعاب النازحين الذين دمر الاحتلال الإسرائيلي منازلهم بالكامل. كما نصّ الاتفاق، وفقاً للمكتب الإعلامي الحكومي الفلسطيني، على إدخال 600 شاحنة يومياً محمّلة بالمساعدات والوقود، بما في ذلك 50 شاحنة وقود وغاز، و4,200 شاحنة خلال أسبوع واحد، بالإضافة إلى إدخال معدّات الخدمات الإنسانية والطبية والصحية والدفاع المدني، وإزالة الأنقاض، وصيانة البنى التحتية، وتشغيل محطة توليد الكهرباء.
لكن حتى اللحظة، لم تنفّذ “إسرائيل” أياً من هذه الالتزامات، بل لا تزال تماطل وتضع العراقيل، مما أدى إلى تفاقم الأزمة الإنسانية بشكل كارثي، وزيادة معاناة السكان، وهو ما ستكون له تداعيات خطيرة وغير مسبوقة.
إقرأوا أيضاً:
العودة إلى الخيمة
في بيت حانون، أقصى شمال القطاع، عاد محمد الكفارنة إلى منطقته بعد رحلة نزوح استمرت عاماً وثلاثة أشهر في دير البلح وسط القطاع، لكن فور وصوله، وجد نفسه أمام مشهد مخيف، إذ لم يتمكن من التعرف على موقع منزله بسبب حجم الدمار الكبير، حيث تحوّلت المنطقة كلها إلى جبال من الركام.
برفقة زوجته وأبنائه، حاول الكفارنة التأقلم مع الوضع الجديد عبر نصب خيمة جديدة، لكن عدم توفر مياه الشرب ومياه الخدمة، واضطراره لقطع مسافة أكثر من 3 كيلومترات يومياً لتعبئة غالون بسعة 18 لتراً، هو ما جعله يقرر العودة إلى منطقة نزوحه في دير البلح.
يقول الكفارنة: “عندما سُمح لنا بالعودة إلى مناطقنا، خرجت من ساعات الفجر الأولى متوجهاً عبر شارع الرشيد الساحلي، مشيت مع أطفالي لمسافة 9 كيلومترات حتى وصلنا إلى مدينة غزة، ومن هناك استقللنا عربة يجرها حمار، للوصول إلى بيت حانون. لكن بعد ثلاثة أيام فقط، اضطررنا للعودة مجدداً إلى دير البلح بسبب انعدام الخدمات الأساسية تماماً”.
لم يجد الكفارنة أي جهة تقدّم له خيمة ليُقيم فيها، ولا مياهاً مياه صالحة للشرب، ولا حتى مساعدات إغاثية عاجلة، وهو ما دفعه للعودة إلى خيمته في دير البلح، حيث الظروف لا تقل سوءاً، لكنها على الأقل أكثر استقراراً.
في بيت لاهيا، المجاورة لبيت حانون، عاد علاء العطار مشياً على قدميه إلى منطقته فور سماح الجيش الإسرائيلي للنازحين بالعودة إلى الشمال. قبل الحرب، كان العطار يعيش في منزل تبلغ مساحته 180 متراً، تُحيط به حديقة مساحتها 200 متر، مزروعة بأشجار التفاح والعنب والبرتقال والليمون.
لكن عند عودته، لم يجد منزله، ولا حتى شجرة واحدة من حديقته التي اعتنى بها لسنوات، فقد دمرت آلة الحرب الإسرائيلية كل شيء، ليجد العطار نفسه أمام صدمة فقدان منزله الذي عاش فيه 25 عاماً مع زوجته وأبنائه.
لم يكن منزل العطار هو الوحيد المدمر في بيت لاهيا، إذ قصف الاحتلال الإسرائيلي آلاف المنازل وجرف أخرى، لدرجة أن أصحابها لم يتمكّنوا من التعرّف على مواقعها بفعل طمس معالم الأماكن الذي أحدثه الدمار.
يوم واحد فقط أمضاه العطار مع عائلته فوق أنقاض منزلهم في بيت لاهيا، قبل أن يقرر العودة إلى خيمته في منطقة المواصي في خان يونس، حيث باتت المنطقة الملجأ الوحيد له ولآلاف العائدين الذين لم يجدوا أي شكل من أشكال الإغاثة بعد عودتهم.
تساءل العطار عن الوعود الدولية بالإغاثة العاجلة، التي كان من المفترض أن تكون في انتظاره عند عودته، لكنه لم يجد أجوبة، ولم يحصل على خيمة، أو بيت متنقل، أو مياه للشرب، ليس العطار وحده من يثير هذه التساؤلات، فآلاف العائدين إلى شمال القطاع يكررونها، بعدما وجدوا أنفسهم وحيدين في مواجهة واقع مأساوي، بلا مأوى ولا ماء ولا غذاء ولا خدمات إنسانية أساسية.
إقرأوا أيضاً: